سارقو الرمل شواطئ العالم ضحية البناء...
بدأ الرمل يصبح نادراً لدرجة أن سرقته باتت نموذجاً جاذباً في قطاع الأعمال. مع بناء الأبراج السكنية بمستويات عالية على نحو استثنائي واستمرار التنمية بوتيرة متسارعة في آسيا وإفريقيا، لا يمكن إشباع الطلب المتزايد على هذا المورد الأساسي. {شبيغل} تسلّط الضوء على المسألة.
يحضر الناس إلى هذا المكان خلال الساعات القليلة التي تشهد تراجع البحر وانكشاف كنزه العميق. في البداية، يشبهون النمل أو يبدون كنقاط صغيرة على منحدر الجبل، لكن سرعان ما تتقارب الجماعة المؤلفة على الأرجح من مئة شخص. يحمل الرجال المعاول وتحمل النساء الأوعية. يحضرون لسرقة رمال كاب فيردي.قفز شاب في المحيط وقطع بضعة أمتار. ارتفع مستوى الماء ووصل حتى صدره. ثم غاص في عمق الماء وحين عاد إلى السطح، تساقطت رمال وافرة من معوله.راح يغرف الرمل بكل حماسة ويضعه في دلو كانت تحمله امرأة تنتظر بالقرب منه. حين حملت الدلو الثقيل على رأسها، توقفت لبرهة وأغمضت عينيها. اصطدمت بها موجة من الخلف وغمرتها. حين مرت الموجة، شدّت على أسنانها وبدأت تعود إلى الشاطئ.يتحرك سارقو الرمل بسرعة فائقة. يدوم الجزر هنا لست ساعات وهم يستطيعون جرف الرمال خلال المد المنخفض حصراً. يقل عدد الأشخاص الذين يجيدون السباحة في هذا المكان، وقد تطرح هذه المهمة خطراً على حياة الناس حتى لو كان المد منخفضاً لأن الأمواج تتكسر فوق رؤوسهم وتمر التيارات تحت أقدامهم.اختفاء الرمالاختفت الرمال منذ فترة طويلة عن الشواطئ التي يرتفع فيها المد، ولم يبق هناك إلا الأوساخ والحجارة لرسم حدود الشاطئ. حين اختفى الرمل عن الشاطئ، بدأ الناس يغوصون في الماء لاستخراجه. منذ ذلك الحين، راحوا يستنزفون رمال جزيرتهم، دلواً تلو الآخر.تتألف كاب فيردي الصغيرة والواقعة على بُعد 600 كلم غرب السنغال من تسع جزر غير مسكونة في المحيط الأطلسي المؤلف من البراكين. إنها أرض مخادعة حيث تنمو أشجار البابايا والمانغا والأناناس بين الأخاديد. تشرق الشمس هناك على مدار السنة وتشكّل مياه الأطلسي رغوة على السواحل وتدفن السلاحف النادرة بيضها على الشواطئ. تُعتبر كاب فيردي إحدى المناطق الأكثر أماناً واستقراراً في إفريقيا. لا شك في أنها كانت لتصبح وجهة يحلم بها السياح لو أن سكان كاب فيردي لا يُمعِنون في تدمير شواطئهم.ثمة شواطئ سليمة طبعاً في كاب فيردي: إنها الأماكن التي تشمل فنادق فخمة تستضيف ضيوفاً من إيطاليا وألمانيا والبرتغال. لكن في مناطق أخرى، بدأت الشواطئ تختفي.مشكلة عالميةلا تنحصر ظاهرة اختفاء الشواطئ في كاب فيردي. مع ارتفاع الطلب على الرمل أكثر من أي وقت مضى، يمكن رصد هذه الظاهرة في معظم أجزاء العالم، بما في ذلك كينيا ونيوزيلندا وجامايكا والمغرب. باختصار، بدأت شواطئنا تختفي. يقول روبرت يونغ، باحث متخصص بالسواحل في جامعة كارولينا الغربية: {إنه الأمر الأكثر جنوناً في السنوات الـ 25 الماضية. نحن نتحدث عن مساحات قاحلة وبشعة وشاسعة حيث اندثرت جميع معالم الحياة}.بعدما كان الرمل على شواطئ محيطاتنا رمزاً للامحدودية، تحول فجأةً إلى عملة نادرة. بل بات نادراً لدرجة أن سرقته أصبحت ظاهرة جاذبة.لم يسبق أن عرفت الأرض موجة الازدهار التي تشهدها اليوم، إذ تحقق بلدان مثل الصين والهند والبرازيل ازدهاراً لافتاً. لكن يعني ذلك، أيضاً، أن الطلب على الرمل لم يسبق أن كان مرتفعاً جداً. يُستعمل لإنتاج رقائق الحواسيب والصفائح والهواتف الخليوية. لكنّه يُستعمل بشكل أساسي لصنع الإسمنت. يمكن إيجاده في ناطحات السحاب في شنغهاي، وفي الجزر الاصطناعية في دبي، وعلى الطرقات السريعة في ألمانيا.مثل النفط...في عام 2012، استخرجت ألمانيا وحدها 235 مليون طن من الرمال والحصى، وقد خُصص 95% منها لقطاع البناء. تشير تقديرات برنامج البيئة التابع للأمم المتحدة إلى أن الاستهلاك العالمي يبلغ ما معدله 40 مليار طن في السنة، ويُستعمل ما يقارب 30 مليار طن منه لصنع الإسمنت، وهي كمية كافية لبناء دائرة جدارية بحجم 27 متراً. {بات إيقاع استخراج الرمال الآن أسرع من إيقاع تجددها}، بحسب تقرير برنامج البيئة في مارس 2014: {لقد أصبح الرمل نادراً أكثر مما يظن الجميع}.يوضح كلاوس شوارزر، عالم جيولوجيا في جامعة كيل الألمانية: {الرمل أشبه بالنفط. إنه مورد محدود جداً}. يضيف يونغ من جامعة كارولينا الغربية: {إذا لم نكن حذرين، سينفذ الرمل}.دروس مستخلصة من كاب فيرديبدأ سكان كاب فيردي يكتشفون بالطريقة الصعبة ما يمكن أن يحدث حين يبدأ الرمل بالاختفاء.في بلدة ريبيرا دا باركا الصغيرة التي يأتي منها سارقو الرمال، يركن الصيادون مراكبهم في الشوارع. على بُعد بضع خطوات، وقف مسؤول البلدة خيرونيمو أوليفيرا على الشاطئ وكان يشبك يديه وراء ظهره. فحاول شرح مسار الوضع حتى الآن.يتذكر أوليفيرا أنه كان يستطيع اللعب على الشاطئ حين كان في السادسة من عمره تقريباً. أما اليوم، فاستُبدلت الرمال السوداء بمياه المحيط. تظهر بقايا جدار بين الأمواج.كان الرمل يحمي البلدة من الماء وكأنه سد منيع. لكن حين بدأ حجم الشاطئ يتقلص، سحب المحيط ما تبقى من الرمال بوتيرة أسرع، فكان يأخذ كمية إضافية مع كل موجة وعاصفة عابرة. اليوم، تُضعِف الأمواج أسس المنازل ويشتد هذا الأثر مع تصاعد مستوى البحر.مع تنامي المشكلة، طلب السكان المساعدة من الحكومة. لذا بُني جدار من الإسمنت على طول الشاطئ. هز أوليفيرا رأسه. يقول إنه لا يريد الدفاع عن سارقي الرمل، لكنه لا يريد إدانتهم في الوقت نفسه. يشرح أن 4 آلاف شخص يعيشون الآن في البلدة لكنّ عدد الناس الذين وجدوا وظيفة أقل من 20 شخصاً.فشل التنقيب غير الشرعيفي 2012، أصدرت منظمة {غلوبال ويتنس} البيئية صوراً فضائية تكشف مقاربة سنغافورة لتوسيع أرضها بنسبة 22% خلال الخمسين سنة الماضية. وفرت الجماعة أدلة على أن الرمل الذي استُعمل لتوسيع سنغافورة استُخرج من الدول المجاورة، مثل فيتنام وأندونيسيا وماليزيا، وقد تم استخراجه في بعض الحالات بطريقة غير شرعية. ثم أصدر بلد تلو الآخر قراراً بمنع استخراج الرمال. ردّت سفن التجريف في سنغافورة عبر التوجه نحو كمبوديا. فردّت العاصمة بنوم بنه بمنع صادرات الموارد.كذلك، يتم استخراج الرمل في كاب فيردي منذ 2002 ويقوم الجيش بدوريات في أجزاء من الساحل، منعاً لنشاطات التنقيب غير الشرعية. حتى أنهم يعتقلون سارقي الرمال أحياناً، لكن لم تنجح العقوبات كثيراً في وقف التجارة غير الشرعية حتى الآن.اعتُقلت كلاريس تافاريس بورخيس التي تطلق على نفسها اسم {ديتا} بتهمة سرقة الرمال. أمضت 24 ساعة في السجن مع خمس نساء أخريات. كانت تجلس على كرسي بلاستيكي في منزلها فيما راح الهواء يحرك الستائر. يمكن سماع صوت تكسر الأمواج الأطلسية عن بُعد. ثمة أوانٍ خزفية في خزانة على الجدار وبدت الأرض نظيفة. تقول المرأة التي تبلغ 38 سنة إنها لا تستطيع النهوض لأنها تعاني من ألم الظهر منذ سنوات. تجد ديتا صعوبة الآن في الانحناء لالتقاط الرمل وحمل الدلو.وقف ابناها (18 و11 سنة على التوالي) أمام المنزل وكانت طفلتها البالغة 18 شهراً تنام في سرير مزدوج تتقاسمه مع العائلة. تقول ديتا إنها تحلم بأن يحصل كل واحد منهم على سريره الخاص في أحد الأيام.في القرية التي تعيش فيها ديتا، يُعتبر استخراج الرمل من مهام النساء. يعمل الرجال كصيادين أو يثملون في الحانات. معظم نساء البلدة أمهات عازبات، بما في ذلك ديتا.هم يعيشون من بيع الخضار أو استخراج الرمل. كل صباح، تقطع النساء وبناتهن طرقات حجرية نحو المحيط. تقول ديتا إنهم يدركون جميعاً أن نشاطهم يضر بالقرية. حتى أنها لاحظت أن الماء التي يشربونها أصبحت أكثر ملوحة الآن وأن أشجار المانغا والبابايا بدأت تتقلص بسبب تسرب المياه المالحة.لا تقتصر على كاب فيردييشبه الرمل الوقود الأحفوري مثل الغاز الطبيعي أو الفحم أو النفط: تحتاج هذه الموارد إلى آلاف السنين كي تتشكل وإلى الوقت نفسه كي يُطحَن الصخر طبيعياً ويتحول إلى رمل، فتقوم الأنهار بغسل وتفتيت الصخور خلال رحلاتها الطويلة إلى البحر. لكن ينمو سكان العالم بوتيرة مستمرة، وبما أن الازدهار الاقتصادي بدأ في آسيا وإفريقيا، لم يعد الرمل يصل إلى المحيطات في بعض الأماكن. غالباً ما يتم استخراجه قبل وصوله إلى هناك.يمتد نهر الغانج على مسافة 2300 كلم في أنحاء الهند. يبدأ من جبال الهيمالايا وصولاً إلى بنغلادش وخليج البنغال. يمر بمدن هندية مثل مدينتَي كولكاتا (كالكوتا) وكانبور اللتين تنموان سريعاً ويرتفع فيهما الطلب على الرمل.مع صدور قوانين تمنع استخراج الرمل من الأنهار في أماكن عدة، أصبح الرمل سلعة مطلوبة في السوق السوداء. بالكاد يمر يوم من دون أن تكتب الصحف الهندية عن صفقات {مافيا الرمال}. يقول ديل: {نحن لن نسمع عن العواقب إلا حين تنهار مصانع النسيج في بنغلادش. الناس ما عادوا يبنون على الرمل هناك}. ومن دون الرمل، لا تعود الأرض ثابتة بما يكفي.لا تكون جميع أنواع الرمال متشابهة. لصنع الرقائق الصغرية والعدسات والزجاج، لا بد من توفير رمال الكوارتز النقية (من النوع الموجود في ألمانيا مثلاً). يستعمل قطاع البناء الحصى أيضاً، وهي تحتوي على حبيبات بحجم يتراوح بين 2 و63 ملم. يتم خلطها مع الطين والماء لصنع الإسمنت.في الصحراءقد يظن البعض أن شبه الجزيرة العربية، بكثبانها الرملية العالية، يُفترض أن تحتوي أكبر احتياطي، لكن لا يكون رمل الصحراء مناسباً لجميع الأغراض. يحتوي كمية وافرة من الطبشور والطين وأكسيد الحديد. تشمل البلدان كميات كبيرة من الطين، لكن تبرز الحاجة أيضاً إلى رمل بجودة عالية لإنتاج الإسمنت. تكمن المفارقة في واقع أن المنطقة الصحراوية تعاني نقصاً في الرمال.تريد الإمارات العربية متابعة مسار نموها عبر بناء ناطحات سحاب ضخمة وتوسيع المنطقة. تنشغل جميع طواقم البناء في دبي وقطر والبحرين بتشييد أطول الأبراج السكنية وأضخم المطارات في العالم. استصلحت دبي أرضاً عبر استعمال 385 مليون طن من الرمال لبناء مشروع {جزيرة النخلة} ثم تبعه مشروع آخر. يتم استكمال العمل الآن على مشروع لبناء أرخبيل اصطناعي اسمه {العالم}. تملك المملكة العربية السعودية المجاورة احتياطيات رمل وافرة، لكنها منعت بشكل متكرر توفير الإمدادات للدول المجاورة، ما أوقف عمل رافعات البناء.حتى ألمانيا، البلد الغني بالرمال، تستورد الموارد الطبيعية. يقول المسؤولون في {المعهد الفدرالي للعلوم الجيولوجية والموارد الطبيعية} في هانوفر إن ألمانيا تملك إمدادات رملية تكفيها لآلاف السنين. تكمن المشكلة في واقع أن الرمل لا يكون دوماً في متناول اليد: قد يكون موجوداً في محمية أو في الغابات أو بالقرب من مجالس البلدية. يقول ديل إن الأمر {يشبه توربينات الرياح}، فلا أحد يريد أن تتشكّل حفرة من الحصى في فناء داره.أجرى كلاوس شوارزر من جامعة كيل رحلات غوص في مواقع تشهد جرف الرمال في بحر البلطيق. مقابل ساحل جزيرة روغن في ألمانيا، اكتشف مزالق عميقة تعود إلى حقبة ألمانيا الشرقية وهي لم تستعد وضعها الطبيعي بعد، رغم مرور عقود عدة. يقول شوارزر: {مدة تعافي المناطق البحرية تدعو للدهشة}. لكن في بعض الأماكن، امتلأت الثقوب مجدداً خلال نصف عام}.الاستنزاف الرمليفي الجزء الشرقي من هامبورغ، يمكن رؤية الأماكن المتعددة التي كانت متشابهة في المنطقة. هناك، تتصل غابة صغيرة بممر حيث تبدأ القدمان بالغوص في الرمال، كما يحصل في الصحراء. كثبان {بوبيرجر} آخر كثبان رملي متحول في هامبورغ. جميع الرواسب الأخرى في المنطقة تم استنزافها تزامناً مع تنامي المدينة.يمكن رصد الظاهرة نفسها راهناً على جزر الكناري وفي الهند والبرازيل والصين، وحتى على جزر كاب فيردي الصغيرة. لكن في هذه الأيام، تحصل العملية بوتيرة أسرع بكثير.اتكأت كلمنتينا فورتادو على مقعد أمام جامعة دي كابو فيردي في برايا. بعدما درست في بلجيكا وفرنسا، أصبحت جزءاً من الجيل الجديد في بلدها، فهي متعلّمة ومتعددة اللغات والثقافات: {حين بدأنا نحاول السيطرة على الاستنزاف الرملي، كان الأوان قد فات. كانت الكمية التي استُنزفت كبيرة}.لطالما كان الشاطئ في بلدتها متقلصاً. ثمة حاويات ضخمة ومليئة بالنفايات في مكان الرمل سابقاً. كانت السلاحف تعيش على الشاطئ، لكنها اختفت منذ فترة طويلة. تقول فورتادو: {الأمر الجنوني أن رمل البحر ليس جيداً على نحو خاص}.قبل استعمال رمل مماثل في مشاريع البناء، يجب إزالة الملح منه بحذر وإلا سيذوب في الماء ويفسد قضبان الدعم الفولاذية. هذا ما يفسر مثلاً تعليق العمل موقتاً لبناء أطول ناطحة سحاب في شنجن الصينية. اشترى أصحاب العقارات المسؤولون عن بناء 15 مبنىً رملاً بحرياً رخيصاً من مصادر غير شرعية على الأرجح.يقول هارالد ديل: {في الحقيقة، ثمة ما يكفي من الرمل في العالم. كل ما نريده هو الحصول عليه بكلفة أقل}. بدأ الباحثون يفتشون عن بدائل محتملة، منها استعمال الزجاج الباهت أو هياكل البناء عبر استخدام مواد مختلفة بالكامل. في كاب فيردي، بدأوا يسحقون الصخر البركاني لكنّ هذه العملية تكلّف أكثر من الرمل الذي ينتجه مستخرجو الرمال. تقول فورتادو: {طالما يوفر البعض الرمال بسعر أرخص ثم يعمدون إلى تخفيض الكلفة أكثر بعد، لن تتوقف هذه الظاهرة}.في غضون ذلك، ثمة سبب واحد يفسر استمرار وجود كثبان {بوبيرجر} في هامبورغ: في عام 1927، لم يتم التوصل إلى اتفاق حول كلفة الرمل المناسبة.