«ميرسو: تحقيق مضاد»... وجه «الغريب» الآخر بقلم كامل داود

نشر في 11-06-2015 | 00:01
آخر تحديث 11-06-2015 | 00:01
No Image Caption
يستحق كامل داود الثناء على جرأته. في روايته الأولى The Meursault Investigation (ميرسو: تحقيق مضاد)، يواجه الصحافي الجزائري وجهاً لوجه أحد أعمدة أدب القرن الحادي والعشرين: ألبير كامو وتحفته الوجودية The Stranger (الغريب).
تروي قصة البير كامو {الغريب}، التي نُشرت للمرة الأولى في فرنسا عام 1942، حياة ميرسو (فرنسي من أصول حزائرية، على غرار الكاتب) يقتل تحت تأثير الحر والقدر عربياً على الشاطئ بعد ظهر أحد أيام الصيف. يخبرنا ميرسو: {نفضت عني العرق وأشعة الشمس، ثم أطلقت النار أربع مرات إضافية على الجثة الهامدة. فاخترقتها الرصاصات من دون أن تخلف أثراً. بدا ذلك أشبه بطرق باب الأسى بسرعة أربع مرات}.
تدور أحداث {ميرسو: تحقيق مضاد} في الجانب الآخر من هذا الباب، مقدمةً لمحة عن تداعيات عنف ميرسو العبثي. يسرد هذه القصة أخو الضحية، رجل مسن يُدعى هارون ينظر إلى الماضي إلى ما تبدو عليه عملية القتل هذه وتأثيراتها اليوم. يقول: {لطالما ظننت أن سوء التفاهم ينبع من هناك. ما كانت هذه الجريمة سوى محاولة تافهة لتصفية الحسابات خرجت عن السيطرة، إلا أنها رُفعت إلى مصاف الجريمة الفلسفية}.

 

ادعاءات جريئة

 

تشكِّل عملية تصفية الحسابات هذه أساس {ميرسو: التحقيق المضاد}، سواء كانت بين ميرسو وأخي هارون أو بين هارون وميرسو. ومن بين ادعاءات هذا الكتاب الجريئة أن كامو لم يكتب {الغريب} بل ميرسو نفسه، وترتكز هذه النقطة المهمة على خاتمة تلك الرواية التي يُحكم فيها على الراوي بالموت. وبتحويل هذه الرواية السابقة إلى جزء من العالم الحقيقي، جاعلاً إياها شهادة أكثر منها قصة من نسج الخيال، ينقل داود عمله إلى عالم المألوف، ما يتيح له التحدث عن المخاوف العملية أو حتى السياسية أكثر منها الوجودية. 

لا شك في أن هذا مهم لأن حقيقة موضوع {ميرسو: التحقيق المضاد} تُعتبر شرطاً مهماً في الجزائر اليوم، وهي دولة عربية علمانية تتمتع بثقافة إسلامية واسعة وتعتمد على توازن غير راسخ في أعقاب الحرب الأهلية المدمرة.

لكن تلك الحرب الأهلية، التي بدأت عام 1991 واستمرت لأكثر من عقد، لا تُذكر مباشرة في {ميرسو: التحقيق المضاد، إلا أنها تشير إلى حرب الاستقلال الجزائرية التي بدأت عام 1954 وانتهت عام 1962 بخروج الفرنسيين. خلال تلك الحقبة، يقوم هارون بعمل انتقام يقربه كثيراً من ميرسو.

يشدد متحدثاً إلى شخص مجهول يلتقي به خلال أمسيات عدة في حانة أوران: {لا أخبرك هذه القصة لأبرر عملاً لاحقاً أو لأريح ضميري... لم يكن الإيمان بالله حياً وقوياً في هذا البلد كما هو اليوم. وفي مطلق الأحوال، أخشى نار جهنم}.

تذكر هذه البنية برواية كامو The Fall عام 1956 التي يقر فيها المدعي العام بسقوطه في الفساد. لهارون نية مماثلة. يقر: {في اللحظة التي اقترفت فيها جريمتي شعرت أن باباً يقفل علي. عرفت أنني هالك. لذلك، لا أحتاج إلى قاضٍ أو الله أو محاكمة صورية، وحدي فحسب}.

لكن يأس هارون لا يبدو في الوقت عينه فلسفياً، بل ثقافياً. فبالنسبة إليه (وبالتالي إلى داود، حسبما نعتقد)، لا ترتبط مشكلة {الغريب} الرئيسة بالمعنى، بل بالعرق والطبقة. يسأله: {هل تدرك لمَ ضحكت في أول مرة قرأت فيها كتاب بطلك؟ فقد توقعت أن أعثر على كلمات أخي الأخيرة بين صفحاتها، وصف لأنفاسه، وجهه، وأجوبته لقاتله. لكني بدلاً من ذلك، قرأت سطرين عن عربي. ترد كلمة عربي 25 مرة في الرواية، إلا أن الاسم لا يُذكر مطلقاً، ولا حتى مرة واحدة}.

تداعيات

 

لا شك في أن التداعيات مذهلة: ففي تناوله مسألة الوجود، تغاضى كامو عن (أو قلل على الأقل من أهمية) مسألة الاستعمار والهوية. {أؤمن بالعدالة، إلا أنني سأدافع عن أمي قبل العدالة}. كانت هذه كلماته الشهيرة التي تعكس معارضته الاستقلال الجزائري. ولطالما اعتقدت أن هذه الكلمات تشير إلى تضامنه مع الفرنسيين المتحدرين من أصول جزائرية. لكن داود يصوّر هذا الموقف كمحاولة استفزاز وكمثال آخر للاستعمار الأوروبي.

تشكل هذه حبكة مثيرة للاهتمام وخصوصاً عند النظر إليها بعد حدوثها (كيف فاتتنا نقطة مماثلة؟)، إلا أنها تكشف الكثير أيضاً. يعتبر داود أن كامل موقف كامو ينبع مما يتمتع به من حظوة. يتساءل مفكراً في أخيه وفي العرب الآخرين الصامتين في {الغريب}: {كيف يمكنك أن تصور العالم وأنت تجهل كيفية تأليف الكتب؟}.

لو توقفت {ميرسو: تحقيق مضاد} عند هذا الحد، لشكلت نقداً حيوياً. لكن المقياس الفعلي لهذه الرواية يبقى واقع أن داود أدرك أن النقد وحده غير كافٍ. فما الانتقاد في هذه الحالة إلا مجرد وسيلة لإحداث شرخ بيننا. لا يبدو النقد قوياً بقدر التفاصيل المرافقة له، متناولة كل ما نتشاطره. يرخي واقع الجزائر بعد الحرب الأهلية بثقله على هذه الرواية بخليطه غير المستقر الذي يجمع بين العلمانية والتشدد في الإيمان. في هذا الجو العام، يتحول داود إلى شخصية مثيرة للجدل، مؤكداً ان التعصب عقبة وتخلف.

يشدد في منتصف الرواية: {يوم الجمعة؟ لم يكن اليوم الذي ارتاح فيه الله، بل الذي قرر فيه الرحيل وعدم العودة}. وتذكر هذه الكلمات بمواجهة ميرسو مع كاهن السجن. يكتب كامو: {بدا واثقاً من كل المسائل، أليس كذلك؟ لكنه لم يكن واثقاً حتى من أنه حي لأنه يعيش كإنسان ميت}.

نقع على مشهد مماثل في الصفحات الأخيرة من ميرسو: تحقيق مضاد}، حيث يخوض هارون مواجهة مماثلة مع أحد الأئمة. وهكذا تكون هذه الرواية مرآة، انعكاساً ولعبة ظلال أدبية، إذا جاز التعبير.

رغم ذلك، تكمن قوة، وبالتأكيد جمال، {ميرسو: تحقيق مضاد} في أنها تنتقل إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى تكامل غير متوقع ندرك من خلاله أن إنسانيتنا (وكيف لا؟) تبقى كما هي، رغم كل اختلافاتنا الدينية والقومية.

back to top