ميراي يونس في «أسرار العصافير»...محابرها أعشاش وأسرار عصافيرها أناشيد

نشر في 10-09-2014 | 00:01
آخر تحديث 10-09-2014 | 00:01
No Image Caption
أهدت ميراي يونس أسرار عصافيرها إلى وحيدتها «لين»، التي علّمتها صناعة الحياة والحلم بعدما أهدت إليها نَوْل الفرح، «إلى من حثّتني على ارتكاب الحياة والحلم، إلى أميرتي لين».
تجربة النصوص القصيرة تجربة بالمعنيين، فإمّا أن تأتي بمنّ الكتابة وسلواها لكاتبها، وإمّا أن تكون خطيئة كتابيّة. وذلك، لأنّ النصّ القصير مطالَب بأن يقول الكثير بقليل من اللغة باعتباره نصّاً مكتفياً بذاته، وكم من الأدباء والشعراء قد خذلهم قِصَر النصّ لأنّهم عجزوا عن أن يضعوا الربيع كلّه في أصغر زهرة من أزهاره.

في جديدها «أسرار العصافير» لم تدَّع الأديبة اللبنانية ميراي يونس أنّها ذات موهبة وقلم خبير في صناعة الجمال، إنّما تكتفي بالبوح للبوح كما أنّ العصافير تزقزق لتطرب أجنحتها والمناقير، لا لتضع على جباهها تيجان الربيع. والكتّاب، أحيانًا، من عناوينهم تعرفونهم، فالعنوان يختصر الكاتبة وكتابها، فما هي سوى عصفورة آدميّة، ترضى بأن تجود على الحياة بأسرار صغيرة تقولها اللغة وكم من الأسرار ما يباح به ويبقى سرًّا.

تمدّ يونس أغصان لغتها في بداية كتابها للعصافير، قاطفة من أجنحتها باقة من المعاني، ومنها ما فيه عتبٌ أبيض على الطّير التي استعمرت الغابة شجرة بعد أخرى، وكأنّ غدر الإنسان تسلّل إلى ريشها لتصير شريكته في الخطيئة: «نقّلتِ ظلَّكِ شجرة فأخرى، استوطنتِ غابة، سطوتِ عليها. متى تعلَّمتِ يا طير غدر البشر؟!

وممّا لا شكّ فيه، أنّ البعد الإنساني حاضرٌ في نصوص يونس كلّها، فهي تكتب الحياة بمجاز بسيط يشبهها، فلا تركب بحار الخيال البعيد، ولا تؤدّي استعراضات في ساحات البلاغة، إنّما تنساب لغتها بهدوء فتمشي على رؤوس أصابعها خشية أن توقظ العصافير النائمة.

وبين العصفور والجبل تنسج يونس حواراً قصيراً، تظهر من خلاله أنّ الصلابة تحتاج إلى الضعف، أحيانًا، لتحتفظ بتوازنها، وكم من إنسانٍ جبلٍ يحتاج إلى إنسانٍ عصفورٍ ليشعر بنشوة ارتفاعه وقدرته على البقاء: «قال العصفور للجبل: أشعر بالدوار وأنا على كتفيك، سأهبط إلى السهل. ردّ الجبل: إيّاك أن تتحرّك، إن ترحلْ، أفقدُ توازني، أزحلْ.»

جدلية مؤلمة

وبين البداية والنهاية تختصر يونس جدليّة مؤلمة، وتتّخذ رموزها من اللغة، فالألف وحدها تصلح للتجذيف باتجاه الياء، ولا بدّ من ألم البدايات للوصول إلى قفير الفرح في صدور النهايات: «سلكتُ درب الأبجديّة. تعثّرتُ. اتّكأتُ على عصا الألف، فأوصلتني إلى الياء». ويحضر هاجس الموت، ويمدّ ظلَّه بين البداية والنهاية، فتعلو في محبرة يونس شجرة السرو، الشجرة التي تقول الموت والحياة: الموت بجذورها التي تمتدّ تحت تراب المقابر، والحياة برأسها الذي هو مع السماء على عناق، وفي هذا المشهد نغدو جميعنا سَرْواً: «لماذا يثير فيّ السرو حنينًا إلى الموت، ألأنّ جذوره ضاربة في المقابر وهامته تعانق السماء؟ أتخيّلني سروة.»

وعلى بساط الحبّ تنثر يونس ذاتها أوراقَ ورد، فحبيبُها عقيدة عاطفيّة ولا نقاش في العقائد، إلاّ أنّ رحيله لا تعطّره يونس بدمعة من دمعاتها، كي لا يترك الدمع جرحاً في طيفه الساكن عينيها: «لن أبكي إن شئت ترحل. أخاف يجرح دمعي طيفَك الساكن مقلتيَّ.» وأمام جدليّة الفراغ والامتلاء، يصير الامتلاء بمشيئة العاطفة التي تقول له: كن فيكون. ويكفي الأصابع أن تملأها نعمة العناق لتكون ذات قصور خرافيّة لا تبنى إلاّ في اتّساع القلوب: «أصابعي الفارغة، إلاّ من عناق يديك، تملك الكثير». والحبّ اليونسيّ يقيم خارج أسوار اللغة، وبعيداً من ثقل دم العقل، ليس فيه كلمة تفسّر، ولا إجابة تشرح، لأنّ الحبّ الذي يستعين باللغة ليبرّر حضوره يكون ميتاً، عبثاً يحبث عن كلمة تحييه: «يوم نبدأ بالبحث عن الكلمات، والإجابات، يكون قد رحل، أو نحن ارتحلنا. تذكَّرْ».

لا تتّقي يونس ألم المفاجأة في خيام الحبّ، فهي تصرّح بأنّ الحبّ كالورد قصير عمر، وليس فيه من الجمر ما يكفي ليميته ألف مرّة ويبعثه ألف مرّة حيّاً، إلاّ أنّه لا يصير تراباً بعد نهايته، لكنّه ينتقل إلى ضفّة الصداقة وقد تكون الصداقة أطول العلاقات الإنسانيّة عمراً على صعوبة شروطها: «لا أظنّ نبقى حبيبين مدى الحياة. لكنّنا سنكون أفضل صديقين»... وللحبّ رحيق الانتماء، فرجل ميراي هو بعض من وطن أيضاً، لذلك تُلبسه عباءة تشبيه لبناني، إذ إنّه أكثر رحيقاً من ياسمين دمشق، وأسخى زيتاً من زيتون تونس، وفيه من السكّر ما ليس في ليمون عكّا، وله من القطر ما ليس لتمر العراق، وعليه، فإنّه يرتفع على صلابة في صدر أرزة لبنانية: «لا تشبه أنت، لا الياسمين الدمشقيّ، ولا زيتون تونس، ولا ليمون عكّا، ولا تمر العراق. أنت أجمل وأبهى، أنت أرزة من لبنان». وحين يحلّ الضعف ضيفاً ثقيلاً على قلب يونس، لا تجد بئراً ذات ماء يعيد نزق الروح سوى بئر العاطفة، فتنادي حبيبها بقلب يحبّه أكثر: «ضعفتُ. ضاعفتُ حبّي لك». ولا تدير يونس ظهرها للحزن، إنّها تدعوه إلى وليمة الحبّ، لأنّها تؤمن بالمعجزات، لا سيّما معجزة تحويل الألم فرحاً، وهل لغير الحبّ أن يبحث عن ضحكة في دمعة فيجدها؟! وهل أجمل من الوفاء لحزن الماضي، ذلك الحزن الذي هو أشهى من ألف فرح لم يذق الحبّ يومًا: «تعال نحتفل بوليمة الحزن تلك، وهل أشهى من ذكريات عُجنت بالدمع؟ لا يلزمنا إلاّ القليل لنحوّل الآلام أفراحاً. هات يدك. ابتسمْ وقبِّلني. قُضي الأمر!».

موشومة بكآبة

ومن أسرار عصافير يونس ما هو موشوم بالكآبة، لأسباب تعود إلى اللاأسباب: «أنا امرأة حزينة... بالفطرة». ولأسباب تُخْتَصر بالحياة: «يسكنني ألم مزمن اسمه... الحياة!». ويونس لا تتجنّب الاعتراف بأن أجزاء أجسادنا تصير قبوراً لأجزاء أخرى فنخشى أن يسقط منّا ترابنا ونحن على قيد الحياة: «متعبة أنا، أسير بخطو بطيء. يثقلني حمل نصفي الجثّة». ولا ترتاح يونس لصيغة الجمع، أحيانًا، لأنّ المفرد المتألّم أكثر عبقريّة في إعلان ألمه: «لمَ نتحدّث عن خيبات بصيغة «الجمع»، والعمر بطوله... خيبة». والمشكلة هي ليست في الأرض، لأنّ كلّ ما عليها جميل، وهي تستحقّ أن نسمّيها سماءً، غير أنّ الإنسان هو الجحيم بحدّ ذاته، لكن هل تصلح جنّة للسّكن بلا هذا الجحيم؟: «الأرض جنّة، والبشر جحيم».

نجحت ميراي يونس في نقل أسرار عصافيرها إلى قرّائها، لأنّها لم تسلّمهم لمتاهة التأويل، فهي أدّت جملة تكتسب جمالها ممّا فيها من بساطة لا يتقنها إلاّ صاحب الخبرة والتجربة العارف ماذا يريد من لغته.

أسرار عصافير يونس أناشيد تمجّد الجمال بهدوء موسيقاها العميق.

back to top