ناهدة عقل في «مفاتيح الغيم»

نشر في 11-01-2015 | 00:01
آخر تحديث 11-01-2015 | 00:01
No Image Caption
ماء جوزف حرب في غربال غاستون باشلار

يكتب الشاعر قصيدته وهو يراهن على ما فيها من جمال لا ينال منه الوقت. وحين يتحوّل نتاجهُ مادّة للدراسة الأدبيّة قد يرضى وقد لا يرضى استناداً إلى نتيجة البحث. وقد يمضي الباحث إلى عوالم لم يطرق أبوابها الشاعر ولا تعنيه فكراً ووجداناً وعاطفة، إلّا أنّ الدراسة أو البحث الرّصينين هما شكل من إعادة الصياغة للأثر الفنّي أو بعض ظلال تضاف إلى ظلاله.
الشاعر اللبناني جوزف حرب هو واحد من عمالقة الشعر العربيّ القليلين، والشعر العامّي أيضاً.
ولا شكّ في أنّ ما كتبه مادّة غنيّة للدراسات الأدبيّة التي يجب أن تدلّ بالإصبع على كلّ جديد أتت به قصيدته إلى الشعر العربي.
«مفاتيح الغيم – المــــاء فــــي الصــــــورة الشعريّـــــة لـِ جوزف حرب» قراءة أدبيّة للباحثة الأديبة ناهدة عقل تحاول أن تلبس حرب ثاج الماء، وتكرسّه شاعراً مائيّاً يحتفظ في قصيدته بأسرار البحر والغيم والينابيع. ويتجلّى ألم نبيل في «إهداء» الكتاب، فعقل نسجت قفيرها متوّجاً بنحل حزين لأنّ حرب الرجل الكثير، المكتوب له «مفاتيح الغيم» لن يسمع بعينيه رنين المفاتيح الذي سيسمعه الجميع: «إلى جوزف حرب... أكتبه لك وحدك/ ويقرأه الكلّ إلّاك».

لم تختر عقل بحراً من بحار حرب الكثيرة لتغوص على لؤلؤ مائه وحده إنّما اختارت المحيط؛ وأسلمت قلمها لكلّ قطرة في مؤلّفات الشاعر كاملة: شجرة الأكاسيا، مملكة الخبز والورد، المحبرة، السّيدة البيضاء في شهوتها الكحليّة، الخصر والمزمار، رخام الماء، كلّك عندي إلّا أنتِ، شيخ الغيم وعكازة الريح، أجمل ما في الأرض أن أبقى عليها، مقصّ الحبر، طالع ع بالي فلّ، سنونو تحت شمسيّة بنفسج، زرتِك قصب فلّيت ناي. ليس من السّهل قطّ أن يطارد باحث موضوعاً معيّناً على امتداد هذا النتاج الضخم. إلّا أنّ عقل أرادت الصّعب الذي لا يأتيه سوى المميّزين والمتفرّدين ذوقاً أدبياً، ومعرفة واسعة، وقدرة على رصد المعاني التي قد تعيش في ما بين الكلمات أكثر مّما تعيش في صدور الكلمات.

وتعلن عقل في مقدمة بحثها «كلمات للبداية» أنّ الاستعارة الناضجة حملتها إلى فردوس القصيدة، تلك الاستعارة التي تجمع البساطة إلى التعقيد، والواضح إلى الغامض: «ما زاد تعلّقي بالشعر، ولا سيّما الاستعارة في أوج نضجها، أي الصورة الشعرية، هذه الخلطة السحريّة من الكلمات فائقة القدرة، البسيطة المعقّدة، المفهومة الغامضة، والجديدة القديمة في آن».

كذلك تعلن أنّها حاكت غاستون باشلار في كتابه «الماء والأحلام» ومضت ناشرة الجذر الأسطوري لصُور حرب المرتدية ماءها. ترى عقل وحدة الخيال عند حرب في إبداع صوره المائيّة التي تمارس سطوتها وتأثيرها على مستوى نفس القارئ. ولا تُخفي أنّ خيال حرب الخصب يجعل بخصوبته عمليّة البحث عن الجذور صعبة جدّاً، إضافة إلى أنّ الوصول إلى: «الصور المخفيّة وراء الصّور الظاهرة» ليس بالأمر السّهل.

سبعة عناوين

وزّعت عقل ماء حرب على سبعة عناوين: ماء الحزن جسد الدموع، ماء المرأة، ماء القداسة، ماء الرحيل، ماء الجسد، ماء المعرفة كلام الماء، ماء البدء، أمومة الماء. ولكلّ من هذه العناوين امتداد تحليليّ دقيق، فيه رصد ومطاردة للإيقاع المائيّ بأسلوب ينضح جمالاً وانفعالاً على موضوعيّة لا يمكن لباحث الاستغناء عنها.

وجدت عقل خيال حرب محترفاً تخبئة الماء طيّ صوره، ما يعني أنّ لقصيدة مثل قصيدة «الجرس»، أن تكون مائيّة بامتياز ولو أنّ الماء وحقله الزلاليّ أو المعجميّ غير حاضر في النّص. وماء حرب في معظمه هو «الماء العميق»، أكثر أنواع المياه ثقلاً ونعاساً، ويسمّيه باشلار «الماء المعمّر». وفي هذا السياق توضّح الباحثة أنّها ستبحث عن: «الماء الأقرب للنفس البشرية ما دامت منابعه الجوفيّة تكمن داخلنا وتفيض على أرض أجسادنا بالذات.» ففي نصّ «حصّاد» – قصيدة عاميّة – تقبض عقل على ماء موشوم بالوداع: «فلّاح/ عند الصبح، محروق عندو كان/ حقل القمح. /لا غصّ غصّه ولا حكي/ صارو عيونو حقل وسنابل بكي/ تلمع كأنّا شموع،/ وإصبعو حصّاد عم يحصد دموع». وتذهب بالمعنى في اتجاه باشلاريّ، يجعلها حُرّة في التأويل إلى أبعد الحدود، لتستنتج أنّ ذلك الفلّاح لا يبكي حقلاً إنّما ثمّة إنسان يتنازل قسراً عن الحياة، وهذا الإنسان يتوارى في حقل القمح أو يتقمّص سنابله: «... إنّما في غياب جسد بشريّ عزيز تسيل مادّته حين تفلتها رعاية الآلهة».

في ظلال المرأة

وتصل عقل إلى حرب في ظلال المرأة، وتسمعه ينشد: «كنتُ أظنُّ بأنّ الشمس تطلُّ / صباحاً، لكي توقظني، لأشاهد سحر العالمْ./ كنتُ أظنّ بأنّ الليلة تصبح/ بركة ماء أسود، كي تأخذني الريح إليها، وأعودَ/ وفي جيبي القمرُ الغارقُ فيها ديناراً أسوَدْ».

وتفسّر عقل أسف حرب في كلامه هذا أسفاً ينتمي إلى النرجسيّة، ويدعو الشاعر إلى الإبحار في صورته، وقد لحظت أنّ للنرجسيّة الحربيّة تدرّجاً استطاعت أن تظهره من خلال عدّة نصوص: «تتدرّج النرجسيّة عبر مراحل تنتهي بالتأمّل الشهويّ، فالحالم يعيش تأمُّلاً يأسف، وتأمُّلاً يرجو»...

وقد رصدت الباحثة صوراً لحرب تضجُّ بالقداسة وتُبنى بمفردات من قاموس المسيحيّة. إلّا أنّ هذه المفردات يحملها الرمز، بحسب عقل، إلى أبعاد لا تمتّ إلى الدين بصلة، فـ: «عمادة – مبخرة – صولجان – رداء كهنوتي...» كلمات تخلع عنها معانيها الواقعيّة التي يعرفها الناس وتتحوّل رموزاً تقود مياه المعاني إلى طواحين جديدة: «فالسماء مثلاً رشّت الأرض بالماء قبل أن يفعل الكاهن المعاصر هذا بملايين السنين»...

وتحت قناطر الرحيل تقف عقل مع حرب وجهاً لوجه، فترقب خياله الأسطوريّ وهو يمدّ الرحيل ظلّاً على الماء: «لا شيء إلّا كان في جسدٍ،/ وأصبح بعدُ زيتوناً وموجاً. إن مضى جسدٌ تحوّل/ بعده الزيتون تمثالاً له، والموج أصبح صوته».

وتؤكّد أنّ للماء أن يكون في جوهره قبر يرعى موتى الشاعر: «مرسلاً إياهم فوق قارب أو ضمن شجرة لإعطائهم الشّكل الجنينيّ إلى العالم الآخر».

ولا تتأخّر عقل في السير مع حرب في حديقة الجسد، فتراه يدعو امرأة مستحمّة إلى قصيدته وتتّهمه بأنّه ذو كلام مموّه، كلام لا يعني فقط ما يعني إنّما يتخطّى ذاته نحو البعيد، فتصير «البجعة» أيضاً امرأة مستحمّة: «تتضح ملامح البجعة في جانبها الأنثويّ بصفتها البديل الأدبيّ للمرأة...». وتستشهد عقل بنصّ بجعيّ واضح: «ولي عشرٌ من البجعات، تتعبُ/ وهي سابحة على أطراف هذا الغيم/ في شعرِكْ/ فأُنزلها عطاشاً/ من أعاليها/ إلى خصرِكْ/ لأسقيها»، فترى البجعات أصابع عشراً تتعلّم باللمس ألفباء الجسد: «شبح فوق الجسر المائيّ لامرأة هي المخاطب في النصّ»...

من الصعوبة إيفاء «مفاتيح الغيم» حقّه بمقال لا يستطيع أكثر من الإضاءة عليه. ولا شكّ في أنّ الباحثة ناهدة عقل غربلت ماء الشاعر جوزف حرب في غربال غاستون باشلار بامتياز، وكان لها فضل كبير في اختيار النصوص وتحليلها تحليلاً مائيّاً، وقد يتّفق القارئ وعقل على إعجاب وقد لا يتّفق إنّما على إعجاب أيضاً، باعتبار أنّ النصّ الأدبيّ الواحد قابل دائماً للقراءات المتعدّدة.

back to top