هل يزداد البشر طولاً؟
يجب أن يكون الجلد مرناً كفاية للقفز، الزحف، والركل معنا. كذلك يلزم أن يكون ثابتاً كفاية ليتحمل السقطات، والخدوش، والجروح. ويقف العلماء مذهولين أمام قوة الجلد منذ سنوات من دون أن يعرفوا سبب متانته. تحول الجنس البشري في آخر قرن ونصف وفق تقرير عُرض على قناة {بي بي سي}. ارتفع عدد سكان العالم من مليار نسمة تقريباً إلى أكثر من سبعة مليارات. وفي البلدان المتطورة، ارتفع متوسط العمر المتوقع بنسبة قياسية من 45 سنة في منتصف القرن التاسع عشر إلى 80 سنة اليوم. حتى أننا تغيرنا من الناحية الجسدية: اليوم، أصبح جزء كبير من البشر أطول من أي وقت مضى!
لكنّ ظاهرة زيادة الطول في الولايات المتحدة لم تواكب الوتيرة المسجلة في أوروبا.
لكنّ ظاهرة زيادة الطول في الولايات المتحدة لم تواكب الوتيرة المسجلة في أوروبا.
زاد متوسط طول الإنسان في البلدان الصناعية، بدءاً من بريطانيا مروراً بالولايات المتحدة وصولاً إلى اليابان، بمعدل 10 سنتم. لكن في ما يخص زيادة الطول خلال آخر 150 سنة، يتفوق بلد واحد على جميع البلدان الأخرى. اليوم، يبلغ متوسط طول الرجال والنساء الهولنديين نحو 188 سنتم و170 سنتم على التوالي، ما يعني زيادة طولهم بمعدل 20 سنتم مقارنةً بالأرقام التي سجلها نظراؤهم في منتصف القرن التاسع عشر. يقول جون كوملوس، أستاذ فخري في التاريخ الاقتصادي في جامعة ميونيخ: {إنه رقم صادم للناس}. لماذا زاد طول البشر عموماً والهولنديين خصوصاً؟ هل من مؤشر على استمرار هذه النزعة أو حتى انتهائها؟ هل سينظر أحفادنا المقيمون في المحطات الفضائية أو في عوالم أخرى إلى أسلافهم على كوكب الأرض فيبدون لهم أشبه بأقزام مقارنةً بهم؟
انعكاسات على الجسم هذا النوع من الأسئلة ألهم كوملوس خلال الثمانينات حين كان رائداً في مجال التاريخ الأنثروبومتري. يستكشف هذا المجال كيف تتفاوت الاختلافات في قامة البشر بحسب الظروف الاقتصادية والاجتماعية. بحث كوملوس على وجه التحديد في أرشيف السجلات العسكرية الحكومية التي كانت تتعقب طول قامة الجنود لاستكشاف الرابط بين هذه العوامل. كشفت الأبحاث أن التقلبات الموضوعية في طول البشر ترصد عن قرب التغيرات المسجلة على مستوى عاملَين: الحمية الغذائية والمرض، وتحديداً حين ينشط هذان العاملان خلال الطفولة. إذا لم يحصل الأولاد على غذاء كافٍ أو لم يتمكنوا من امتصاص المغذيات اللازمة بسبب مرض الإسهال مثلاً، يتراجع احتمال أن يبلغوا أعلى مستويات الطول في سن الرشد. يقول ويليام ليونارد، أستاذ أنثروبولوجيا في جامعة نورث وسترن في إلينوي: {باختصار، ثمة عوامل أساسية وراء زيادة طول الراشدين، وهي تتعلق بتحسن التغذية والصحة وتحسن نوعية الحياة بشكل عام}. يعج التاريخ بأمثلة عن هذا الرابط بين الطول والصحة. في أواخر العصور الوسطى في أوروبا الغربية، بعد أن قضى الطاعون الأسود على 60% تقريباً من السكان، لاحظ الناجون أنهم يستطيعون الحصول على كمية وافرة من الغذاء وأنّ ظروف حياتهم تحسنت، وقد ساهم هذان العاملان في السيطرة على نطاق انتشار المرض. لذا كانت زيادة طول الناس ممكنة نسبياً، علماً أن الرجال الإنكليز هم أقصر بأربع سنتيمترات فقط من نظرائهم اليوم. لكن خلال القرن السابع عشر، بلغ طول البشر أدنى مستوياته في أوروبا. اقتصر طول الشخص الفرنسي حينها على 162 سنتم. أدت فصول الشتاء الباردة بسبب العصر الجليدي الصغير إلى تراجع المحاصيل الزراعية. ثم اندلع الصراع على جميع الجبهات، بدءاً من الحرب الأهلية الإنكليزية وصولاً إلى حروب لويس الرابع عشر في فرنسا وحرب الثلاثين سنة في البلد الذي حمل لاحقاً اسم ألمانيا. يقول كوملوس: {مزقت أوروبا نفسها خلال القرن السابع عشر}. خلال القرن الثامن عشر، أدت الثورة الصناعية التي شهدت تجمّع الناس في أحياء فقيرة تستفحل فيها الأمراض داخل المدن إلى توقف نمو الناس. لكن في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، أعطت الانتفاضة الاجتماعية ثمارها، فتحسن الإنتاج الزراعي والمياه الجارية ونظام الصرف الصحي في المدن، كما توسّع نطاق الازدهار الاقتصادي. فنما سكان أوروبا الغربية بنسبة لافتة واستمر هذا الوضع طوال عقود. لا يزال هذا الرابط القائم بين الطول والصحة واضحاً بشدة اليوم. إذا أردنا ذكر مثال معاصر على ذلك، يكفي أن ننظر إلى كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية. تحتل كوريا الشمالية المرتبة 188 من أصل 195 بلداً على مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة، وهو قياس لمتوسط العمر المتوقع والمدخول ومستوى التعليم. يتراجع طول الراشدين في كوريا الشمالية بمعدل 3 إلى 8 سنتم مقارنةً بنظرائهم في كوريا الجنوبية التي تحتل المرتبة 15 على مؤشر التنمية البشرية منذ عام 2014. لكن في بعض البلدان الصناعية، وتحديداً الولايات المتحدة، حافظت نسبة زيادة الطول منذ القرن التاسع عشر على مستوى ثابت. ومنذ الحرب الثورية في القرن الثامن عشر وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية في منتصف القرن العشرين، تفوق الأميركيون على نظرائهم في الدول الصناعية الأخرى. أما اليوم، فيبلغ طول الرجل الأميركي العادي نحو 176 سنتم ويبلغ طول المرأة الأميركية 163 سنتم، وهو الطول نفسه الذي سجّلته جماعات الهيبي التي كانت تحضر مهرجان وودستوك الشهير منذ 45 سنة. هذا ما يجعل طول الفرد الأميركي أقل بكثير من الشخص الهولندي المعاصر. يقول ليونارد: {لا يختلف متوسط الطول في الولايات المتحدة كثيراً عن ما كان عليه بين منتصف وأواخر السبعينات، أو حتى في أواخر الستينات. نحن نتحدث عن 40 أو 50 سنة من الطول الثابت نسبياً}. ما الذي جعل سكان أوروبا الشمالية يتفوقون في هذا المجال؟ يظن كوملوس أن اللامساواة في توفير الغذاء والرعاية الصحية في الولايات المتحدة، مقارنةً بالأنظمة التي تتخذ طابعاً اجتماعياً أوسع في الدول الأوروبية المتقدمة، هي التي أحدثت هذا الفرق. يفتقر ملايين الأميركيين إلى التأمين الصحي وهم لا يقصدون الأطباء بانتظام. ولا تحصل النساء الحوامل على مساعدة كبرى في مختلف الولايات. لكن في هولندا، تتلقى النساء زيارات دورية من الممرضات مجاناً. كذلك، من المعروف أن ثلث الأميركيين بدينون ويعود ذلك جزئياً إلى الإفراط في تناول المأكولات السريعة. يمكن أن تحذف المأكولات المصنعة والغنية بالسعرات الحرارية سنتيمترات من طول المستهلكين، وذلك بسبب نشوء مشاكل على مستوى النمو والأيض. يوضح كوملوس: {بكل بساطة، لن يصل الناس إلى مستوى طول الهولنديين بفضل المشروبات الغازية والبرغر وأطباق ماكدونالدز}. التأثير الجيني حتى الآن، دققنا بموضوع الغذاء ولم نتطرق إلى دور الطبيعة على مستوى الطول. لكن كما يحصل مع معظم الخصائص البشرية، تلعب العوامل الوراثية دوراً بالغ الأهمية. غالباً ما تنجب الثنائيات الطويلة أولاداً طويلي القامة. مع ذلك، لا يمكن نسب الزيادات الأخيرة في طول البشر لدى شعوب معينة إلى نزعة تطورية ترتكز على انتقاء الجينات الأكثر طولاً. انطلاقاً من وجهة نظر داروين عن الكائنات التي تنجب كثيراً، يحصل العكس مع الإنسان العاقل المعاصر. تميل العائلات الفقيرة التي لا تتمتع بصحة جيدة وتكون أقصر قامة من غيرها إلى إنجاب الأولاد أكثر من العائلات الميسورة. النيجر هي واحدة من أفقر دول العالم وأقلّها تطوراً لكنها تسجل أعلى نسبة خصوبة في العالم، إذ تحمل المرأة فيها أكثر من سبعة أولاد. يقول ليونارد: {عند النظر إلى الوضع العام، يتضح أن معظم الاختلافات في الطول تنجم عن التفاوت في المكانة الاجتماعية والاقتصادية ونوعية التغذية}. بدل الاتكال على الانتقاء الطبيعي، يرتبط الطول القياسي الراهن من وجهة نظر وراثية بالجينات التي تتلقى كل ما ترغب فيه كي تحقق أعلى مستويات النمو. يوضح ليونارد: {تنجم التغيرات الكبرى التي شهدناها خلال آخر قرن ونصف عن تمكن الناس اليوم من تحقيق أقصى قدراتهم الوراثية من حيث الطول، أو الاقتراب من تلك القدرات على الأقل، مقارنةً بما كان عليه الوضع سابقاً}. يقول كوملوس: {الدرس الأهم الذي يمكن استخلاصه هو أن البيئة تترك بصمتها على جسم الإنسان. لا يقتصر الأمر على العامل الوراثي}. جاذبية الطول تجدر الإشارة إلى أن الطول هو مؤشر جاذبية في ثقافات كثيرة. يُعتبر الطول أيضاً مقياساً موثوقاً على نحو مدهش لقدرات كسب المال. وجدت دراسة شائعة جرت في عام 2004 أن كل إنش إضافي فوق معدل الطول الطبيعي يعني أن الشخص يمكن أن يتوقع كسب 789 دولاراً إضافياً مقابل كل سنة عمل (أي نحو 976 دولاراً وفق قيمة المال الراهنة). لكنّ منفعة الطول هذه لا تستمر. ما من رابط واضح بين الطول والصحة، إلا في حالة الرياضيين وعارضي الأزياء المشهورين. ولا يكون الرؤساء التنفيذيون الذين يملكون الملايين عمالقة بأي شكل. يعتبر كوملوس أن جاذبية الشخص تبدأ بالتراجع مع الاقتراب من مستوى 190 سنتم لأن الناس ينتقلون في هذه الحالة من الجاذبية إلى الغرابة بدل أن يكون الطول نعمة، قد يصبح لعنة فعلية إذا كان مفرطاً. يضطر الشخص الهزيل وطويل القامة إلى الانحناء للمرور عبر الأبواب ويجد صعوبة في دخول السيارات. ويميل الأشخاص الأكثر طولاً إلى التعرض لأمراض معينة أيضاً، فقد يواجهون مشاكل في المفاصل وفي القلب والأوعية الدموية. يُعتبر روبرت وادلو أطول رجل عاش يوماً وهو خير مثال على ذلك. فقد جعله اضطراب في الغدة النخامية يصل إلى طول مترين و72 سنتم. كان يضطر إلى ارتداء مشدّ للساقين مع التقدم في السن كي يتمكن من المشي. وأدى التهاب أحد التقرّحات بسبب استعمال مشدّ غير مناسب إلى وفاة وادلو عن عمر 22 سنة. نظراً إلى هذه الاعتبارات والسجل التاريخي الحديث عن زيادات الطول، يظن كوملوس أن الجنس البشري بلغ على الأرجح أعلى مستوياته: {بالنسبة إلي، يعطي الهولنديون أقصى ما يمكن توقّعه من البشر. هم طويلو القامة بقدر ما يمكن أن يبلغه أي شخص في أفضل الظروف}. يوافقه ليونارد الرأي: {أظن أن سكان البلدان الصناعية يقتربون من بلوغ أقصى قدراتهم الوراثية}. معدلات طول جديدة إذا كنا قد بلغنا أعلى مستويات الطول على كوكب الأرض، ماذا عن الوضع السائد خارج نطاق الأرض؟ هل يمكن أن يصبح المقيمون في الفضاء أو في عوالم أخرى أطول من سكان الأرض التقليديين؟ يظهر هذا المفهوم المرتبط بأسلوب الحياة خارج كوكب الأرض في مجال الخيال العلمي بشكل متكرر. في ثلاثية {المريخ} (Mars) التي حصدت جوائز كثيرة للكاتب كيم ستانلي روبنسون مثلاً، يستعمر البشر الكوكب الأحمر. وبما أن جاذبية المريخ تبلغ 38% فقط من جاذبية الأرض، سيتفوق البشر الذين يولدون ويكبرون في المريخ على طول أجدادهم خلال جيلَين تقريباً. لن نعلم ما سيحدث تحديداً إلى أن نهبط في مكان آخر، لكن يعطينا رواد الفضاء أفضل لمحة عن ما يمكن أن يحصل لنا خارج الأرض. عند العيش لبضعة أشهر داخل محطة فضاء دولية وسط انعدام الوزن، يصبح البشر أطول ببضع سنتيمترات، لكن يحصل ذلك موقتاً: يتلاشى الطول الإضافي بعد بضعة أيام من العودة إلى كوكب الأرض. تُسجَّل زيادة الطول لأن أقراص العمود الفقري الهلامية لدى رواد الفضاء تمتلئ بالسائل وتتوسع. في العادة، يؤدي الوقوف وسط جاذبية الأرض النموذجية إلى ضغط تلك الأقراص. وبما أننا ننام بشكل أفقي ليلاً، نكون أطول قليلاً حين نستيقظ بسبب امتلاء أقراص العمود الفقري بذلك السائل. تقول جان سيبونجا من {برنامج البحوث البشرية} في وكالة {ناسا}: {حين نتجول في الصباح، نخضع لقوة الجاذبية وتبدأ تلك الأقراص بفقدان جزء من السائل}. تدرس سيبونجا وزملاؤها هذه التغيرات في العمود الفقري لمعرفة ما إذا كانت مضرة على المدى الطويل. كل ما نعرفه حتى الآن هو أن رواد الفضاء يشعرون بألم في الظهر في معظم الحالات، وترتبط المشكلة على الأرجح بعدم انضغاط عمودهم الفقري كما يحصل في الحالات الطبيعية. لن يكون الوضع على المريخ، بجاذبيته المرتفعة مقارنةً بمحطة الفضاء الدولية، سيئاً بالقدر نفسه. لكن مجدداً، سيسعى المستعمرون على الأرجح إلى العيش على الكوكب الأحمر بشكل دائم. قد يعاني هؤلاء المقيمون الشجعان من ألم الظهر نتيجةً لذلك. لكن قد تبدو هذه الأوجاع سخيفة مقارنةً بالمشاكل الصحية الأخرى المرتبطة بتراجع الجاذبية، بما في ذلك فقدان كتلة العظام واختلال أنظمة الغدد الصماء. بدل التحول إلى عمالقة، قد يصبح سكان المريخ ضعفاء بعض الشيء. هذا التوقع مدعوم من دراسات ليونارد عن سكان الأرض المقيمين في بيئات متطرفة مثل المناطق المرتفعة في جبال الأنديز أو في سيبيريا القطبية المتجمدة. بحسب رأي ليونارد، تدفع هذه الظروف الصعبة الجسم إلى استعمال جزء أكبر من طاقته لصيانة نفسه بدل النمو. لذا لا يكون المقيمون في هذه المناطق طويلي القامة عموماً. لا شك أن استعمار كوكب جديد بالكامل سيكون عملاً شاقاً. المريخ هو عبارة عن صحراء متجمدة تفتقر إلى الهواء الذي يمكن تنفّسه. يجب أن يتم إنتاج الغذاء والعيش داخل الملاجئ. كذلك، يكون اليوم على المريخ أطول من مدة اليوم على الأرض، ما يؤدي إلى اضطراب ساعتنا البيولوجية المترسخة والمنظمة التي تكون معتادة على دورة مدتها 24 ساعة. يوضح ليونارد: {هذا الوضع سيُحدِث فوضى عارمة حتماً}. عند التخلي عن وسائل الراحة المتوافرة على الأرض، سيتراجع طول سكان المريخ أو سكان الفضاء عموماً مقارنةً بنظرائهم الذين ينعمون بظروف مريحة على كوكب الأرض. يقول ليونارد: {عند مقاربة الوضع من جميع الجوانب، أظن أن حجم الناس قد يتقلص بدل أن يزيد على المريخ}.