الاختطاف الجماعي يفضح فساد المكسيك
لم يعد يتصدّر معظم القتلة الصفحات الأولى في الصحف المكسيكية بعد الآن. لكنّ الاختطاف الأخير لـ43 طالباً أشعل نار الغضب في البلاد. وقد كشفت هذه القضية عن العلاقة الوثيقة بين السياسة، وتطبيق القانون والجريمة المنظّمة. وهي اليوم تفضح الضعف الذي بلغته الدولة. {شبيغل} درست الموضوع وعادت بهذا التحقيق.
تُظهر الصور المقرّبة عدداً من الأسنان السوداء البارزة من بين ما تبقّى من رماد، وتختلط بها أجزاء صغيرة من عظامٍ متفحّمة، عُثر عليها في مكبّ نفاياتٍ قريبٍ من إغوالا، بالإضافة إلى قصاصات من أكياس بلاستيك جرفتها الأمواج إلى ضفاف نهر ريو سان خوان. ويُزعم أنّ القتلة رموا ضحاياهم في النهر حتى يتخلّصوا من بقايا جثثهم المتفحّمة.
يألف كريستفورو غارسيا طبعاً هذه الصور، إذ تمّ بثّها في كلّ أرجاء البلاد في اليوم الذي ظهر فيه النائب العام المكسيكي أمام الإعلام بعد أسابيع من الشكّ، ليصرّح قائلاً إنّ اللغز الوحشي الذي أقضّ مضجع المكسيك هذا الخريف قد تمّ حلّه على ما يبدو.
تُظهر الصور المقرّبة عدداً من الأسنان السوداء البارزة من بين ما تبقّى من رماد، وتختلط بها أجزاء صغيرة من عظامٍ متفحّمة، عُثر عليها في مكبّ نفاياتٍ قريبٍ من إغوالا، بالإضافة إلى قصاصات من أكياس بلاستيك جرفتها الأمواج إلى ضفاف نهر ريو سان خوان. ويُزعم أنّ القتلة رموا ضحاياهم في النهر حتى يتخلّصوا من بقايا جثثهم المتفحّمة.
يألف كريستفورو غارسيا طبعاً هذه الصور، إذ تمّ بثّها في كلّ أرجاء البلاد في اليوم الذي ظهر فيه النائب العام المكسيكي أمام الإعلام بعد أسابيع من الشكّ، ليصرّح قائلاً إنّ اللغز الوحشي الذي أقضّ مضجع المكسيك هذا الخريف قد تمّ حلّه على ما يبدو.
بدأت هذه القضية في 26 سبتمبر عندما فتحت الشرطة في إغوالا، وهي مدينة تقع على بعد 180 كلم جنوب غربي مدينة ميكسيكو سيتي في غيريرو، النار على ثلاث حافلات يملؤها طلّابٌ كانوا متوجّهين إلى إحدى المظاهرات، فقُتل ستّة أشخاص وفُقد 43 آخرون منذ ذلك الحين. ويبدو أنّ الأدلة تشير إلى أنّ الشرطة سلّمتهم إلى قتلةٍ مأجورين يعملون لدى أحد كارتيلات المخدّرات.والرسالة التي أوصلتها الصور واضحةٌ للغاية: لا أمل في العثور على الطلّاب على قيد الحياة. لكن يصعب على غارسيا تصديق ذلك ويقول: {بضع قصاصات من البلاستيك، وأجزاء من العظام وأسنان متفحّمة... هذه كلّها لا يعتقد النائب العام حتى أنّها كافية للتعرّف إلى شخصٍ ما، فهل نكتفي بذلك؟}
يرأس غارسيا، الرجل القصير والسمين، ميليشيا مدنية. يقف في ساحةٍ كبيرة في وسط إغوالا صباحاً بعد تصريح النائب العام ويبدو منهكاً، فهو يبحث من أسابيع عن الطلاب الـ43 المفقودين، بعد أن اجتمع مع آخرين مثله جاؤوا من قرى المنطقة التي ينتمي إليها الطلّاب. فقاموا بتمشيط المناطق السكنية الجبلية النائية، والكنائس، والأكواخ والغابات. وعثروا في طريقهم على 26 مقبرةً جماعية، غير أنّهم لم يقعوا على أيّ أثرٍ عمّن يبحثون عنهم.المثوى الأخيرلا جثث. لا أدلّة. هي الطريقة التي يرى بها غارسيا الأمور، ويؤكّد إنّه لن يصدّق أيّ إضافةٍ إلّا عندما يؤكّدها خبراء الطبّ الشرعي النمساويون، الذين يعاينون الحمض النووي للبقايا في إينسبرك نيابةً عن السلطات المكسيكية.تتألّف مجموعة غارسيا من 36 رجلاً، بمن فيهم فلّاحون مثله وتجّار وأساتذة وغيرهم. قرّروا جميعاً أن يتصرّفوا بأنفسهم لأنّهم فقدوا ثقتهم بحكومتهم، فأنشؤوا مقرّاً لهم في مجلس بلدية إغوالا، لكنّ المبنى اليوم في حالة خراب بعد أن شنّ بعض السكان المحليين الغاضبين هجوماً عليه. يدعو غارسيا الغرف المحترقة في الطابق الأرضي بـ{الفندق} لأنّهم يفتحون فيها أكياس النوم ليرتاحوا.يدفع مزيجٌ من الغضب، واليأس، والتحدي والعجز بغارسيا والناس إلى البقاء في الساحة أمام مجلس بلدية محترق يبدو رمزاً إلى دولة تتراجع. يتساءلون كيف أصدر العمدة على ما يبدو قراراً بالقضاء على مجموعة من المتظاهرين السلميين، لمجرّد أنّهم سعوا حسب ما زعم إلى عرقلة حفلٍ خيري نظّمته زوجته. لمَ لم يتدخّل أيّ شخصٍ عندما سلّمتهم الشرطة المحلية إلى سفّاحين قتلة منتسبين إلى كارتيلات المخدّرات؟يظهر جلياً كم تغلغلت الجريمة في نفسية الجماهير، لا في إغوالا وحسب بل في كلّ أرجاء البلد. فقد أمسى المكسيك بلداً اعتاد العنف، والجرائم المرعبة والإحصاءات الشنيعة، وقُتلَ أكثر من مئة ألف شخصٍ في حرب المخدّرات المشتعلة من دون هوادة منذ العام 2006، مع إدراج أكثر من 25 ألف شخصٍ في عداد المفقودين. وقد باتت إراقة الدماء، والمقابر الجماعية، وقطع الرؤوس واعتقالات زعماء كارتيلات المخدّرات أمراً طبيعياً في المكسيك، لدرجة أنّ هذه الأخبار بالكاد تتصدّر اليوم الصفحات الأولى في الصحف.لكن يبدو أن الأمور مختلفة هذه المرّة بعد حادثة إغوالا. فعندما ألقى المسؤولون القبض على العمدة وزوجته الفارّين بعد أيّام قليلة على وقوع الجريمة، سارعت الصحف إلى إصدار نسخةٍ خاصّة بعد ظهر ذلك اليوم. وفي اليوم الذي تلا ظهور النائب العام، سعى المتظاهرون في ميكسيكو سيتي إلى اقتحام القصر الوطني. أمّا في تشيلبانسينغو عاصمة ولاية غيريرو، أضرم المتظاهرون النيران في مقرّ الحزب الثوري المؤسسي الحاكم في المنطقة.أُحرقوا في مكبّ للنفاياتالغضب باختصار يعمّ البلاد والشعب مغتاظٌ بسبب إعدام 43 شاباً، جميعهم معلّمون قيد التدريب، وإحراقهم في مكبٍّ للنفايات، وفقاً لآخر النظريات. عائلاتهم في الوقت عينه تستشيط غضباً بسبب انعدام اليقين وسيلٍ يكاد لا ينضب من التفسيرات الجديدة وغير المثبتة بشأن مصير أولادهم. 43 شابّاً اختفوا. إنّها قضية لا يمكن تفهّمها حتى في المكسيك، حيث تسبّبت بسخطٍ شديد لدى الشعب وأدخلت الرئيس إنريكي بينيا نييتو في أوّل أزمةٍ مهمّة في ولايته.لم يكن الرئيس مستعدّاً للجريمة التي وقعت في إغوالا. بدأ ولايته في ديسمبر من العام 2012 واعداً باتّباع نهجٍ مختلفٍ عن سلفه فيليبي كالديرون، الذي أمضى سنواتٍ طويلة في صراعٍ مع كارتيلات المخدّرات التي واجهها معتمداً على عشرات الآلاف من الجنود. أمّا بينيا نييتو، فقد قلّص عديد الجيش المخصّص لمواجهة الكارتيلات، وعزّز المكسيك في الخارج بوصفها {نمر الأزتك}. فقد اعتبر أنّ عدداً أقلّ من الوفيات يمكن أن يُترجمَ إلى استثمار أجنبي أضخم، وبدا أنّ خطّته هذه ناجعة. لكن جاء الآن اختفاء 43 طالباً ليذكّر العالم بأنّ تحسين المكسيك لأمنها لم يكن إلّا سراباً.عندما كان بينيا نييتو مسافراً حول العالم، عادت الكارتيلات لتتجمّع، ونوّعت أعمالها التجارية وأمسكت بزمام السلطة السياسية. ويُرجّح أن يكون 15 عمدةً في ولاية غيريرو وحدها أعضاءً في عصابات الجريمة المنظّمة.تدعى المجموعة التي أحكمت خلسةً قبضتها على زمام السلطة في إغوالا وسائر الولاية في خلال السنوات الأخيرة غيريروس يونيدوس (المقاتلون المتّحدون)، وهي واحدة من بين أكثر من مئة مجموعة منشقّة أبصرت النور في كلّ أرجاء البلاد غداة تفكيك الكارتيلات الكبيرة. وتلجأ هذه المجموعة بشكلٍ متزايد إلى عمليات الاختطاف وأموال الحماية التي يفرضونها سبيلاً لجني الإيرادات.وتشكّل إغوالا من وجهة نظر زعماء عصابات المخدّرات موقعاً ذا أهمية استراتيجية، فالمدينة تقع في المناطق النائية الجبلية بعيداً عن ساحل المحيط الهادئ، وعلى مفترق طريق مهمّ لنقل الكوكايين. إغوالا أيضاً مركزٌ تجاري آخذٌ في النموّ، وتقدّم فرصاً عديدةً لتبييض الأموال. جلّ ما يحتاج إليه المرء لإجراء المعاملات المهمّة هو السيطرة على الأجهزة الأمنية وعلاقة وثيقة بالبلدية.وسعى كارتيل غيريروس يونيدوس إلى جعل هذه العلاقة شديدة الوثق ووضع ببساطةٍ مرشّحه الخاص في الانتخابات البلدية.يدعى خوسيه لويس أباركا، وهو رجلٌ متزوّج كان إخوة زوجته أعضاءً رفيعي المستوى في غيريروس يونيدوس واردةٌ أسماؤهم على قائمة المطلوبين للحكومة – قبل أن يُقتلوا في وابلٍ من الرصاص. ويُظنّ أنّ حماة أباركا كانت المحاسبة لدى بيلتران ليفيا، الكارتيل الضخم الذي تمّ تفكيكه في العام 2011 والذي ابثق عنه في نهاية المطاف غيريروس يونيدوس.مثير للاستغرابأباركا نفسه كان رجلاً غنياً، بالرغم من بداياته المتواضعة كابنٍ لبائع قبّعات السومبريرو المكسيكية. باع بادئ ذي بدء أزياء الزفاف قبل أن ينتقل إلى تجارة الذهب، حتى امتلك أخيراً عدداً من محال المجوهرات و18 ملكيةً أخرى، حسبما اكتشف أخيراً المحققون، بالإضافة إلى شقة في أستراليا. كان ارتقاؤه هذا من النوع المثير للاستغراب في إغوالا، لكن تُعتبر الثروة في المكسيك ميزةً إيجابية يتّسم بها السياسيون، إذ يأمل الناخبون أنّ الأشخاص الأثرياء لا يحتاجون إلى السرقة من الخزينة العامة. وحتى لو كانوا متحضّرين من عائلاتٍ فقيرة، إلّا أنّهم يعلمون كيفية الإتيان بالازدهار. أباركا إذاً كان أشبه ببرلسكوني المكسيك.لا تزال صورةٌ لأباركا، يظهر فيها نحيفاً ومرتدياً قميصاً بنفسجياً من الحرير تحت بدلة داكنة اللون، معلّقةً على أحد جدران مجلس البلدية المحترق في إغوالا. يبدو كمغنًّ ما في إحدى الملاهي اللاتينية على متن سفينة سياحية.وتُظهر قريباً من الصورة لوحةٌ على درجٍ هابطٍ بشكلٍ واضح المعايير التي اعتمدها أباركا في اختيار المعيّنين في مناصب أساسية في حكومته. محافظ الموازنة والاقتصاد والعقارات كلّها كانت من نصيب أقرباء زوجته، وقد عيّن أيضاً ابن عمّه فيليبي فلوريس رئيساً على الجهاز الأمني.وفي خلال السنة الأولى من ولايته، بنى أباركا أضخم مركزٍ تجاري في المدينة، ضمّ مطاعم أجنبية للوجبات السريعة وسينما. وقد افتتح على أطراف البلدة مسبحاً عاماً مع منزلقٍ مائي كبير مخصّص لرجال الأعمال. أمّا زوجته التي انتقلت إلى المكتب المجاور لمكتبه في مجلس البلدية، فترأست أضخم مؤسسة خيرية في المدينة.لم يتساءل أحدهم جهاراً عن مصدر الأموال التي أنجز بها أباركا مشاريعه، لكن ظهرت بعض الأدلّة غير المطمئنة. فالسيارة الرباعية الدفع التي استخدمها في تجواله في البلدة كانت من الطراز نفسه الذي يحبّذه زعماء عصابات المخدّرات، فيما كانت الفيلا التي قطن فيها محاطةً بجدرانٍ مرتفعة تحمل أسلاكاً شائكة، كأنّه يملك ما يجب أن يخبّئه. وقد انتشرت أيضاً شائعات كثيرة. ويفيد صحافيٌ كان قد تجرّأ أن يتكهّن علناً بشأن علاقات العمدة بأنّ زوجة أباركا هدّدته في إحدى الحفلات الراقصة بأنّها سوف تقطع إحدى أذنيه. ولم يكن ذلك، حسبما يؤكّد الصحافي، كلاماً مجازياً.لكن يميل معظم القصص التي يرويها الناس في إغوالا إلى التركيز على قضية آرتورو هيرنانديز كردونا، زعيم مجموعةٍ من المزارعين المحليين اخترقت رصاصةٌ رأسه في شهر مايو بعد نقاشٍ حادّ في أحد اجتماعات مجلس البلدية. طالب كردونا بالأسمدة التي كان أباركا قد وعده بها في خلال حملته ودعاه علناً بالكاذب وبرجل المافيا. وفي طريق عودته إلى المنزل في قريته، اختفى كردونا مع ستّة مزارعين آخرين، وعاد سائقهم ليظهر مجدّداً ويدلي بشهادته، لكن لم يتمّ أبداً فتح تحقيق في القضية.{وظيفة جيّدة وآمنة}صبيحة هذا اليوم، أُعطي نويل مجموعةً من المنشورات التي عليه أن يوزّعها على سائقي الدرّاجات النارية في أرجاء المدينة. وتنبّه هذه المنشورات إلى ضرورة ارتداء خوذة وتفادي الغرامات. يمشي نويل في ساحة مجلس البلدية حيث يضع رجال كريستفورو غارسيا الآن 43 كرسياً فارغاً، لكنّه لا يفكّر مرّتين. فنويل شرطيّ لأكثر من 13 عاماً ويودّ أن يبقى في منصبه، لكنّه لا يعلم إذا ما سيتمّ الإبقاء عليه بعدما جرى. يعترف بأنّها وظيفة جيّدة وآمنة، بل حتى أفضل من وظيفته السابقة في كانكون، حيث عمل كحارس أمن في أحد الفنادق.ثمة أكثر من 1600 وحدة شرطة في المكسيك، تحتلّ بينها الشرطة المحلية كالتي ينتمي إليها نويل مركزاً متدنياً في سلسلة القيادة، وهي صاحبة الرابط الأضعف، فلا يجني أعضاؤها سوى سبعة آلاف بيسو، أي نحو 414 يورو شهرياً. يكفي هذا الأجر لتلبية احتياجاتهم الأساسية، لكنّه لا يكفي ليمكّنهم من شراء سيّارةٍ أو هاتفٍ ذكي. ويضيف نويل: {هذا طبعاً ما يجعل الناس تشكّك بنا}. ثمّ يضع إصبعه على فمه كأنّه تفوّه بأكثر من اللازم. ويشير إلى أنّ بعض الأشخاص يختبئ في مداخل المباني حتى يبلغ عن أيّ حركةٍ مثيرة للريبة.يُقال إنّ 60 بالمئة من الشرطيين في إغوالا عملوا لصالح كارتيلات المخدّرات. ويُزعم أنّهم تلقّوا مقابل خدماتهم المال نقداً من العمدة الذي أشيع أنّه يوزّع نحو 300 ألف بيسو شهرياً. وقد أعلن رسمياً أنّ هذه المصاريف هي من أجل {الإنفاق على الوجبات الخفيفة}. وفي المقابل، يغضّ رجال الشرطة النظر عندما يجول ناقلو المخدّرات في إغوالا، أو يبلغون زعماء المافيات بالمداهمات الوشيكة. ويردف نويل: { لا تسأل الشرطة المحلية عندما تُعطى أمراً ما، بل تنفّذه على الفور}.ليلة الـ26 من سبتمبر، فيما كان الطلّاب متّجهين في ثلاث حافلات مستأجرة إلى المدينة، تلقّى زملاء نويل في المناوبة أمراً، يُزعم أنّه صدر من مكتب العمدة، للتخلّص منهم.الرابط الأضعفكانت قضية كردونا، أي العنف التعسفي الذي يمكن أن يطال أياً كان وفي أيّ لحظة، على الأرجح أحد الأسباب التي أراد من أجلها الطلّاب التظاهر في 26 سبتمبر. كانوا متوجّهين من إغوالا إلى أيوتزينابا، وهي قريةٌ تبعد ثلاث ساعات بالسيّارة وتقع فيها كلية المعلمين التي تشتهر بتمرّدها. ويقول الناجون من هذه المجموعة إنّهم أرادوا أن يتوجّهوا إلى مظاهرة في مكسيكو سيتي بعد أن توقّفوا في إغوالا. لم يعوا أنّ زوجة العمدة، ماريا دي لوس أنجلس بينيدا، اعتزمت تلك الليلة أن تعلن عن خطّتها للترشّح إلى الانتخابات البلدية لتخلف زوجها.يؤكّد المتظاهرون اليوم في كلّ أرجاء البلاد إنّ ما جرى في إغوالا يجري في كلّ بقعةٍ في المكسيك. إنّهم يجولون في مسيراتٍ في المدن التي أمست غريبةً بالنسبة إليهم، إذ يحكمها سياسيون لا يستطيعون بعد اليوم الوثوق بهم لأنّه لم يعد واضحاً إذا ما كانوا يحملون السلاح تحت بدلاتهم. يشعر المواطنون بأنّهم غير محميّين في الشوارع لأنّ الزيّ الرسمي الذي يرتديه رجال الشرطة أيضاً يشي ببعضٍ من نواياهم الحقيقية.عندما عثر المحققون من مكتب النائب العام على مستودعٍ للأسلحة قبل أسبوعين، وجدوا معها أيضاً أزياءً رسمية ترتديها الشرطة بالإضافة إلى عددٍ من بنادق الكلاشينكوف والأسلحة المضادة للطائرات. بعد أن يسدل الليل ستاره، يسير أشخاصٌ في الشوارع مرتدين الزيّ الرسمي مع قناعٍ يغطّي الوجه. من يكونون؟ ما الذي يريدونه؟ من تُراه مستعدٌّ لتقديم شكوى جنائية عندما يجلس متواطئ محتملٌ مقابلهم في مخفر الشرطة؟بدأ العمّال في ساحة مبنى بلدية إغوالا يحمّلون الأنقاض، فيخرجون المكاتب والمستندات إلى الشارع، متجاوزين مجموعةً من ضبّاط الشرطة المحلية المعلَّقين والمنتظرين أمراً لينفّذوه.نويل دي لا كروز دومينغز واحدٌ منهم. إنّه رجلٌ يبلغ الـ34 من عمره ويرتدي سروال الجينز وقميصاً. اضطرّ إلى تسليم زيّه الرسمي في 26 سبتمبر بعد أن تولّت الشرطة الفيدرالية، التي تعتبر أقلّ فساداً، زمام الأمور في إغوالا. اعتُقل 22 من زملاء نويل بعد أن تمّ إطلاق النار على حافلة الطلّاب فيما أُرسل الـ289 المتبقّون، الذين يُزعم أنّهم لم يتوّرطوا في إطلاق النار، إلى مركزٍ في الجبال حيث تلقّوا تدريباً إضافياً. أفاد نويل بأنّ التدريب تضمّن دروساً في حقوق الإنسان وأنّ أخصّائياً في علم النفس أجرى مقابلةً معه. لكن تمثّلت الفكرة، أكثر من أيّ شيءٍ آخر، في أن يبدو أنّ عملاً ما يتمّ إنجازه.بعد أسبوعٍ، أعيد نويل وزملاؤه العشرون الآخرون قبل الموعد المحدّد، ويقول: {لا يتحمّل قلبي الارتفاع في الجبال. إنّهم يخضعون الآن لنوعٍ من العلاج الوظيفي.إطاراتٌ ووقودطلبوا الدعم من بلدة كوكولا المجاورة قبل أن يتمّ إطلاق النار على الحافلة. تمكّن بعض الطلّاب من الفرار إلى التلال القريبة فيما حاصرت الشرطة 43 منهم. وليس من الصدفة ربّما أنّهم سلّموهم بعد ذلك إلى نائب قائد الشرطة سيزار نافا، وهو رجل عصابات مشتبهٌ به كان قد تسلّم منطقة كوكولا لأشهرٍ قليلة.ويُزعم أنّ نافا استدعى قائد عصابة غيريروس يونيدوس، ليتّفقا على الخطوات التالية. وفي خلال التحقيق الذي تلا اعتقاله، اعترف بأنّه أمر بتسليم السجناء إلى قتلةٍ مأجورين يعملون لدى غيريروس يونيدوس. وزعم أنّه اعتقد أنّ الطلّاب كانوا ينتمون إلى عصابةٍ مختلفة وأنّ الدفاع عن حدودهم كان على المحكّ.وأفاد الادّعاء العام أنّه تمّ اقتياد الطلّاب بعد أن تمّ تسليمهم إلى مكبّ للنفايات، وهو مكان لطالما قصده نافا ليتدرّب على إطلاق النار مع أعضاءٍ آخرين في العصابة كان قد أدخلهم سلك الشرطة. وقد أدلى ثلاثة قتلة مأجورين ينتمون إلى الكارتل المحلّي، هم باتريسيو رييس لاندا، وجوناثان أوسوريو غوميز وأوغسطين غارسيا رييس، بشهاداتهم مؤكّدين أنّهم قتلوا الطلّاب الـ43 وأحرقوا جثثهم باستخدام الإطارات والوقود.لكن ربما لم تأخذ الأحداث هذا المجرى، بل قد يكون الطلّاب على قيد الحياة، ولا يزال أفراد عائلات الطلّاب، بالإضافة إلى قائد فريق البحث، كريستفورو غارسيا، يعتقدون بأنّ الطلّاب أحياءٌ يُرزقون. إذ يبدو شائعاً للغاية أن يدلي المسؤولون في المكسيك باعترافات كاذبة حتى تصدر نتائج سريعة. ولمَ علينا أن نصدّق ما تقوله دولةٌ اخترقتها المافيا على أوسع نطاقٍ؟خرج أخيراً كريستفورو غارسيا وفريقه مجدّداً في بحثٍ جديد يضمّ 30 رجلاً. يقود غارسيا طريقهم فيما يخرجون شيئاً فشيئاً من المدينة في الطريق إلى كوكولا. يتخطّون المكبّ والمسبح العام مع المنزلق المائي الكبير، ويدخلون في نهاية المطاف في طريقٍ يصل بهم إلى التلال. وفيما تزداد الأشجار تشابكاً، يردف غارسيا: {يمكن أن يكونوا في أيّ مكان}.{لا حكومة لدينا}بعد مضيّ أكثر من ساعة، يصلون إلى قرية نائية يضع فيه أحد الحواجز حدّاً لتقدّم الموكب. يقترب منهم بضع عشرة رجال ويطلبون إليهم أن يترجّلوا من مركباتهم.يطفئ غارسيا محرّك سيّارته ويجد وزملاؤه فجأة أنفسهم يقفون عند تقاطع طرقٍ، فيما يحيط بهم رجالٌ يوجّهون إليهم نظراتٍ ملؤها الشكّ. ولا يعلم أيّ شخصٍ مجدّداً هوية هؤلاء الذين يضعون الأقنعة.يسألهم رجلٌ يفوقهم سنّاً يعتمر قبّعة سومبريرو ويبدو قائدهم: {ما الذي تريدونه هنا؟}يشرح غارسيا أنّهم يبحثون عن الطلّاب المفقودين لكنّ الرجل لا يصدّقه. ويقول إنّ قافلةً عسكرية جالت في القرية قبل بضع دقائق، ويشير إلى مروحيّة تطوف فوقهم. يبدو أنّ الجيش يجري عمليةً ما في الجوار، وربما يبحثون مرّةً أخرى عن مقابر جماعية.يسأل القائد: {ما علاقتكم بهم؟}فيجيبه غارسيا: {مع هذه الحكومة؟ لا شيء على الإطلاق. لا حكومة لدينا، ماذا عنكم؟}يهزّ صاحب القبّعة رأسه. تُدعى قريته تيانكيزلكو، وهي تضمّ نحو مئتي مزارعاً من السكان الأصليين. وكما هي الحال في قرى أخرى في غيريرو، أنشأ المزارعون شرطتهم الخاصّة، إذ لا بدّ، على حدّ تعبير صاحب القبّعة، من قوّة تحميهم، مضيفاً أنّه يُفقد عددٌ من الأشخاص من هنا أيضاً في غالب الأحيان.ثمّ يتغيّر فجأة الوضع. يزول الشكّ الذي كان قائماً بين المجموعتين في اللحظة التي تحاول فيها القافلة العسكرية أن تعبر القرية للمرّة الثانية. تصدّ المجموعتان الطريق وتوقفان المراكب، فيما يعمّ الصخب القرية. يطلب صاحب القبّعة من الفرقة العسكرية أن تثبت هويّتها، لكن لا يحمل الجنود أيّ مستندٍ يعرّف عنهم.ليس منطقياً طبعاً أن تطلب من الجيش أن يثبت هويّته، لكن ما يهمّ هو هذا الإجراء، والنتيجة أنّ الأمور تبقى على حالها طوال ساعةٍ من الزمن. يجلس الجنود المدجّجون بالسلاح على مركباتهم فيما يقف حولهم أتباع غارسيا ورجال القرية الذين نصّبوا أنفسهم ضبّاط شرطة، حاملين بندقيات الصيد. إنّها المكسيك بأجلى صورها في نوفمبر من العام 2014: الجميع مسلّحٌ، لكن يستحيل عليك أن تعلم من المسيطر على الأرض.