عطر عذري

نشر في 06-12-2014 | 00:01
آخر تحديث 06-12-2014 | 00:01
No Image Caption
لم أستيقظ هذا اليوم مبكراً كعادتي، فمن طبيعتي كل يوم ثلاثاء أن أستغلّ النوم حتى منتصف النهار، أغطّ في نوم صباحي متّصل حتى الزوال، حالمة برؤى تبشر بالخير والسعادة، وما هي إلاّ لحظات اللازمن في نطاق النوم السابع حتى تهجم الكوابيس على الأحلام السعيدة لترغمها على الرحيل بعيداً متولّية تعذيبي وحرق أنفاسي المتصاعدة من صدري بإعياء. في إثرها أفتح عينيّ وأتثاءب عن عمد وتكلّف بالغين، كنت دوماً أرى أنني أعيش كالملكة المدلّلة، فلقد عانيت ما فيه الكفاية في طفولتي ومراهقتي، وها أنا أخطو الخطى نحو السادسة والثلاثين من العمر، ناجحة في حياتي، متألّقة، طموحة وحالمة، لا بدّ وأن هذا شيء رائع!!.

بوثبات منسحبة مني بغنج قصدت المطبخ بعدما غسلت وجهي لأرى ما يمكنني فعله لتناول الغداء؛ ففطور الصباح قد ولى منذ ساعات، ولكنني بدلاً من ذلك فضلت أن أتناول القهوة ممزوجة بالحليب مع خبز «المطلوع» الذي اشتريته يوم أمس وأنا عائدة من العمل... حملت صينية القهوة وقصدت الصالون، أشعلت التلفاز، بدأت أقلّب القنوات الفضائية نزولاً وصعوداً، حتى قررت أن أستمع إلى الأخبار على قناة «فرونس 24» بالعربية...

فلسطين تكتسب صفة دولة مراقب في الأمم المتحدة

قتلى وجرحى في انفجار عبوة في بيروت...

تواصل أزمة الحصار والمعاناة في قطاع غزة...

دخول المساعدات الدولية إلى حمص في سوريا وخرق الهدنة...

عدم توافق الأطراف على تشكيل الحكومة في تونس.

هززت رأسي بامتعاض ووجع باردين، لم نعد نحسّ بالآلام مع أنها آلام، ولكن حرارة وقعها ومرارة تجرّعها خفتتا وجمدتا، واستحالتا في قلوبنا حسرة ويأساً لا طعم ولا لون. غيّرت القناة مرّة أخرى وشدّتني الرسوم الكرتونية «السنافر»، فابتسمت ورحت أتابع بكلّ لهفة طفولة قابعة في داخلي- أنا التي لم أمارسها بشكل طبيعي تحت سطوة وجبروت والد مجنون.

دقت الساعة الواحدة والنصف زوالاً، فاستفقت من غيبوبة الأطفال تلك وقمت أجرّ رجلي وأمطّط ذراعيّ، ووضعت صينية القهوة على طاولة المطبخ. توضأت وصليت صلاة الظهر وتلوت وَرْدِي من القرآن المخصّص لبعد صلاة الظهر.

كانت هذه عادتي التي عاهدت نفسي على عدم تركها، فبعد كل صلاة أقرأ آيات من القرآن الكريم، أحاول قدر المستطاع أن أكون مستقيمة وملتزمة بأحكام هذا الكتاب المبين. برفقته أحس بالراحة والطمأنينة، وبأن الله رحيم بعباده يرحّب بإقبالهم عليه. كان القرآن بلسم قلبي وحافظاً لي من كل المساوئ ومانعي من الانجراف.

كانت الساعة تشير إلى الثالثة وعشر دقائق بعد الظهر، كان يوم الثلاثاء يوماً للراحة من ثقل العمل اليوميّ، استلقيت على سريري وفتحت حاسوبي ورحت أفتح المواقع التي أنتمي إليها، أولها موقع قناة عروس الغرب التي أعمل فيها، لا جديد يذكر إلا بعض الأخبار والتحديثات لبرامجها. دخلت قسم البرنامج الذي أعدّه وأقدّمه، لا شيء مفرحاً ولا شيء محزناً، تعليقات البعض ميكانيكية لا روح فيها، وتشجيعات من أشخاص أشعر من كلماتهم أنّهم كابدوا العناء لكتابتها. أغلقت موقع القناة وفتحت الفايسبوك فوجدت خمسة عشر إعجاباً على صور نشرتها وكلمات كتبتها وتسعة وعشرين تعليقاً على موضوع نشرته وعلى مراجعة لكتاب انتقدته، توجد أيضاً إضافات من أشخاص لا أعرفهم بالنظر إلى أسمائهم وحساباتهم، قبلت ثلاثة منهم ورفضت اثنين، وصلتني رسائل شكر وتشجيع على البرنامج الجديد لم أفتحها فقد عرفت أنها تهنئة من الكلمات الظاهرة.

وأنا أنزل لأرى جديد الصفحات وما نشرته على هذا العالم الأزرق غارقة في حالتي الهادئة، وإذ برسالة من المدعو «عطر القلم» الذي كنت قد اضفته تواً يقول فيها:

مساء الخير أستاذة نوال يونس، تحية طيبة وبعد. علمت عن فكرة برنامجك الموقر وفكرته الجميلة في استضافة المفكرين والكتاب، وأتمنى أن أحظى بشرف حضور حلقة في هذا البرنامج معك، ولا عليك سيدتي، فطبيعة عملي كرجل أعمال تفرض علي التنقل من بلد إلى آخر، فإذا تم القبول أخبريني بالموعد وسأحضر إلى الجزائر على الفور.

في انتظار ردّكم

تحياتي لشخصكم الكريم.

دكتور/ كارم سعيد

منذ بدأت عملي في هذا البرنامج وأنا ألتقي مبدعين ومفكرين، كتاباً كانوا أو محاضرين في الجامعات داخل الجزائر أو خارجها، وكم كنت سعيدة بهذا العمل الذي كافحت من أجل الوصول إليه، والذي واجهت من أجله غضب والدي وحنقه. لطالما حلمت أنني سأصبح صحفية ذات شأن، ولكنّ واقعي أقلّ ممّا كنت أحلم به، غير أنّني لم أنقم ولم أتذمّر، فمقارنة بما عانيته من والدي الجشع الدكتاتور فإنني أحمد الله على أن وفقني لأصل إلى هذا الوضع، حيث أعيش بسلام وحرية في شقتي الخاصة في مدينة وهران عروس الغرب، بعد أن هجرت روحياً وجسدياً بيتنا القابع على تلّة رملية  من تلال الصحراء في الغرب الجزائري. ما يحزّ في قلبي أحياناً هو اشتياقي إلى أمّي وأخواتي اللاتي لم أكن ألتقيهنّ إلا نادراً حين يأتين لزيارتي، ولكنّني كنت أهاتفهنّ من وقت إلى آخر. لم يكن مصيرهن يشبه مصيري، فقد كنّ فئراناً في قفص والدي يلعب بهنّ وبمشاعرهنّ كيفما شاء. زوجهنّ وهنّ صغيرات بعد أن أوقفهنّ عن الدراسة. أحمد ربي أنّني كنت أصغرهنّ وكان قد بدأ يتروّى في الطغيان وتتباين سطوته وجوره حسب مزاجه مع زوجته الثانية.

لكن مهلاً!!!.. أليس من الغريب أن يسمّي المرسل نفسه في الفايسبوك بـ»عطر القلم» في حين أن اسمه كارم سعيد وهو دكتور؟.. بسرعة ضغطت على اسمه لأتلصّص على حسابه في الفايسبوك: كلمات رقراقة... صور أطفال جميلة... حكم وأمثال! أهذا كل شيء؟ لا يوجد شيء يخصّه في بياناته إلا أنه رجل يحبّ الكتابة. دكتور لديه حساب في الفايسبوك يحتوي على بقايا الصفحات الإلكترونية وبعض الصور الطفولية؟.

لم أهتم كثيراً ولم أفكر مطوّلاً حتى رددت عليه:

أهلاً سيدي الكريم كارم سعيد. إنه يسعدني ويشرفني أن أستضيفك في برنامجي وأن يستضيفك طاقم الإذاعة في الجزائر. ولكن لديّ سؤال لو سمحتم لي سيدي الكريم.

وفي انتظار ردّه رحت أتجول في بقية المواقع التي تهمّني وبضعة منتديات مفيدة أزورها كلما سنحت لي الفرصة. كما قمت بتحديث في عدد صفحات رواية كنت أقرأها عن القضية الفلسطينية في موقع مختص بالكتب، ورددت على بعض المراجعات هنا وهناك.

وبينما أنا في غمرة قراءة مراجعة لصديقة أعجبتني، سمعت صوت الشات في الفايسبوك..

نعم فلتسألي ما تشائين..

سامحني على التطفل ولكنني لم أجد في حسابك ما يدلّ على أنك دكتور... أقصد الاسم على حسابك (عطر القلم)؟ ِلمَ؟ أم إنّه حساب ثان؟.

نعم هذا حساب ثانٍ لي ككاتب لأنني أكتب باسم مستعار لظروف عائلية تمنعني أن أظهر بشخصيتي. وما دمت سألتني وعلمت السبب فأتمنى عند ظهوري في البرنامج ألا يسلّط عليّ الضوء ولا يكشف عن شخصيتي لأنني كما أخبرتك أشتهر باسم (عطر القلم)... لا أعلم لماذا أخبرتك باسمي الحقيقي في أول رسالة أتمنى أن يبقى هذا سراً بيننا- وجه مبتسم-

حسن إذن... ولكن اعذرني فسأناديك باسمك الحقيقي سيدي.

عدم إجابته على تعليقي الأخير جعلتني أستحي وأندم على كتابته. كنت داخلياً أرغب بشدة مفاجئة في طرح المزيد من الأسئلة، ولكنّني تريثت وجعلت حديثي معه على الشات الفايسبوكي موجّهاً بشكل منضبط حول البرنامج والحلقة التي سوف يكون فيها ضيفاً.

سؤال آخر لو سمحت لأنّ ذلك ضروري، في أي مجال تكتب؟ لا يخفى عليك أن البرنامج يهتم بالمفكرين والمبدعين في المجالات الإنسانية والاجتماعية أكثر شيء.

أكتب في مجال العلوم الإنسانية سيدتي..

وهل لي أن أعرف أي اختصاص درست؟

شعرت بوخز التردد مرّة ثانية، استغربت ذلك لأنني متعوّدة التعامل مع الناس وطرح الأسئلة عليهم، ولم أشعر برهبة من قبل إلا حين أجريت مقابلة مع مسؤول كبير في الدولة، ولكن إحساس التردد لا يشبه هذا الذي أشعر به تجاه الدكتور عطر القلم!..

آسفة ولكنني سأطرح عليك الكثير من الأسئلة فهذا عملي..- وجه مبتسم-

أتدرين؟.. منذ أن رأيت برنامجك على شاشة التلفاز ورأيت مهارتك في طرح الأسئلة تمنيت أن تسأليني... فلا تعتذري فأنا من يرغب في سماع أسئلتك... درست تخصص صحة نفسية وإرشاد نفسي... حاصل على درجة الدكتوراه، وكثير من الناس لا يعرفون هذا أيضاً فلتبقه سراً. – وجه مبتسم-

شعرت بحرارة في وجنتيّ وبضربات في قلبي متسارعة ممزوجة بحنق شديد. أحسست بأنه يغازلني بغير حقّ خصوصاً وأنّني كنت أمقت كلمة رجل. لطالما تعاملت معهم ببرود جليديّ وبقسوة في كثير من الأحيان، كنت أجاهد على أن أبقى بتولاً طوال حياتي، لم أفكر يوماً في الزواج حتى إنّ مجرد التفكير في أن يلمسني رجل يثير اشمئزازي ويدفعني للتقيؤ، غضبت كثيراً من كلامه ولكنّني تمالكت نفسي ولم أساهم في التمادي في التحدّث أو التعليق عمّا قاله، بالرّغم من أنّ كلماته ورغبته في أن أسأله كانت قد بدأت تنخر قلبي كسوسة صغيرة جدًّا لا نلقي لها بالاً في حين أنّها تقدر على تفتيت مادّة صلبة غير قابلة للتهديم. لأوّل مرّة في حياتي دعوت الله من كل قلبي أن يعود الإنترنت لأنه فصل عند آخر جملة قد كتبها إلاّ أن انقطاعه استمر، وبضجر وملل شديدين قررت بأن أغلق الحاسوب وأشاهد التلفاز غير أن النداء لصلاة العصر بدّد رغبتي وتوجّهت إلى سجادة الصلاة وكلمات السيد في ذهني تتردد من تلقاء نفسها.

back to top