مقهى ريش... تاريخ مصر ممسكاً بنارجيلة

نشر في 17-05-2015 | 00:01
آخر تحديث 17-05-2015 | 00:01
بعد رحيل صاحبه يواجه غضب الشباب بالماضي الذهبي

إذا أردت التعرف إلى القاهرة فعليك الجلوس على مقهى ريش في وسط المدينة. ستجد التاريخ هناك إلى جوارك ممسكاً بنارجيلته يحكي107 أعوام مرت منذ تشييد {ريش} الذي تأُسس عام 1908.
انتقلت ملكية المقهى بين الألمان واليونان، وانتهى يحوزه المصري مجدي عبدالملاك، الذي غيبه الموت أخيراً بعد معاناة مع المرض.
شهد مقهى {ريش} طوال تاريخه جل الأحداث وأعظم الثورات التي عاشتها مصر منذ ثورتي 1919 و1952 حتى ثورة {25 يناير} وتداعياتها. على مقاعده، تشكَّلت أفكار صاغها الأدباء والمفكرون العرب عموماً والمصريون خصوصاً، أبرزهم: نجيب محفوظ، يوسف إدريس، أمل دنقل، يحيى الطاهر عبد الله، صلاح جاهين، ثروت أباظة، نجيب سرور، الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي، الشاعر الفلسطيني معين بسيسو، الشاعر السوداني محمد الفيتوري، وغيرهم.

أسس نجيب محفوظ صالوناً ثقافياً في المقهى، وكتب الروائي إبراهيم عبدالمجيد عن المقهى في روايتيه {الإسكندرية في غيمة} و{هنا القاهرة}، واسكتمل فيه الشاعر أحمد عبدالمعطي قصيدة {لا أحد}، فيما ألف الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم قصيدة للمقهى بعنوان {يعيش المثقّف على مقهى ريش}..

تأسس ريش على يد رجل الأعمال النمساوي بيرنارد ستينبرغ وفي 26 أكتوبر عام 1914، ثم باعه لرجل الأعمال الفرنسي هنري بير، أحد الرعايا الفرنسيين الذي أعطى له اسم {ريش} ليتشابه بهذا الاسم مع أشهر مقاهي باريس الذي ما زال قائماً إلى الآن، ويسمى {كافيه ريش..}.

وقبل انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918، اشترى ميشيل بوليدس المقهى من صاحبه الفرنسي، وكان ميشيل أحد أشهر التجار اليونانيين في القاهرة. ظل المقهي ملك اليونانيين حتى عام 1960، ثم انتقلت ملكيته إلى عبد الملاك خليل، ثم إلى ابنه مجدي الذي تُوفي أخيراً.

كان المقهى يحتل مساحة واسعة بمحاذاة ميدان سليمان باشا {طلعت حرب حاليا}، وكان إلى جانبه مسرح غنائي غنى عليه عمالقة الغناء وقتها وعلى رأسهم صالح عبد الحي وزكي مراد، وأم كلثوم. كذلك أقيمت إلى جانبه صالة مصارعة ومكان للعب الطاولة.

في الأربعينيات من القرن العشرين، احتشد كل من يعمل في الموسيقى والغناء في المقهى لإيجاد حل لمشاكلهم المهنية، وكان على رأسهم كل من أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وكانت نتيجة التجمع الاتفاق على إنشاء أول نقابة للموسيقيين في مصر، بل وفي العالم العربي، علماً أن المقهى قاعدة رئيسة تنطلق منها الحركات الوطنية.

في عام 1919، كان المقهى مكاناً تكتب فيه المنشورات والمطبوعات أثناء الثورة، وكان مكاناً سرياً يجتمع فيه دعاة الثورة، هذا ما تدل عليه {مطبعة} عُثر عليها داخل بادروم المقهى.

كذلك خرجت من ريش تظاهرة بقيادة يوسف إدريس احتجاجاً على معاهدة كامب ديفيد الذي وقعها أنور السادات مع إسرائيل.

وروت شخصيات كبيرة قصتها مع {ريش}، من بينهم فولك هارد فينفورد، عميد المراسلين الأجانب في مصر، أبرز المترددين على المقهى، الذي أكد أنه لا يمكن أن يمر أسبوعاً من دون التردد على المقهي، مشيراً إلى أنه حريص على الذهاب إليه منذ عمله كمراسل لديرشبيغل الألمانية عام 1957، مثنياً على دور مالكه في الحفاظ على التراث الذي شهده المقهي.

وفي عام 1992، ضرب زلزال القاهرة فأصاب المقهى بشروخ، وعندما بدأت عملية الترميم اكتشف دهليز صغير يؤدي إلى مخزن قديم حيث وجدت براميل فارغة وماكينة طباعة يدوية تدل على أن المنشورات كانت تطبع في المقهى}.

غضب الشباب واعتزاز الكبار

ظل المقهى مغلقاً أكثر من عشر سنوات إلى أن قرر الراحل مجدي عبد الملاك افتتاحه وتطويره. في رحلة بحثه عن إعادة البريق إلى المقهى، قرر تغيير صالته الخارجية التي كانت على نمط علبة معدنية تعزل الرواد عن الشارع، الأمر الذي لم يرق لمثقفين كثر ورأوا أن عبد الملاك جعله للنخبة الارستقراطية. كتب الأديب مكاوي سعيد أن صاحب المقهى كان يجلس على أول منضدة بمدخل المحل ليتفرس في الداخلين ويمنع ويسمح - بمزاجه الشخصي، ويمنع المثقفين الشباب الذين يرى أن ملابسهم وسحنتهم لا تليق بالمكان. باختصار، كان بعنصرية مقيتة يتعامل مع أثر ثقافي ورثه عن الأجانب.

إلا أن الأدباء الكبار لا يزالون يرون فيه أثراً ثقافياً مهماً. ذكر الأديب بهاء طاهر أن الراحل مجدي عبدالملاك، صاحب مقهى ريش، حافظ على دور الأخير الثقافي منذ بداية القرن الماضي، ورغم أن {ريش} أُغلق في فترة ما لأسباب ترجع إلى خلاف الورثة، فأن عبد الملاك أصر على أن يواصل مسيرة المقهى الثقافية.

ووصف طاهر نفسه بأنه {زبون} دائم للمقهى، وكان جزءاً من حركة نجيب محفوظ التي كانت تجتمع مساء الجمعة آنذاك.

وحكى الأديب يوسف القعيد، الدور المحوري الذي أداه مجدي عبدالملاك في إعادة التراث الثقافي إلى المقهي، قائلا: ربطتني علاقة قوية بمجدي منذ تنظيم ندوات نجيب محفوظ، وكانت المحور الأساسي في الحركة الأدبية المصرية} ، مشيراً إلى أن رواية {الكرنك} لنجيب محفوظ كان يقصد بها مقهى ريش بجميع معالمه.

وقال الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي: {كان مقهى {ريش} وما زال مركزاً ومنتدى ثقافياً يجمع المثقفين حول مائدته، ولا يوجد فنان أو كاتب مصري لم يتردد عليه، لأن مجدي فتح ذراعيه للمثقفين العرب على أشكالهم واختلاف إبداعهم.

وذكر حجازي أن عدداً من الكتاب والفنانين، من بينهم الشاعر حسن طلب، والشاعرة فاطمة ناعوت في اجتماع نُظم في المقهى، اقترحوا تنظيم صالون شهري يحمل اسمه، إلا أن حجازي اعتذر لأسباب ترجع إلى أن بعض الحضور كان على غير وفاق، الأمر الذي انزعج منه مجدي، صاحب المقهى، ونوى حجازي أن يعتذر له ويشرح له الموقف، إلا أن المنية وافته قبل أن يتحقق ذلك.

back to top