ريمون شويتي: الصحراء العربية {فانتازيا} عابقة بشلال نور

نشر في 03-04-2015 | 00:02
آخر تحديث 03-04-2015 | 00:02
بين طبيعة وطنه الأم لبنان وما تحفل به من نور وظل ألهمت الشعراء والرسامين التشكيليين ولا تزال، وبين الصحراء المترامية الأطراف التي تسمح للخيال بأن يجول في المدى اللامحدود، تتوزع ريشة الفنان التشكيلي اللبناني ريمون شويتي الذي يستعد لافتتاح معرضه الجديد في 25 مايو في صالة «نايلة للفنون التشكيلية» في الرياض.
لم يكن الشاب اليافع الذي ترعرع في سبعينيات القرن العشرين إبان عصر بيروت الذهبي العابق ثقافة وفكراً، وتتلمذ على يوسف الخال وكبار الأدباء والفنانين، يتصوّر أنه سيشهد بأم عينه دمار وطنه بعدما اجتاحته الحرب، وسيضطر مكرهاً إلى شد رحاله والتوجه إلى المملكة العربية السعودية حيث استقر بعد تجوال في العالم، حاملا هم وطنه في قلبه وفي وجدانه.
سنوات الغربة أكسبت تجربته التشكيلية غنى، وساعدته على اكتشاف الصحراء ومكامن الجمال فيها فعشقها تماماً كما يعشق طبيعة بلده لبنان، وأشبع ناظريه بجمالياتها، ومع إشراقة كل صباح تنتابه الدهشة عندما يرى الضوء ينسكب شلالات من نور على كثبان الرمل فيكللها ببريق وتتحول معه إلى لآلئ ساطعة.
حول معرضه الجديد ومجمل مسيرته
أخبرنا عن معرضك الجديد.

هو الثالث الذي أقيمه في صالة «نايلة للفنون التشكيلية»، وهي صالة حديثة لها تطلعات وأهداف فنية مميزة. فمنذ 1996 لغاية اليوم أقمت ثلاثة معارض فقط: اثنان في الرياض وواحد في صالة «إيبروف دارتيست»- بيروت.

أمل أن ينال المعرض استحسان النقاد والفنانين والجمهور، خصوصاً أن الفن في المملكة العربية السعودية حقق تقدماً ملموساً، فازدادت صالات العرض وازداد الفنانون، وأصبح الجمهور متحمساً لحضور المعارض والتذوق وإبداء الرأي، وهذا بحد ذاته يحفز الفنان على الجدية في الإنتاج والعرض.

يعكس المعرض عصارة مجهودي الفني، ومعاناتي وآمالي وتطلعاتي ورؤيتي المتأرجحة بين التفاؤل والتشاؤم، بين الحق والباطل، بين المعرفة والجهل حسب الأحوال التي تمر بها المنطقة العربية والشرق أوسطية كما العالم بأجمعه، فبحكم التكنولوجيا والإنترنت بات العالم قرية صغيرة نعرف كل شاردة وواردة فيها بكبسة زر.

أنت فنان عاشق للطبيعة، كيف أثرت الطبيعة في رسمك وكيف مزجت بين طبيعة لبنان وطبيعة الصحراء؟

أعشق الطبيعة منذ طفولتي، وانخرطت في نشاطات كشفية خولتني قضاء معظم وقتي في الطبيعة، فأصبحت عيني عدسة تلتقط كل ما تراه وتخزنه في مخيلتي من دون أن أعلم أنني سأوجه مهنتي، في ما بعد، نحو الزهور والألوان والديكور، هكذا بدأت، وكل ما أفعله، منذ امتهنت الفن، هو نقل الطبيعة بعناصرها وبالوسائل كافة، لأمجَد الله في أي بقعة جغرافية وجدت فيها، سواء كانت طبيعة لبنان الخلابة أو الصحراء وما شابه ذلك.

 ما الأبعاد الجمالية التي اكتسبتها من الصحراء؟

قضيت نصف عمري في بقعة جغرافية صحراوية بامتياز، فقد خولني عملي في المملكة العربية السعودية، الإقامة في المنطقة الوسطى، أي في عمق الصحراء الخلاَبة، وهي تأكيد لما كنت أتخيل وأنا أدرس اللغة العربية، خصوصاً الأدب والشعر والشعراء والبادية والإبل والخيام وليالي السمر الصحراوية، فرحت أبحث عنها بين كثبان الرمل والطعوس والصخور البركانية، وأندهش في كل مرة أتأملها.

لا يقل الربيع في الصحراء جمالا عن الربيع في أي طبيعة أخرى، إذ تتفتح أزهار الخزامى وتزيّن الأعشاب والأزهار البرية الجبال والوديان، وكأن فناناً في حالة جنون ونشوة نثر ألوانها هنا وهناك، ليشكل لوحة زاخرة بفانتازيا وشفافية وعفوية، وبهذه العفوية نقلت طبيعة الصحراء إلى لوحات أعتز بها واقتناها المجتمع السعودي والعالمي.

ما أجمل الأوقات التي تحثك على التعبير عنها بواسطة الريشة واللون؟

أوقات الشروق والغروب، حين ينبعث النور أو يخفت انعكاسه على الرمل، وشلال الألوان الهائل الذي يصدر عنه. حينما أتأمل كثبان الرمال العالية التي تشبه الموج العاتي متصلا بالغيم، أتخيلها كأنها فعلا موديل أنثى مستلقية على أريكة في محترف رسام، قابعاً في زاويته، محتاراً من أين يبدأ بنقل هذا الجسد الشفاف، إلى لوحته، من دون أن يقلل من تناسقها وتكاوينها، محافظاً على حيويتها وجمالها.

وفي كل مرة أجلس فوق أحد كثبان الرمل التي تحيط بورشتي في منطقة الدرعية، أشعر كأنني أسمع وقع خطى الجمال وهي تسير مع القافلة، وصدى ايقاع نغم ( الحدا ) يرافقها مردداً مع أحد البدوان الأشعار النبطية المغناة بأسلوب شاعري، زاخر بالفخر والغزل والمدح، وكل ما هنالك من حالات يعيشها أهل الصحراء.

 كيف لا أسكب جميع هذه الانطباعات التي اكتسبتها من الصحراء في أعمالي، مازجاً معها طبيعة بلادي، فتصبحان طبيعتين ملتصقتين كتوأم سيامي لا ينفصلان عن بعضهما البعض، من دون بتر أحد أعضائهما. وأنا بتجربتي التي عشتها وأعيشها، لست مستعداً للانفصال أو الانسلاخ، حتى لو ابتعدت يوماً عن الصحراء بالجسد، فأنا محمَّلٌ بتلك الطبيعة، اتنقل بها من جغرافيا الى أخرى .

تجمع في رسمك بين تيارات كلاسيكية، انطباعية، حديثة، مع ذلك تبدو لوحتك خاصة بك، فهل تنبثق الخصوصية من الثقافة الغنية ومن التراكم الثقافي؟

الأسلوب الذي أتبعته والخط الذي سرت عليه منذ معرضي الأول عام 1972 في الهند إلى هذه المجموعة التي أنا بصدد إنهائها، هو نفسه، وإن تغيرت التقنيات مع الوقت.

 بحكم عملي في الفن من خلال إدارتي في بيروت لـ«غاليري وان» و{غاب سنتر»، ثم صالة «تري دونيون» التي واكبتها منذ تأسيسها، وبحكم اطلاعي على أعمال فنانين لبنانيين وعالميين وزيارتي للمعارض والمتاحف العالمية، أصاب بحيرة من أمري، كلما وقفت أمام لوحتي الفارغة استعداداً لرسم عالم جديد فيها، إذ ينتابني هاجس بضرورة أن يكون أسلوبي مميزاً وخاصاً. ما زلت أمرّ بمخاض فني مزدوج يختلف عن باقي الفنانين الذين يتفرغون لفنهم، ويبتكرون أعمالا خاصة بهم وبهم فقط. لذا نتاجي قليل كي لا أكرر أسلوب غيري من الفنانين وأفكارهم.

لا شك في أن التراكم الفني والثقافي الذي يموج في ذهني ومخيلتي يصيبني بمعاناة شديدة أستوحي منها لوحات تليق بمعرض فردي لي.

رموز و أجواء

تركز في لوحاتك على رمز اليد، لماذا؟

لأنها أكثر ما يستهويني من أعضاء الجسم بتفاصيلها وحجمها وشكلها، فهي، بالنسبة إلي، الأهم وما أن أنظر اليها، حتى أتأملها محاولا فهم صاحبها أكثر، واستوحي منها معلومات عن شخصيته ومكنوناته وطباعه وغالبا ما أصيب بتحليلي.

تشكل اليد حيزاً مهمّاً في الرموز الفكرية والإنسانية والروحية، فهي اليد العظيمة الجبَارة التي جبلت الإنسان من طين ونفخت فيه النفس والروح وهي ذاتها التي تحمل الكون بأسره وتمده بالقوة والبأس.

 أي يد أعظم من يد الأم حين تعانق ولدها وتضمه الى صدرها. أي يد أهم من يد الأم التي تغمر رأس ولدها وتمده بالدفء والحنان. أي يد أعظم من اليد البيضاء التي تحسن إلى المحتاج والفقير والمعدم. أي يد أقوى من يد الجراح التي تستأصل بمبضعها العلَة والداء.

أي يد أكثر نعومة من يد طفل تخدش خد حامله وهو يداعبه. أي يد أعظم من يد الفنان الذي، بريشته أو إزميله أو آلته الموسيقية، يخرج مكنونات صدره ليهلل ويشكر خالقه على نعمة منحه هبة الابتكار والخلق.

أي يد أكثر دفئاً من يد الوالد حينما يمسك بأيدي أولاده، ويسير بهم على دروب الحياة ليوصلهم الى بر الأمان. أي يد أقوى وأعز من يد المزارع حينما يفلح الأرض ويقلع الصخر ليزرع وهو يردد في صدره قول والده «زرعوا فأكلنا نزرع فيأكلون»، أي يد وأي يد ويد ويد ويد...

حقيقة لست ادري عن أي يد أتكلم، جل ما في الأمر أنها ليست عظماً ولحماً ودماً فحسب، بل قوة وصلابة، حنان وعقاب، الإيجابية والسلبية، مختصر للحياة الآنية والمستقبلية، الروحية والنفسية.

 اليد هي كل هذه المختصرات المفيدة، هي البداية والنهاية.

نولد في هذه الحياة ويدنا مقبوضة، ونغادرها ويدنا ممدودة فارغة، لتبقى أعمالنا الشاهد الرئيس لمرورنا على هذه الأرض.

ما دور المخيلة والذاكرة في الرسم؟

منذ احترافي الرسم كان للمخيلة والذاكرة دور كبير ومؤثر في أعمالي. لا أدعي بأنني رسام تشكيلي، بل أنا ناقل بصري لكل ما هو جمال وحس وروح من خلال ضربات ريشتي وفانتازية ألواني التي أستمدها من تأملي للطبيعة بعناصرها وتكويناتها وحالاتها المناخية، وعشقي لها وإعجابي بكل ما فيها من أسرار وجودية ورمزية.

بحكم سفري وتنقلاتي في أصقاع العالم، أجدني متأثراً بكل ما أشاهد من ألوان ومناخات وجغرافيا البلد الذي أزوره، جاعلا عيني عدسة فوتوغرافيه تظهر هذه الانطباعات على لوحاتي، طبعاً بعد أن أغدق عليها من حسي ومشاعري، فيصبح العنصر الذي أكتنزه في مخيلتي عنصراً آخر على لوحتي، يعبر عن تصوري ومكنوناتي الفكرية والروحية والمعنوية.

كذلك بحكم زياراتي المستمرة للمتاحف والمعارض لأتشبع وأغتني بها، وأبحث عن معالمها وألتقي بناسها، محاولا استيعاب عاداتهم وتقاليدهم وحياتهم اليومية، تختلط هذه الحالات ببعضها البعض لتشكل مزيجاً ثرياً من الانطباعات التي تصبح جزءاً من عملي.

تحفل لوحاتك بالفن الإغريقي، أجواء بغداد العباسية وألف ليلة وليلة، فهل هي استمرار تاريخي للإبداع، وهل هو سلسلة متصلة الحلقات مع الأجيال؟

لا شك في أن الإبداع سلسلة متصلة الحلقات مع الأجيال، والحضارات ثروات واسعة وعميقة تساعد الملهم على استنباط أسلوب خاص به، مستعيناً بأشكال ورموز وألوان وهندسيات ابتدعها القدماء.

مرور الزمن، إيديولوجيات جديدة، أفكار يطرحها الفلاسفة والمفكرون... كلها أمور يتأثر بها الفنان ويعتمدها نمطاً حياتياً خاصاً به وخطاً يسير عليه، باحثاً عن أسلوب مميز ليضفي على عمله لمسة خاصة. فما أن يطلع عليه المتلقي حتى يرسم صورة واضحة وجليَة عن فكر صاحب العمل وميوله الفلسفية والسياسية.

ومع انطلاق كل ثورة أو ظاهرة جديدة يتأثر الفنان المعاصر لتلك المرحلة بأسلوبه وأشكاله وألوانه تماماً كما الكاتب والشاعر والمفكر. وكثيرا ما يكون الفنان المكتشف لمدرسة فنية جديدة مثار نقد ورفض واستهجان من مجتمعه، وايضاً مصدر انتعاش لكثر يتوقون الى التجديد والابتكار وطرح فكرة ما بأسلوب مختلف، كما يقول المثل: خالف تعرف.

 

في لوحاتك عناصر نحتية لا سيما في لوحاتك الكبيرة الحجم، ما دور كبار النحاتين اللبنانيين والعالميين فيها؟

الفنان هو ابن بيئته، خصوصاً الفنان المبتدئ الذي يخطّ أسلوباً خاصاً به، لا بد من أن يشاهد ويلاحظ ويستوعب أعمال كبار الفنانين المحليين والعالميين، محاولا شرح العمل ودرسه جزءًا جزءًا، ليفهم تركيبته والأسلوب الذي انتهجه الفنان لبلوغ غايته.

أما في ما يختص بأعمالي أقول إن الفنان ينحت الصخر والخشب والمعدن بالإزميل، ليحصل على عمل ثلاثي الأبعاد، فيما أنحت الألوان بالريشة ومواد الدهان، وأعتقد من الصعب الحصول على الأبعاد الثلاثة باللون والريشة فحسب. أما العناصر اللونية التي أرسمها في خلفية اللوحة، وإن كانت بلا أبعاد محددة، إلا أنني أحاول بضربات ريشتي وتدرج الألوان التي أستعملها وتناقضاتها، ابتكار خلفية بطريقة نحتية، والحصول على الأبعاد الثلاثة التي يحتاجها العمل.

في لوحاتك يؤدي اللون الدور الأساس ضمن تعبير تجريدي، فهل هو الأساس بعيداً عن الخط؟

اللون في أعمالي عنصر رئيس أستعين به لتركيب العمل. أحب الألوان كافة، وحسب الحالة النفسية التي أمر بها أرى يدي تنساق نحو لون معين، أستمد منه تركيبة العناصر التي أرسمها. طبعاً الظرف النفسي الذي يعيشه الفنان يؤثر فيه ويفرض عليه ألواناً ويهمل ألواناً أخرى، بغض النظر إن كان اللون قاتماً أو زاهراً فهذا ليس مهماً.

يساعدني تناقض الألوان في ابراز الأبعاد الثلاثة، احياناً أستعمل لوناً موحداً بدرجات مختلفة لأحصل على التركيبة، وأحيانا أخرى أستعمل ألوان الطيف مجتمعة لأصل إلى ما أريد.

ممَ تستوحي ألوانك؟

من الطبيعة. فمثلا ألوان شروق الشمس وغروبها وانعكاساتها تلهمني فأستغلها في لوحتي، وأستعين بها للتعبير عن الحالة النفسية التي أمر بها، وتفيدني كي أظهر مضمون الفكرة كما أراه مناسباً.

الألوان هي هوية الشعوب، ولكل شعب ألوان مميزة يتأثر بها من بيئته وطبيعته، الألوان هي تعبير عن الفرح والحزن، الثورة والاستقرار، النصر والانكسار، كثيراً ما نلاحظ أن لكل فنان مجموعة ألوان متميزة، ويمكن التعرف إلى هويته من الألوان التي يستعملها. كذلك يمرّ الفنان بمراحل نفسية ويشكل مجموعات لونية مختلفة، مثلا نتكلم عن بيكاسو ومراحله الزرقاء والزهرية إلى ما شابه. `      

فن الوردة

أخبرنا عن «فن الوردة» الذي تعتمده في عملك في تصميم  ديكور المناسبات الاجتماعية.

 فن الزهور عالم قائم بذاته، له فلسفة وروحانية وطبيعية لا يمكن اختصارها ببضعة أسطر. وهو يختلف من بلد الى آخر ومن حضارة الى أخرى. ليست الزهرة هي التي تدخل في فن التنسيق فحسب، بل ثمة نباتات وأغصان أشجار لها معنى ومضمون أيضاً. مثلا يرمز غصن الزيتون الى السلام، فالحمامة التي أطلقها النبي نوح، عادت حاملة غصن زيتون للدلالة على انتهاء الطوفان، أهل أورشليم استقبلوا السيد المسيح بالزيتون وسعف النخل، لأن النخلة شجرة مقدسة ولها مدلولات ورموز وبات ثمرها يعتبر مقدساً ومباركاً.

أما الغار فكان يتوج به جبين الأبطال بعد رجوعهم منتصرين من الحروب والمعارك، وتصنع منه أكاليل توضع على أضرحة الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم فداء للوطن .

أما تنسيق الزهور في اليابان يدعى {ايكيبانا} فهو فن وفلسفة قائمة بحد ذاتها، لها معانٍ وغالبا ما توجه رسائل مباشرة من خلال الترتيب الذي يتَبع، ولفن {ايكيبانا} مدارس مختلفة، يعود زمن تأسيسها الى قرون غاربة.

أما في ما يخص اسلوبي الذي ميزني هو أنني أول من مزج المدرسة الإنكليزية الكلاسيكية مع فن {إيكيبانا}، وخرجت بأسلوب خاص طورته على مر السنين، والآن بات متبعاً بين منسقي الأزهار العالميين.

back to top