من يوميات الرحالة البريطانية غيرترود بيل قبل قرن من الزمان (الحلقة 3)

نشر في 28-10-2014 | 00:02
آخر تحديث 28-10-2014 | 00:02
من دمشق إلى حائل على ظهور الإبل
في 16 ديسمبر 1913

انطلقت رحلة غيرترود بيل من دمشق، ميممة حائل بقافلة مكونة من 17 بعيراً محملة بالمؤن والخيام، وثلاثة جمّالين، وطباخ، ومرشد، وقد تلقت تحذيرات عن المخاطر المحتملة، وبالرغم من أخذها الحيطة والحذر في ترحالها، فإن المخاطر واكبت رحلتها: حين هاجم قافلتها بعض الفرسان وسلبوا أسلحتها وذخيرتها عنوة، وانتظرت أسبوعاً حتى أعاد أحد شيوخهم ما سُلب، ثم اعترض طريقها مسؤول عثماني لمنعها من السفر؛ وبعد 10 أيام من المفاوضات المضنية، تمكنت من إقناعه بالسماح لها بالسفر.

وعند مرورها بأراضي إحدى القبائل اعترض طريقها شيخ تلك القبيلة، ولم يسمح لها بالمرور، بحجة أنها "نصرانية"، واقترح سراً على رجال قافلتها قتلها وتقاسم حاجاتها، وفي حائل ظلت غيرترود بيل حبيسة في قصر برزان قرابة 11 يوماً، وقد سجلت معاناتها في يومياتها يوماً يوماً.

وكانت، مع كل تلك المصاعب، مفعمة بالحيوية والحماسة، وقد شدها جمال الطبيعة في صحراء النفود، وكثيراً ما اعتقدت أنها دخلت إلى كوكب آخر، وأنها تعيش أجواء "ألف ليلة وليلة" الحقيقية.

وتستعرض بيل في ما يلي يومياتها من 16 ديسمبر 1913 إلى 31 ديسمبر من العام نفسه.

الثلاثاء 16 ديسمبر 1913

حمّلنا رواحلنا إيذانا ببداية الرحلة، وسارت قافلتنا في مروج خضراء بين أوراق شجر المشمش الذهبية اللون، وحقول القمح التي تتماوج تحت أشجار الزيتون الوارفة الظلال، بينما الفلاحون يقطفون الزيتون، وجمالنا ترعى شجر النبك. وفي عذرا تتفرع الطرق، وكان محمد يرغب في أن نضع الرحال ونخيم فيها لكنني رفضت. في هذه الأثناء قمنا بملء أربع قرب بالماء واشترينا ثلاث دجاجات، ومضينا في طريقنا. وعند الساعة 11:15 ترجلنا من رواحلنا ولحسن الحظ فإن الأرض منبسطة وأقمنا مخيمنا في مكان يبعد عن ضمير نحو أربعة أميال جنوبا، حسب تقديري، لم نرَ جنودا في هذا المكان وقبيلة الغياث في القيشله.

ذهب علي للبحث عن رفيق طريق يلتحق بنا، وانشغل بقية المرافقين في تجهيز المخيم والبحث عن الأشياء المتعلقة بالطبخ وبدا إبراهيم وسالم أكثر نشاطا وحيوية، والمرافقون الذين يقودون جملي هم علي وعبدالله وفرج (والأخير أسود البشرة، عبد). وباغتني محمد المعراوي وعلي بضم فلاح وكنت رافضة انضمام رجل رابع، والجمّالون الثلاثة هم من العقيلات (1)، لحسن الحظ أن الأمطار لم تهطل حتى الساعة 6 مساء، وكنا قد نصبنا خيامنا وطبخنا عشاءنا المكون من اللحم الذي جلبناه من دمشق.

 الأربعاء 17 ديسمبر 1913

هبت الرياح وهطلت أمطار غزيرة ليلة البارحة واستمرت طوال اليوم، لهذا السبب لم نستطع الرحيل، وقمت بخياطة الحقائب بعد العشاء، وكنت طوال اليوم جالسة في خيمة الرجال الكبيرة أقرأ العدد الأخير من المجلة الاسبوعية تايم Time.

الخميس 18 ديسمبر 1913

الجو بارد والثلج يغطي التلال، واستغرق تحميل رواحلنا نحو ساعتين وثلث، غادرنا الساعة 8:35 وأثناء مسيرنا كان الطريق وعرا مغطى بالطين في المناطق الزراعية، وبين الفينة والأخرى تنزلق الجمال وتسقط على الأرض، عندما كنا جنوب مخيم الرومان التحق بنا حمد اللافي من الغياث كرفيق طريق، والأخير يبدو أنه على عداء (قوماني) مع كل القبائل ما عدا الزياد والجملان، وهم من القبائل الفلاحية، ولكن بما أنه يرافقنا فلا يخشى من بني حسن، وهم أعداؤه (قوم). والذين نفكر في أن يرافقنا واحد منهم، وقد رافقنا مقابل أن ندفع له مجيديا في اليوم، سعد ومحمد الملحم يُمنحان راتبا (معاشا) من الحكومة.

وبنو حسن مجموعة مستقلة ويقال إنهم من الغياث، في الساعة 11:30 وصلنا إلى أرض بركانية وأكملنا مسيرتنا عبر أرض صخرية إلى أن وصلنا إلى تل العبد نحو الساعة 2:30 وبالقرب منه وجدنا خبراء ماء ملأنا قربنا منها. ووجدنا الأعشاب التي تنمو بين الصخور وقاع الخبراء خالية من الصخور، وتحرك نحونا رجل ممتط بعيرا وكان من الجملان يستكشف من نحن؟ وجماعته يخيمون إلى الجنوب منا. كان منظر غروب الشمس جميلا، رأينا فلاحا يحرث أرضه وقد استغرب حين رأني، تناولنا وجبة شهية من الفطر.

الجمعة 19 ديسمبر 1913

استيقظت عدة مرات من شدة البرد حيث انخفضت درجة الحرارة إلى 2 تحت الصفر، كانت الأرض مغطاة بالثلج والضباب الكثيف يلتف حولنا، وقوضنا خيامنا وحمّلنا إبلنا الأحمال بعد 11 ساعة و20 دقيقة والضباب مرهق جدا لا أحتمله. وخف قليلا وأصبح مستوى الرؤية 8 أمتار، واستطعنا مشاهدة الجبل الشرقي وكنا نسير عبر أرض زراعية منبسطة ذات صخور بركانية ويتخللها بعض التلال (إلى الشرق من تل أوبنهايم) ومررنا بمحاذاة تل ملحة القرنفل إلى يساره، وكان الضباب يغطي نصفه وبالقرب منه كومة من الصخور السوداء، ولا أعتقد أنها موغلة في القدم. وينتشر الكثير من الشيح. نصبنا خيامنا في الساعة 2:15 بالقرب من جبل المكحول. الجو دافئ بعد ظهر اليوم. جلبنا الماء من الخبراء التي لا تبعد كثيرا عن خيامنا، لم نشاهد أحدا فالقبائل الكبرى رحلت إلى الحماد.

السبت 20 ديسمبر 1913

الجو قارس ليلة البارحة، حيث انخفضت درجة الحرارة إلى 7 تحت الصفر، استيقظنا الساعة السابعة وكانت خيمة الرجال تكاد تتكسر من الصقيع، فأخذت منا وقتا لطيها وتحميلها، لم نَنْتَهِ منها حتى الثامنة. تناولتُ إفطاري مع شروق الشمس وأخذ الضباب ينقشع تدريجيا، شققنا طريقنا في أراض منخفضة نحو خبراء المكحول، التي تخلو من الماء، ويكثر بها العشب والشيح، ونحن نسير شاهدنا جبل سَيْس الذي وصلناه الساعة 12 ظهرا.

مررنا بمضارب ولد علي، فانزعج محمد عندما رأى رجلين يعتقد أنهما راعيا أغنام من الزياد، وبعد أن غادرنا خبراء سيس الجافة وصلنا إلى خبراء مليئة بالماء تبعد عنها مسافة ميلين. وكذلك هناك خبراء صغيرة شمال شرق سيس لاتزال بها بقايا مياه. وإلى الغرب والجنوب من التلال البركانية توجد مياه في تجويفات (كهوف) داخل الأرض [دحول] تنتهي ببحيرة مياه كبيرة في الجنوب الشرقي.

 في الساعة 12:30 ظهرا وصلنا إلى مكان فيه أنقاض مبان قديمة وأقمنا خيامنا هناك، ويغطي الأرض الكثير من الشيح والرمث، وتتكون المباني من مسجد صغير، وقصر له أبراج عدة، ويبرز برج أكبر من الأبراج الاخرى، ويبلغ ارتفاع القصر طابقين، ومشيد في جزء منه حمام من الطابوق وجزء من الحجر. والمسجد هو أفضل بناء تم بناؤه بطريقة منظمة من الحجارة، وأساسيات البناء من الحجارة المقطعة ولكن غرف الطابقين السفلي والعلوي مكونة من الحجارة الصغيرة وتم تمليسه بشكل منظم.

تسلقت قمة الجبل البركاني، وهو مكان مثالي لمشاهدة ما حوله وأخذت بعض الصور الفوتوغرافية، ورأيت خباري الماء الكثيرة في الشرق والجنوب، ولم أرَ أحدا من العرب وشاهدت عن بُعد جبل الدروز وجبل الصفا، ثم نزلت من الجبل وتناولت الشاي.

الأحد 21 ديسمبر 1913

أنهيت توثيق القياسات صباح اليوم، وشرعنا في الرحيل نحو الساعة 9:30 والآن أشاهد من بعيد دخانا يتصاعد من المضارب وبعض قطعان الإبل، وصعدت كومة من الصخور للتحقق مما رأينا ومن خلال المنظار المكبر [الدربيل] شاهدتهم، دون شك انهم عرب جبل الدروز، وبعد ساعة ونصف انطلق نحونا فارس يعدو بحصانه، وعند اقترابه أخذ يطلق نيران بندقيته في الهواء وأخذ يصرخ بوجه حمد عندما ذهب لمقابلته وصوب بندقيته نحوه، وذهب محمد المعراوي إليه وقال له: «يا ابن الحلال اهدأ نحن شوام وعقيل وقناصل، وكّل الله».

ودار حولنا كالمجنون وهو يصرخ « أنتم (قوم) أعداء! أنتم (عنزة)» وطلب من علي بندقيته وفروته فرماهما له، ثم جاءت مجموعة من الفرسان الآخرين لا يضعون كوفيات على رؤوسهم وأحدهم عار، وأمسك أحدهم بجمل محمد وسحب السيف المتدلي على الشداد وبدأ يرفعه بوجهينا (أنا ومحمد)، واقترب من جملي حتى أناخه، وسرق صبيان أشياء من خرجي، وبدؤوا بسلب رجالي مسدساتهم وحزام الطلقات، وكنت جالسة أراقب الوضع لا حيلة لي، ورأيت جملي ينهض من مبركه.

في هذه الأثناء أخذ فلاح يصرخ بوجوههم قائلا أنا أعرفكم وأنتم تعرفونني، لقد كان في مخيمهم قبل سنة حيث اشترى منهم إبلا، توقف الهرج والمرج وأعيد كل ما سلب منا وأشيائي الخاصة، وجاءنا شيخان وقد رحبا بنا وعادت الابتسامات ترتسم على محيانا، والقبائل العربية تخاف من أعدائها، وذهبنا إلى مضاربهم وخيّمنا بالقرب من هؤلاء نحو الساعة الواحدة بعد الظهر لكي نتجنب المخاطر المحتملة، وقد طلبنا منهم تزويدنا برفيق طريق وقد سألونا باهتمام فيما إذا رأينا عربا على طريقنا.

وجلس في مخيمنا الشيوخ، وقد أكرمت كل واحد منهم بـ5 مجيديات، وفي المساء عادوا إلى مخيمنا واستمعنا إلى أغانيهم وجلبوا لنا رفيق طريق اسمه عويش ابو علي، تحلقنا حول موقد نار القهوة، وحدثونا عن طريق قديم من قصر برقع إلى قصر الأزرق، وانجلى الصقيع. سألني عواد لماذا أرتحل إلى هنا؟ فأجبته: إنني أحب الصحراء أكثر من المدن، فأجابني: هذا صحيح، وأضاف قائلا: «لقد مكثت في دمشق الشام 14 يوما وكأنها 14 شهرا شعرت أنني سجين خلالها».

الاثنين 22 ديسمبر 1913

استمر هطول الأمطار الغزيرة حتى الثامنة صباحا، وكانت الصحراء مبللة لزجة؛ لكن هبوب الرياح قد تساعد في تجفيفها، استيقظت الساعة 9:40 والأمور أصبحت على ما يرام، وسرنا بمحاذاة الحافة الشرقية للحرة، جثم مرشدنا عويش على جمله أثناء مسيرتنا دون أن يقول كلمة واحدة، لقبه «أبوعلي»، إلا أنني أطلقت عليه لقب «أبو نعوم». نحو الساعة 2:25 خيّمنا بمقربة بأم الدو وهي أرض بركانية سوداء يكثر بها الرمث، ومقابل خيمتي توجد خبراء مليئة بالماء، والسماء ملبدة بالغيوم الكثيفة، والتلال الصخرية ممتدة أمامنا كأنها جدران بوابة خالية.

نعيش في عزلة عن العالم، نفترش الأرض ونلتحف السماء في طقس بارد، حدثنا علي عن زوجته التي تعيش في بغداد وقال إن وضعها غير (زين)، وإن أمها (كَلْبة هي اللّي خرّبَتْها). قال محمد المعراوي: هناك امرأة تتزوج بين 30 و40 زوجا وهذا غير مقبول، ورأى علي أن الأفضل زوجة واحدة فقط، ورأى محمد أنه إذا لم تنجب المرأة فمن الأفضل أن يتزوج امرأة أخرى، وإذا طلقت المرأة فيجب أن تنتظر قرابة ثلاثة أشهر، ومن بعدها تتزوج ولكن المرأة عند العرب تطلق بالصباح وتتزوج في المساء، وحدثني محمد عن مقتل هوبر على أيدي أفراد من قبيلة حرب.

وجاء الرجل الحربي إلى حائل مرتديا ملابس هوبر(2) فأمر محمد بن رشيد القبض عليه وأرسله إلى اسطنبول، ولكن لم تتخذ ضده أي إجراءات، وتم إرسال صندوقي هوبر اللذين يحتويان على أوراقه الخاصة، لكن الرجل قام بسرقة نقوده.

الثلاثاء 23 ديسمبر 1913

شرعنا بالرحيل الساعة السادسة، كان الجو باردا جدا، وبمجرد شروق الشمس طوقنا ضباب كثيف. رافقت القافلة مشيا على الأقدام حتى الساعة 9:30 وكان الثلج الأبيض يغطي ملابسنا، غادرنا أم الدو نسير في أرض منبسطة من الساعة 8.30 إلى 9:15، إنها أرض جرداء قاحلة لا نبات فيها، أعتقد أنها وادي مقاط الذي ينحدر إلى الرحبة. نحو الساعة 10:30 انقشع الضباب وشاهدنا الحَرّة إلى اليمين منا وهي تنحدر نحو الشمال الغربي على ضفاف وادي مقاط، كنا في وادٍ ومكثنا فيه حتى الساعة 12:15 ومررنا بتل فرداس الذي يقع قبالته قبر ابن ماضي أحد شيوخ العيسى الذي قتله بعيره منذ 20 عاما. تحت تل فرداس حدثنا عويش أبو علي كيف أن قبيلته غزت قبيلة عنزه وقتلت رجلا وفرسا وسلبت 40 بعيرا؛ ومنذ ذلك الحين أصبحوا «قوما» [أعداء]، وقال علي في هذا الوادي الذي نقيم فيه تعرضت قافلة محمد البسام المكونة من 200 بعير وهو في طريقه إلى نجد إلى هجوم من جانب المساعيد وصد هجومهم.

سرنا بالقرب من مكان يقال له الغدير وهذا الغدير كان مليئا بالمياه سابقا، وجمعنا كمية كبيرة من الفطر الذي ينمو بين الشجيرات، وفي الوادي هناك مُرْح [أثر] ولْد علي والمناطق التي تقع شرقي الحرة هي الحماد. وبينما كنت وعلي نتجول بحثا عن أرض لنخيم بها قال علي: يا ست دعينا ننتظر رواحلنا، كما تعرفين ليس لدينا سلاح.

الاريعاء 24 ديسمبر 1913

اكتشفت ليلة البارحة أنني قد نسيت مسدسي في المكان الذي ارتحلنا منه، وطلبت من علي أن يذهب لجلبه إلا أنه رفض وذهب بدلا منه حمد وعبدالله في الصباح الباكر.

شرعنا بالرحيل في الساعة السابعة، وصلنا قصر برقع نحو الساعة الواحدة بعد الظهر، مررنا بواديي مقاط والصواب من مناطق قبيلة عنزة وتبعد مسير 3 أيام جنوب القارة، وتبعد القارة مسير ليلة ويوم من قصر برقع. وتجلب عنزة التمور من شثاثة التي تبعد مسير أربعة أو خمسة أيام، لا آثار أو مباني قديمة عدا القلعة التي يوجد بالقرب منها قبور- وبعض عظام الموتى ظاهرة للعيان-، وآبار، وأرضها صخرية بركانية، وجدت كتابة كوفية على الجدران يبدو أنها تعود إلى عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك.

 وبعد أن تناولتُ أكوابا من الشاي قمت مباشرة بتصويرها ورسمها، كان الطقس دافئا ولأول مرة وصلت درجة الحرارة إلى 13 مئوية، استخدمت منظاري للاستكشاف عندما وصلنا قصر برقع ولم أرَ أحدا من العرب ففرحنا، كان بالقرب من مخيمنا بقايا لجثة استخرجها ضبع بحفره القبر، ما يحيط بنا ظلام دامس بينما النجوم الزاهرة تزين السماء وشدني منظرها وأنا أنعم البصر إلى الشعرى اليمانية والجوزاء وهي تتلألأ في كبد السماء.

 الخميس 25 ديسمبر 1913

كان الطقس باردا في الصباح انخفضت الحرارة إلى 2 تحت الصفر، وكان الماء متجمدا لم أستطع الاغتسال، تفحصت الكتابة الكوفية ووجدت أيضا أن هناك كتابة يونانية وأصبح من المؤكد أن القلعة رومانية. وصلنا عبدالله وحمد بأمان صباحا جالبين معهما مسدسي. وبالقرب من مخيمنا هناك بركة صخرية عليها كتابات صفائية تصعب قراءتها، لا أستطيع دراسة هذه الكتابات بدقة قبل غروب الشمس، وقبرا والد عويش وجده بالقرب من القصر، وارتفاع القصر بحدود ثلاثة طوابق. أشعل إبراهيم النار من الشيح الأخضر في القصر هذا الصباح وكان الدخان مقيتا فلام علي إبراهيم بشدة وقال: «إن الدخان والصوت يذهب بعيدا وقت الصباح»، ولهذا السبب عندما نشعل النار نستخدم النبات الجاف.

الأربعاء 31 ديسمبر 1913

ارتحلنا مع شروق الشمس نغذ الخطى وسط منطقة مرتفعة من الحرة على شريط السبخة متجهين (أنا وعلي) نحو قصر الأزرق، وصلناه الساعة الثامنة، يقع القصر في طبقة بارزة صخرية في بستان من النخيل والقصب وتحيط به الينابيع، تركت علي مع الرواحل في بستان النخيل، وذهبت إلى القلعة أو القصر دخلت من باب خلفي تحيط به صخور ثقيلة، عندما دخلت الغرفة وجدت شخصا من الدروز، استقبلني بود واحترام، وقدم لي القهوة وقال: «تفضلي يا سيدتي»؛ ثم شرعت في رسم مخطط القلعة ونسخ النقوش، في هذه الأثناء أحاط بي مجموعة من العرب ومن ضمنهم الجوفي، وهم يهتفون جميعا لن نسمح لك بعمل أي شيء دون أن تدفعي لنا بخشيشا- وإذا كتبت سطرا في دفترك فسنحرقه، طلبت من علي أن يتحدث إليهم لمعالجة الأمر.

وقاموا باغلاق البوابة الرئيسة ولم يفتحوها لنا لنخرج، فحاولت الخروج من البوابة الجنوبية الغربية. وقام علي بمحاولة تهدئة الأمور بالحديث معهم، فعدت إلى داخل القلعة، ولكن تكرر المشهد وبدأت من جديد المفاوضات، وأكد العرب أن ناصر الجوفي هو وحده سيد القلعة، وأخذني جانبا رجل عجوز هو خال ناصر، وأوضح لي أن ناصر ومن معه هم المسؤولون عن القلعة قبل ولادتي.

وعاد علي الذي ذهب بنفسه مرة أخرى إلى القلعة، وانتظرته تحت الأشجار، وأخيرا عاد العرب جميعا إلي معلنين أنهم في خدمتي، ثم عدنا مرة ثانية إلى القلعة، وجلبوا لي نقوشا اعتقد أنها جديدة، بدأت في الرسم والنسخ ووضع خطة بأن أنتهي منها قبل فترة الغداء. كانت الغرفة قذرة يعيش بها الإنسان والحيوان، وبعد الغداء أكملت القياسات وأنهيت عملي وبعد تناول الشاي ألقيت نظري على المنظر العام، الجو حار جدا في فترة ما بعد الظهر.

جاءنا رجل من كاف ذو شعر كث وعينان زرقاوان، وقال إنه يرغب بمرافقتنا إلى نجد. يقول إنه من رجال نوري الشعلان وعمل سابقا مع عبدالعزيز بن رشيد، والرجل الدرزي في القلعة اسمه فارس، وخارج عن القانون شارك مع سليم الأطرش ابن شقيق يحيى عندما قتل الأخير بالرصاص في معركة مع 14 من رفاقه ضد فصيل من الجنود الاتراك، وقتل ثلاثة أتراك وقتل منهم ثلاثة.  

أصاب الرصاص عنق وصدر سليم، وعلق محمد قائلا: هل «مات هوا» [على الفور] أما مات بعد مدة؟ أجابه فارس: مات بعد 13 شهرا من إصابته، ولا يستطيع فارس العودة الآن إلى الجبل بسبب وجود الجنود في كل مكان.

تذكرت الأسماك والبط البري والخنازير البرية في الأهوار. ونحن نودع العام 1913 بين العرب والدروز، وفي ظلال الأباطرة الرومان والمماليك، ليمنحنا الله القوة وتغسل المحبة قلوبنا!

  حدثنا فارس عن حي في اسطنبول يسكنه الدروز وإن لديهم مسجدا تحت الأرض يدخل إليه من باب سري، يقول فارس إن الدروز هاجروا إلى (حمص)، وجبل لبنان وجبل الدروز وجاء والده إلى جبل الدروز عندما كان طفلا في سن الثالثة، ووُلِدَ فارس هناك.

الهوامش

 (1) العقيلات: مجموعات من الأفراد من قبائل عربية متحضرة، أغلبهم من أهل القصيم، ومعهم أحياناً أعداد قليلة من القبائل المتنقلة يعملون بالتجارة بمختلف السلع، ويقومون أيضاً بنقل البضائع والمسافرين والحجاج بقوافل على ظهور الإبل من الجزيرة العربية إلى مصر والشام وفلسطين والعراق والعكس. وكان سلوك العقيلات يتسم بالأمانة والشجاعة والصبر والتعاون والمروءة والإخلاص والصدق. وكان المستشرقون والرحالة الغربيون يستعينون بهم أثناء ترحالهم لما يتصفون به من سجايا نبيلة.

تجدر الإشارة إلى أن أحد شباب العقيلات (خليل الرواف) -القادم من بريدة- شارك عام 1937 في أحد الأفلام السينمائية مع الممثل الشهير جون واين في فيلم «المراسل الحربي» (I cover the war) ومثل في الفيلم دور حارس بدوي لشيخ قبيلة، ويعد الرواف أول عربي مثل في هوليوود.      [المترجم]

 (2) الرحالة والمستكشف الفرنسي شارل هوبرCharles Huber، ابتعث من الجمعية الجغرافية الفرنسية لاستكشاف جزيرة العرب، مرتين: الأولى (من 1878 إلى 1882)، والثانية (من 1883 حتى 1884)، ولهوبر مساهمات رائدة في مجال جغرافيا الجزيرة العربية: كرسم الخرائط وتحديد الأماكن وإحصاء السكان، وكذلك في مجال الآثار، التي تحمّل في سبيلها مشاق السفر وضحى بحياته ثمنا لاستكشافاته، نقب عن الآثار في أماكن متفرقة من الجزيرة فاستنسخ رسوماً وكتابات أثرية عديدة في وثائقه، وعثر على «مسلة أو حجر تيماء»، التي تحوي رسوماً ونصاً بالآرامية، وقد نقله هوبر قبل مقتله بفترة قصيرة إلى فرنسا ويُعرض الآن بمتحف اللوفر.  [المترجم]

من يوميات الرحالة البريطانية غيرترود بيل قبل قرن من الزمان (الحلقة 2)

back to top