«إلا ليعبدون!»

نشر في 02-09-2014
آخر تحديث 02-09-2014 | 00:01
 د. ساجد العبدلي "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"، تبين هذه الآية الكريمة التي جاءت في سورة الذاريات العلة الأساسية ومنتهى الغاية من إيجاد الله للجن والإنس، ويقول أهل اللغة إن "إلا ليعبدون" هي استثناء مفرغ من أعم الأحوال؛ أي: ما خلق الله الجن والإنس لأي شيء إلا للعبادة، وقد فُسِّرت "إلا ليعبدون" بمعنى إلا ليوحدون، وفُسِّرت كذلك بمعنى يتذللون لله بالطاعة فِعلاً للمأمور، وتركاً للمحظور، ومن طاعته أن يوحد سبحانه وتعالى؛ لأن هذه هي الحكمة من خلق الجن والإنس، وليست الحكمة من خلقهم للعبادة نفع الله عز وجل، إنما نفع أنفسهم في الأول والآخر، ولهذا قال تعالى في الآية التي تليها مباشرة: "مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ". (الذاريات 57) ولكن هذا حديث آخر.

في المقابل، ورد في صحيح البخاري أنه: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي- صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي- صلى الله عليه وسلم- فلما أخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني.

وهنا لابد أن يثور سؤال: إن كانت الغاية القصوى من الخلق هي العبادة فلماذا نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هؤلاء الرهط عن الانصراف التام لهذه الغاية وزجرهم عن ذلك بقوله: فمن رغب عن سنتي فليس مني؟ أليس في هذا شيء من عدم التناسق؟!

يأتي الجواب ناصعا في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وفي حديثه: "إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم"، وفي حديثه: "أكثر ما يدخل الناس الجنة، تقوى اللّه وحسن الخلق"، وفي حديثه: "إن أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم أخلاقاً".

ديننا ليس دين الرهبانية والانقطاع عن الدنيا كما تبين في موقف النبي عليه الصلاة والسلام من أولئك الرهط، لكنه في ذات الوقت هو الدين الذي جاء كتابه السماوي "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" ولا تعارض بين الأمرين، فالمقصود هو أن سائر حياة الإنسان، من شعائر دينية افترضت عليه ومن ممارسات حياتية عامة، يجب أن تكون واقعة في دائرة إدراكه الدائم بأنه في عبادة متصلة لله عبر التزامه المستمر بقاعدتي "تقوى الله" و"حسن الخلق" اللتين جاءتا في أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، لأن هذا هو الجوهر الحقيقي لمفهوم العبادة. ولا يمكن منطقا أن نتصور وجود شخص خاشع في صلاته حق الخشوع، لكنه سيئ الأخلاق ولا يتقي الله خارجها؟ وكذلك قال الرسول- صلى الله عليه وسلم- عن مسألة الصيام: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه"، أي من لم يترك قول الكذب والعمل به فلا فائدة من صيامه.

وهكذا، فعلى كل واحد منا في النتيجة أن يستعرض أنشطته اليومية جلها ودقها، وأن يعرضها جميعا على هذا المفهوم "العبادي" ليدرك بعد ذلك ودون مساعدة من أحد مدى قربه أو بعده عن الغاية من وجوده وخلقه.

back to top