رحلة البزول وأيام النزول إمارة المنتفق (1546 – 1913م) (الحلقة الثانية)

نشر في 17-03-2015 | 00:01
آخر تحديث 17-03-2015 | 00:01
كانت المنطقة الواقعة بين بغداد والشاطئ الشمالي للخليج العربي تعجّ بالفوضى بعد هجمة المغول، وفي خضم هذه الفوضى ظهرت إلى الوجود إمارة عربية استطاعت أن تؤدي أدواراً كبيرة على الساحتين المحلية والإقليمية منذ نشأتها منتصف القرن السادس عشر حتى بداية القرن العشرين.

وكان بإمكان الإمارة في بعض فترات قوتها أن تكوِّن دولة مستقلة في مناطق نفوذها، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، لأن عقلية أمرائها وفكرهم الإداري لم يكن يتجاوز عقلية المشيخة ومنطقها القبلي، وطموحهم لم يكن يتجاوز أيضاً الرضا بالتبعية والمصالح الضيقة، وتوسيع النفوذ والصراعات الداخلية والخارجية كانت جميعها تسير في حدود الفوضى والعقل والأفق المحدود.

ولعل الظروف المحلية كانت مواتية مرات عديدة، كما أن العديد من الفرص التي وفرتها بعض القوى العظمى لاستقلال الإمارة عن الإقليم العراقي كانت مواتية، لكن كل تلك الظروف والفرص لم تستغل أبداً، أو لم تجد من يستغلها على وجه الدقة، لذا فإن المرور على تاريخ هذه الإمارة يكون مهماً لسببين منطقيين: أولهما مساحتها والمجاميع القبلية التي انضوت تحتها ومدة بقائها الطويلة، وثانيهما علاقتها بالقوى المجاورة، ما يجعل التتبع لأحوال الإمارة وأحداثها ومحاولة تدوينها تدويناً للمنطقة كلها.

وما بين إمارة مانع الصخا الذي عرف بكرمه المفرط وبين ابنه محمد رجل التناقضات كانت رحلة الإمارة ذات شجون بين ابن مانع البخيل وأبي صرعة الظلوم المتهور وحدوث الانقسام الأول في أسرة السعدون.

إمارة كويبدة

ورث عبدالله بن مانع الإمارة عن أخيه حسن بين عامي 1625م و1630م، وقد ذكر الرحالة البرتغالي ديللا فاليه أن عبدالله كان أميرا لكويبدة التي تبعد عن البصرة 6 فراسخ، وكان يجمع الأموال وإتاوات الطرق باسم الإمارة الأفرسيابية، كما يذكر أسماء بعض الشيوخ الذين يسيطرون على المناطق الصحراوية الممتدة على طريق القوافل بين البصرة والشام، والذين كانوا يجمعون الإتاوات للأمير عبدالله بن مانع.

 وقد كانت علاقة الأمير عبدالله بالأمير أفراسياب جيدة، لكنها سرعان ما توترت بعد اختلافهما على الطريقة التي يهاجمان فيها أمير الجزائر عيسى الحويشي، إذ يبدو أن أمير المنتفق كان يرغب بأن يعامل كأمير في حين يبدو أن أمير البصرة كان يعامله كموظف ليس إلا، وأن عليه أن ينفذ الأوامر ويهاجم قوات الحويشي دون إبداء المشورة أو التخطيط، وكانت بداية التوتر حين رفض عبدالله أوامر القائد البصري فاصطدم الجيشان وانسحب مقاتلو المنتفق فجهز أمير البصرة قوات من البصرة، وقبيلتين مواليتين لإمارة أفراسياب، فانسحب أمير المنتفق بمقاتليه إلى كويبدة، ثم اتجه غربا ناحية الصحراء ليأمن هجوم البصريين ومواليهم، ثم بدأ بالتودد للأمير أفراسياب حتى قبل توبته وأعطاه الأمان وأعاد له امتيازاته السابقة.

إعدام عبدالله بن مانع

ويبدو أن الأمير عبدالله بن مانع كان قليل الفطنة وعديم الدراية بشؤون السياسة، فقد بدأ يراسل أمير العرجاء، العدو اللدود لأفراسياب، وحين اكتشف أفراسياب الأمر من خلال بعض الوشاة من شيوخ القبائل الذين يبحثون عن الفرص، صارحه بذلك، فاعتذر عبدالله بن مانع، وتعهّد بعدم تكرار ذلك، وأن ولاءه لن يكون إلا لإمارة البصرة، فعفا عنه وخلع عليه الهدايا ليقربه منه ويبعده عن أمير العرجاء، لكن عبدالله بن مانع عاود الاتصال سراً بأمير العرجاء مرة أخرى، وأرسل له الهدايا، فوصلت الأخبار لأمير البصرة مرة أخرى أيضاً، فكتمها حتى أتى عبدالله زائراً فقبض عليه وأعدمه علناً ومن دون تردد أمام أهالي البصرة.

ارتكاب الخطأ نفسه

ورث حمود بن مانع الإمارة عن أخيه عبدالله في عام 1630م، ولم تدم إمارته طويلا، إذ يبدو أن الأمير أفراسياب لم يشف غليله بإعدام عبدالله، أو أنه مازال يستشعر الخطر من علاقة المنتفق بأمير العرجاء حسن آغا؛ لذا فإنه وجه ابنه علي باشا بجيش من أهالي البصرة فتتبعوا قبائل المنتفق التي تفرقت في الصحراء الجنوبية، وأعمل فيهم قتلاً ونهباً حتى لم يترك لهم ثاغية أو راغية، كما ذكر أحد المؤرخين، أي لم يترك لهم شاة أو ناقة، وكان من ضمن القتلى الأمير حمود، وكانت إحدى نتائج المعركة أن تصالح أمير البصرة مع أمير العرجاء وتعاهدا ألا يضر أحدهما بمصالح الآخر.

فترة الهدوء

لم تكن إمارة شبيب الثاني بن مانع الصخا القصيرة تحمل أية أحداث تذكر، حيث حافظ على هدوء الإمارة وتقوية ارتباطه ببغداد، ويبدو أن شبيب هذا كان خامل الهمة وديعاً، ولم يكن طموحه يتجاوز الحفاظ على الوضع الذي آل إليه، إذ كان قليل التدخل في أحداث المنتفق الداخلية، وقد التزم بتسديد كل حقوق الدولة المالية بحذافيرها وأوقاتها، وهو الأمر الذي دفع بسببه حياته، إذ قتل إثر خلاف بينه وبين بعض أبناء المنتفق بسبب متابعته لحسابات الأغنام والمواشي بنفسه، وهي مهمة كان أمراء المنتفق السابقون يأنفون عن متابعتها بأنفسهم، ويعتمدون فيها على خدمهم وعبيدهم، وقد خلفه أخوه مغامس بن مانع الصخا الذي لم تحدث في فترة إمارته التي امتدت إلى عام 1661م أية أحداث يمكن أن نذكرها في هذا المقام، وأما عثمان بن صالح الأطرش، وهو بالمناسبة الجد الأعلى لآل عثمان الشبيبيين المعروفين، فقد سار على نهج من سبقوه طلباً للسلامة لولا أن نافسه ابن عمه عبيد الشبيب على الإمارة فلجأ إلى والي بغداد يستنصره ويثبت مشيخته، وهو الأمر الذي دفع والي بغداد إلى إرسال قوة داعمة لمقاتلي عثمان ليتفرق جيش عبيد الشبيب ويولون الدبر بعد مقتل عدد منهم، وقد استمرت إمارة عثمان حتى وفاته في عام 1669م.

سنوات من الغليان

بعد وفاة عثمان خلفه ابن عمه راشد بن مغامس المعروف بأبي صرعة لتهوره وكثرة معاركه، حتى قبل استيلائه على الإمارة، وقد دشن إمارته بمساعدة الدولة العثمانية التي كانت قد احتلت البصرة وألحقتها ببغداد، وطردت أميرها حسين أفراسياب إلى الهند لتنتهي إمارة آل أفراسياب، ولولا مساعدة راشد للعثمانيين لما أمكن احتلالها وضمها لبغداد، حيث ساهم أدلاء المنتفق في تغيير وجهة القوات البغدادية من النهر الذي كانت قوات أفراسياب جاهزة ومتحفزة لاستقبال المهاجمين فيه إلى جهة البر التي لا يعرف طرقها جيداً إلا المنتفق، فدخلت القوات المهاجمة إلى البصرة من جنوبها، وكانت هذه المساعدة واحدة من أكبر الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها إمارة المنتفق على كثرة أخطائها طوال عمر الإمارة، إذ فقدت البصرة التي كانت شبه مستقلة وتسيطر عليها أسرة تجارية معروفة جداً في ذلك الوقت، وقد بنت هذه الأسرة علاقات تجارية وسياسية مع معظم القوى العالمية والإقليمية، ولو ضمت تلك المدينة إلى المنتفق، حيث كانت الظروف ملائمة لمثل هذا الضم، لوجدت الإمارة منفذاً جغرافياً وسياسياً وتجارياً مهماً نحو استقلالها عن السلطة العثمانية التي كانت في أقصى حالات ضعفها، وعدم اهتمامها بمنطقة العراق والخليج، وتركيز جل قوتها العسكرية نحو الفتوحات الأوروبية وشمال إفريقيا.

وقد جهز راشد هذا، عند انتهائه من مساعدة العثمانيين على احتلال البصرة وإعادة ضمها الى الدولة العثمانية، نفسه لمعركة مع آل حميد أ  مراء بني خالد الذين خاف من استيلائهم على صحراء العراق الجنوبية وضمها إلى إمارتهم الممتدة بين الأحساء والكويت، وقد وقعت المعركة شمالي الكويت، وكانت الغلبة لبني خالد، حيث قتل معظم فرسان المنتفق وعلى رأسهم الأمير راشد أبو صرعة الذي لم يعمر في الإمارة سوى عام واحد.

ولا يمر المؤرخون على ذكر راشد لأنه لم يعمر أكثر من عام، فيقفزون عادة من عثمان إلى مانع بن شبيب الذي حاز الإمارة في عام 1669م خلفا لأبي صرعة، فدشن إمارته بإعلان رغبته في الاستيلاء على البصرة وإعادة طموحات المنتفق السابقة، وما يميز فترة مانع وما تلاها أن مصادر الأخبار التي أرخت للإمارة وأحداث المنطقة قد تعددت منذ تلك الفترة سواء التي تحدثت عن الإمارة أو التي تحدثت عن المنطقة عامة.

وقد دشن مانع توسعة الإمارة باستيلائه على المنطقة التي تقع بين دجلة والفرات والمسماة الجزائر، ثم أتبعها بالاستيلاء على قرى جصان وبدرة ومندلي، وهي قرى تقع في الجهة الشمالية الشرقية للبصرة، وقد تسببت هذه الأحداث بعزل والي البصرة وتعيين وال جديد، ورغم أن الشريف مانع قد بدأ مفاوضات مع الوالي الجديد الذي كان هو الراغب فيها، فإنه قطعها دون مبرر وهاجم البصرة بعد وصول خبر موت كثير من أهلها بالطاعون، وقد خرج والي البصرة بجيش قليل العدد لمقاتلة جيش المنتفق في منطقة الدير على حدود البصرة بعد أن أرسل إلى والي بغداد يطلب المدد، وانتهت المعركة بهزيمة جيش البصرة ومقتل واليها، لكن مانع ومقاتليه لم يدخلوها وانتظروا وصول جيش بغداد الذي سرت الإشاعات أنه على وشك الوصول، وحين تقابل الجمعان هزم جيش بغداد وقتل واليا بغداد والموصل، واجتمع بعدها أعيان البصرة فاختاروا أحدهم، ويدعى حسين الجمال الذي وحد الكل خلفه أو لنقل وحدهم الخوف من وحشية الجيش المنتفقي، في حين خاف مانع من اقتحام البصرة بعد أن علم بتجهيزهم جيشا قوامه عشرة آلاف مقاتل، وقد استمرت الأوضاع لما يقارب العام، حيث جهز والي بغداد الجديد أحمد باشا جيشا كبيراً من أهالي بغداد والمناطق الممتدة بين بغداد والموصل، وأرسلهم بقيادة أخيه خليل باشا الذي قلده ولاية البصرة، ثم أرسل لشيخ بني كعب يأمره باللحاق بجيش البصرة لمقاتلة المنتفق الذين استقروا بالجزائر، وحين وقعت المعركة في عام 1693م كان النصر المظفر من نصيب المنتفق بقيادة مانع، ومرة أخرى لم يدخل البصرة بل بقي مرابطا على تخومها، ويبدو أن إسطنبول قد شعرت بخطورة الموقف، فأرسلت تأمره بمغادرة موقعه والعودة إلى حدود المنتفق القديمة، وزادت مخصصاته المالية وحذرته من مغبة التمرد على الدولة، وقد فهم مانع الرسالة بصورة جيدة فاختار الطاعة المطلقة وكتب إلى الباب العالي يتعهد الولاء ويعلل أسباب خروجه، لكن مانعا لم يرفض الدعوة التي وجهها له أعيان البصرة لدخولها وطرد واليها خليل باشا الذي بدأ يتعسف مع أهلها، وقد دخلها جيش المنتفق في عام 1695م وضمها لإمارة المنتفق لعامين كاملين مستغلا الثورات المتزامنة التي قامت ضد العثمانيين في معظم الأقاليم المستعمرة، لكن في عام 1697م دخلت قوات المشعشعين إلى البصرة وطردت مانعا منها، فعادت قوات المنتفق إلى حدودها القديمة مرة أخرى.

وفي عام 1701م أرسل مانع مبلغا كبيرا من المال وهدايا ثمينة ورسالة اعتذار إلى الباب العالي في إسطنبول فتم قبول اعتذاره على عادة الخليفة العثماني الذي يمكنه أن يغفر كل الخطايا من أجل حفنة من المال، وقد أقره الخليفة على إمارته القديمة فبقي هادئا حتى وفاته في عام 1703م على أصح الروايات.

مغامس الماكر

ورث مغامس بن مانع الإمارة عن أبيه في عام 1703م فألبسه والي البصرة الخلعة الرسمية لإمارة المنتفق، في حين ألبس والي بغداد الخلعة الرسمية لابن عمه ناصر بن صقر أميرا للسماوة، وهو الأمر الذي يشير إلى أول انقسام في صفوف المنتفق منذ نشأة الحلف والإمارة، مثلما يشير إلى انقسام الإدارة العثمانية في العراق إلى بغدادية وبصرية، وهي عادة لم تكن جديدة أو مفاجئة بين الولايات العثمانية، وقد عرف عن مغامس الشجاعة إلى حد التهور والمكر الكبير، إذ كان يملك من وسائل الإقناع ما كان يسحر به جليسه، لكنه كان لا يلتزم بالعهود والاتفاقات، وتكريسا لهذه الفكرة قام باحتلال البصرة وطرد واليها خليل باشا الصديق القديم مستغلا تفاقم الخلاف بينه وبين والي بغداد وميل إسطنبول لنصرة والي بغداد، وبعد دخول البصرة نادى بخلافة الباب العالي وبدأ بمكاتبة والي بغداد يعلن التبعية والطاعة.

فحكم مغامس البصرة لما ينوف على السنوات الخمس، وأدخل فيها الكثير من التطوير الإداري والإنشائي اللذين يدللان على عقلية منفتحة وكفؤة لم تعرف عن أمراء المنتفق أو أمراء وولاة المنطقة في تلك الفترة، لكنه وربما من باب الغرور أو الثقة المفرطة أعطى الأمان لقبيلة الخزاعل الخارجة للتو من هزيمة أمام القوات العثمانية، كما سمح بأن تقطن بعض قبائل شمر في الأراضي التابعة للمنتفق، وقد كانت هاربة من دفع الجراية لحكومة بغداد، فاستطاع والي بغداد أن يستغل الموقفين ضده ويؤلب عليه إسطنبول رغم أن مغامس كان يحاول المحافظة على حسن العلاقة معه ومع إسطنبول.

وكانت ثالثة الأثافي القاضية على كل شكل من أشكال العلاقة بين الطرفين، حين زار مغامس السفينة الهولندية الراسية في ميناء البصرة والتقى قائدها بيتر ماكاري ووقع معه اتفاقا يعطي بموجبه تسهيلات للشركة الهولندية التجارية، كما أصدر بطلب من قائد السفينة كتابا يلغي بموجبه الجزية التي كان يدفعها نصارى البصرة للباب العالي عن طريقه، وقد جاءت الأوامر إلى والي بغداد بتجهيز حملة كبرى للقضاء على مغامس وتنصيب ابن عمه ناصر الصقر مكانه، وفي عام 1708م بدأت قوات ديار بكر والأكراد والموصل وقبائل المنطقة الغربية تتوافد على بغداد، وسارت الحملة باتجاه البصرة، فلحق بهم في منتصف الطريق ناصر الصقر ومعه مجموعة من فرسان المنتفق الرافضين لحكم مغامس، وعند القرنة وقعت المعركة الكبرى التي استمرت أسبوعا قتل فيها ما يزيد على عشرة آلاف من مقاتلي المنتفق، وهزم مغامس وجيشه شر هزيمة، فهرب بمن بقي على الولاء إلى الأحساء، ومن هناك استطاع أن يقنع شيخ بني خالد حاكم الأحساء بتجهيزه بالسلاح، فانتقل إلى الحويزة بحراً على أمل أن يساعده صديقه أمير الحويزة في استعادة إمارته المفقودة، لكن أخباره اختفت بعد ذلك، ولم يذكر أحد من المؤرخين أي نشاط لمغامس في المنطقة، أما الجيش العثماني بقيادة والي بغداد فقد دخل البصرة عنوة بلا أدنى مقاومة، ونصب والياً جديداً لها، في حين نصب ناصر الصقر أميراً على إمارة المنتفق التي أخرج البصرة وقراها والجزائر من التبعية لها، وألحقها بولاية البصرة بموجب فرمان رسمي ليحد من طموحات أمراء المنتفق اللاحقين.

وطوال السنوات العشر الممتدة من عام 1708م الى عام 1718م كانت الإمارة أقرب الى المشيخة، حيث استمر ناصر الصقر بموجب فرمان رسمي ضامنا فقط على السماوة، في حين اقتطع لواء العرجاء منه وعين محمد بن مانع شقيق مغامس ضامنا له.

فترة من الظلم

كان محمد بن مانع شاهداً على عصر صعود نجم أخيه مغامس ثم أفوله، وما وقع بين الصعود والأفول من تفاهمات ومفاوضات وخداع وغدر ووشايات، كل ذلك جعل من محمد رجل التناقضات التي تكرست في داخله بمرور الوقت، خصوصا بعدما رأى ما حدث لأخيه وما آلت إليه الإمارة واستقرارها عند ابن عمه ناصر، ومحاولاته العديدة لاستعادتها، والتي كان مصير معظمها الفشل، حتى استطاع، بعد جهد كبير وبعد التملق للعديد من الجهات والشخصيات الفاعلة آنذاك، استعادة جزء من الإمارة المتمثل بلواء العرجاء الذي كان مركز الثقل للإمارة.

وبسبب كل هذه العوامل والترسبات التي رمت بظلالها، تكونت شخصيته المتمادية في التهور والظلم والتسلط، وارتكب العديد من الحماقات قبل أن يتسلم لواء العرجاء، ولعل أكبرها هجومه على البصرة بقصد احتلالها، وقد قضي على هجومه وقبض عليه، وأراد والي البصرة إعدامه لولا أنه دفع مبلغاً كبيراً من المال كفدية، كما قام بتهجير قبيلة الأزيرق من أراضيها في العرجاء وتوطينها في أطراف العمارة الشرقية بحجة صد هجمات بني لام المدعومين من الدولة الفارسية، وقاد حملة لتأديب القبائل الهاربة من سطوته، والتي استقرت جنوب سنام وشمال الكويت، فقتل منهم أعداداً كبيرة وفرض رسوماً عالية من أجل العفو عنهم. ثم قاد الحملة الكبرى بعد ذلك على آل غرير حكام الأحساء مناصرة لدجين سعدون آل غرير وبمشاركة الضفير في أول دخول لهم في حلف المنتفق، لكن مصير الحملة كان الفشل، وفي طريق عودتهم من الأحساء هاجموا مجاميع من القبائل الآمنة المتفرقة في الصحراء، فقتلوا ونهبوا ما استطاعوا، وبعد مدة استنجد به أمير جند البصرة المخلوع إبراهيم بيك، فهاجم محمد وقوات المنتفق البصرة واستولوا عليها وقبضوا على أمير الجند الجديد مصيري أوغلو وأعدمه محمد شنقاً، ثم أعاد الأمير السابق إبراهيم بيك على الجند من جديد، ثم خرج ومقاتلوه منها بعد أن ضمن ولاء أمير الجند له.

وبعد أن أحس بمؤامرة تطبخ ضده يشرف عليها والي بغداد بموافقة الآستانة تحالف مع حاكم الحويزة فرج الله الكعبي المدعوم من شاه إيران قولي خان، وقرر الثلاثة مهاجمة بغداد أولا، ثم احتلال البصرة بعد سقوط بغداد لكن القوات المشتركة هزمت على أبواب بغداد، فهرب محمد إلى صحراء العرجاء، ولاذ فيها إلى حين هدوء الأوضاع.

ولم يتعظ محمد بن مانع من الأحداث التي ما زالت تنقلب ضده باستمرار، حيث وجد أثناء لجوئه لصحراء العرجاء قبيلة الجشعم تنزل بها، وكان والده قد خطب إحدى بناتهم قبل سنوات، فامتنعوا عن تزويجه، وكانت الظروف تعينهم على الرفض في تلك الفترة، على عكس فترة محمد، وقد أجبرهم على النزوح معه إلى صحراء الحجرة ثم عاد بهم في الصيف إلى الشرش في بطحاء العرجاء حيث قبر أبيه، ثم خطب منهم ذات الفتاة التي خطبها والده فوافقوا مجبرين، وفي ليلة زفافها قتلها دون جريرة ودفنها بجانب قبر أبيه، ثم أكمل الاحتفالات وكأن شيئاً لم يكن، وفي الصباح شارك مع المحتفلين فوقع من فرسه وكسرت عنقه ومات في عام 1734م بعد أيام من وقوعه لتنتهي واحدة من القصص المؤلمة في تاريخ الإمارة الطويل.

مانع الصخا

هو مانع بن شبيب، وهو ابن عم حمود، فقد ورث الإمارة بعد مقتل حمود، وكان عمره قد ناهز الستين، فاجتمعت حوله قبائل المنتفق لكبر سنه وحكمته وتواصله مع الجميع قبل المعركة وبعدها، وقد كان غاية في الكرم والجود، وسمي بسببهما مانع الصخا، وقد أصبح مضربا للمثل في زمنه والأزمنة اللاحقة، فكانت قبائل المنتفق تسمي الهبات الثمينة عطية مانعية، وقد بدأ الرجل إمارته بمراسلة والي بغداد والتودد إليه حتى أقره على إمارة المنتفق، واعترفت بغداد بالإمارة من جديد، ونصحه والي بغداد بالابتعاد عن البصرة لخروجها على سيطرة العثمانيين والاتجاه ناحية العرجاء مع إمداده بالمعونة العسكرية متى ما داهمه خطر، وقد كان مانع غاية في الدهاء، إذ أغرى أمير البصرة الجديد حسين باشا أفراسياب بمهاجمة قلعة زكية التي تقع بين البصرة والعرجاء واحتلالها، فاستغل مانع الحادثة ليطالب بغداد بإرسال قواتها من أجل استعادة القلعة، وهو الأمر الذي نفذه والي بغداد دون تردد فأرسل قوات وزوارق حاملة للمدافع ليحدث مقتلة بالقوات البصرية المتحصنة بالقلعة ويعيدها له.

ولم يسعف الزمن مانع بن شبيب بتوسعة حدود الإمارة وتكريس استقلالها، حيث توفي بعد حادثة زكية بثلاث سنوات ليخلفه ابنه شبيب، وقد تكرست الإمارة في فرع الشبيب منذ ذلك الوقت حتى زوال الإمارة وخروجها من فرع محمد الوسيط إلى الأبد.

هدوء يسبق العاصفة

أصبح منيخر بن ناصر الصقر ابن عم محمد بن مانع الأمير الجديد لإمارة المنتفق بتعيين من والي بغداد بعد كراهة قبائل المنتفق لأمراء الإمارة، وعدم اهتمامهم لمن يخلف محمد لسيرته السيئة، وقد حفظ منيخر الجميل لوالي بغداد فسار بما يرضي الأتراك، ولم تعرف له أية أعمال أو مواقف سوى جباية الأموال التي عين لأجلها.

لكن وبعد ثلاث سنوات من إمارة منيخر ظهرت شخصية منتفقية جديدة سيكون لها كبير الأثر في تاريخ الإمارة وربما المناطق التي جاورتها، وهي شخصية سعدون بن محمد المانع، وقد تعددت الروايات عن كيفية بروز شخصية سعدون المحمد، لكني أميل إلى ما ذكره اثنان من المؤرخين المهمين لتلك الفترة، وهما علي الوردي في كتابه «ذكرى السعدون»، ويعقوب سركيس في كتابه «مباحث في التاريخ والجغرافيا»، فقد بلغ سعدون العشرين من عمره وبدأت ملامح فروسيته تبرز، ويجتمع حوله فرسان المنتفق، وخصوصا أبناء عمومته الذين بدؤوا يفقدون مكانتهم الاجتماعية بسبب المسلك الذي ينتهجه منيخر.

واستغل سعدون جفوة حصلت بين والي بغداد ومنيخر بسبب ضعف شخصية الأخير وتردده في زيادة حقوق الدولة، حيث عرف والي بغداد بجشعه وظلمه، وهنا قام سعدون ومعه ثلة من الفرسان بمهاجمة قلعة منيخر فتركها وهرب باتجاه السماوة، فأقام سعدون في القلعة ذاتها وجمع شيوخ قبائل المنتفق وطالبهم بمبايعته أميراً خلفاً لمنيخر، وحين أجابوه لما سأل أسقط عنهم جباية العام تقديراً لموقفهم.

ثم أرسل أحد أبناء عمومته إلى بغداد لتوضيح ما حصل وإعلان الولاء للأتراك وإخبار الوالي بإسقاط الجباية من أجل تأليف قلوب شيوخ المنتفق وتقريبهم إلى السلطة العثمانية بعدما أبعدتهم أحداث السنين الأخيرة عن الولاء للسلطة، على أن يزيد الجباية ابتداء من العام القادم، ولم يكن أمام والي بغداد الذي يخبر صعوبة حكم العرجاء وقبائلها إلا الموافقة ليبدأ فصل جديد من حكاية أخرى من حكايات المنتفق.

* كاتب وباحث كويتي

back to top