هنري كيسنجر: آمل أن نكون حكماء لنتفادى حرب 30 عاماً
• متحدثاً عن كتابه الأخير World Order
هنري كيسنجر وزير الخارجية الأكثر شهرة وتأثيراً في الولايات المتحدة. يبدو أصغر سناً من أن يكون في الحادية والتسعين من عمره. يتمتّع بتركيز عالٍ وروح دعابة من دون أن يتخلى عن حذره. فهو مستعد دوماً للدفاع عن نفسه وتبديد أي أسئلة تنتقده بوضوح. ولا عجب في ذلك بالتأكيد. صحيح أن ذكاءه لا غبار عليه، إلا أن إرثه السياسي مثير للجدل. وعلى مر السنين، بُذلت الجهود لمحاكمته لارتكابه جرائم حرب.بين عامَي 1969 و1977، كان كيسنجر مستشار الأمن القومي ثم وزير الخارجية خلال عهدي الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد. وفي هذين الدورين، يتحمل جزءاً من مسؤولية قصف فيتنام، كامبوديا، ولاوس بقنابل النابالم التي قتلت أو شوَّهت عشرات آلاف المدنيين. بالإضافة إلى ذلك، عمل كيسنجر ضد سيلفادور أليندي في شيلي، وتُوَجّه إليه تهمة معرفته بخطط القتل التي وضعتها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. وتُظهر مجموعة من المستندات رُفعت عنها السرية قبل بضعة أسابيع أن كيسنجر وضع أيضاً خططاً سرية لشنّ هجمات جوية ضد كوبا. لكن هذه الفكرة استُبعدت بعد انتخاب الديمقراطي جيمي كارتر عام 1976.
رغم ذلك، يبقى كيسنجر رجلاً يرحّب البيت الأبيض دوماً بحضوره، علماً أنه ما زال يقدّم النصح والمشورة إلى الرؤساء حتى يومنا هذا.لا تشمل سنوات كيسنجر الباكرة ما قد يشير إلى بروزه السريع في المستقبل في عالَم السياسة الأميركية. ولد في فورث في ألمانيا عام 1923 باسم هاينز ألفرد كيسنجر. وقد هاجرت عائلته اليهودية لاحقاً إلى الولايات المتحدة عام 1938. وبعد الحرب العالمية الثانية، انتقل إلى ألمانيا للمشاركة في العثور على أعضاء سابقين من الشرطة السرية النازية. درس لاحقاً العلوم السياسية وأصبح بروفيسوراً في هارفارد في سن الأربعين.نشر كيسنجر أخيراً كتابه السابع عشر، الذي يحمل عنوان: World Order (النظام العالمي). وخلال الاستعداد لهذه المقابلة، طلب أن يكون كتابه محور النقاش. رغم أصوله الألمانية وواقع أنه يقرأ {شبيغل} كل أسبوع على جهازه من نوع iPad، يفضل كيسنجر التحدث بالإنكليزية. وبعدما أمضينا معه نحو 90 دقيقة في نيويورك، أكد لنا أنه خاطر بحياته بكل ما أخبرنا به. لكن رجلاً مثل كيسنجر يدرك تماماً ما يريد أن يقوله وما لا يقوله بالتحديد.عندما ننظر إلى العالم اليوم، نلاحظ أن الفوضى متفشية فيه أكثر من أي وقت مضى، مع انتشار الحروب، الكوارث، والاضطرابات في كل مكان. فهل يعاني العالم حقاً غياباً أكبر للنظام مقارنةً بأي وقت سابق؟كلام صحيح على ما يبدو. تهددنا الفوضى من خلال انتشار أسلحة الدمار الشامل والإرهاب عبر الحدود. كذلك نرى اليوم ظاهرة المناطق غير المحكومة. وكما لاحظنا في ليبيا مثلاً، من الممكن لمنطقة غير محكومة أن يكون لها تأثير كبير في انتشار الفوضى في العالم. هكذا تتعرَّض الدولة كوحدة لهجوم، لا في مناطق العالم كله، ولكن في أجزاء كثيرة منه. في الوقت عينه، ويبدو أن هذا الأمر يشكّل معضلة، هذه المرة الأولى التي نستطيع فيها التحدّث عن نظام عالمي.ماذا تقصد بذلك؟طوال الجزء الأكبر من التاريخ وحتى وقت ليس ببعيد، شكَّل النظام العالمي نظاماً إقليمياً. لكن هذه المرة الأولى التي تستطيع فيها أجزاء مختلفة من العالم التفاعل مع مناطق العالم كله. نتيجة لذلك، يصبح النظام الجديد ضرورة في العالم المعولم. ولكن ما من قواعد مقبولة عموماً. فثمة النظرة الصينية، النظرة الإسلامية، والنظرة الغربية، فضلاً عن النظرة الروسية إلى حد ما. ولا تكون هذه النظرات متطابقة دوماً.في كتابك الجديد، تشير مراراً إلى معاهدة سلام و{يستفاليا} عام 1648، معتبراً إياها مرجعاً محدِّداً للنظام العالمي نتيجة حرب الثلاثين عاماً. ولكن لمَ تُعتبر معاهدة تعود إلى أكثر من 350 سنة مضت ملائمة اليوم؟عقد سلام و{يستفاليا}بعدما لقي نحو ربع سكان أوروبا الوسطى حتفهم بسبب الحروب، المرض، والجوع. إذاً، ارتكزت هذه المعاهدة على ضرورة التوصّل إلى اتفاق أحدنا مع الآخر لا كنوعٍ من الأخلاقيات السامية. فقررت الأمم المستقلة عدم التدخّل في شؤون دول أخرى. وهكذا أنشأت توازن قوى نفتقر إليه اليوم.هل نحتاج إلى حرب أخرى تدوم ثلاثين سنة كي نتوصل إلى نظام عالمي جديد؟سؤال وجيه. هل نحقق النظام العالمي من خلال الفوضى أم الرؤية؟ قد يعتقد البعض أن انتشار الأسلحة النووية، مخاطر التغير المناخي، والإرهاب قد تؤدي إلى أجندة مشتركة كافية. لذلك آمل أن نكون حكماء لنتفادى حرباً تدوم ثلاثين سنة.لنتحدث عن أمثلة محددة: كيف يجب أن يكون رد فعل الغرب تجاه ضم روسيا القرم؟ وهل تخشى أن تعني هذه الخطوة أن الحدود لم تعد في المستقبل راسخة وغير قابلة لأي تغيير؟القرم أحد الأعراض لا الأسباب. علاوة على ذلك، القرم حالة خاصة. شكَّلت أوكرانيا جزءاً من روسيا طوال مدة من الزمن. لا يمكننا أن نقبل مبدأ أن أي دولة تستطيع تغيير الحدود وقضم منطقة من بلد آخر. ولكن إذا كان الغرب صادقاً مع نفسه، فعليه أن يقرّ بأنه اقترف هو أيضاً الأخطاء. لا يشكّل ضمّ القرم خطوة نحو غزو العالم، لأن هذه الخطوة لا تماثل مثلاً احتلال هتلر تشيكوسلوفاكيا.ماذا تُصنَّف إذاً؟على الإنسان أن يطرح على نفسه هذا السؤال: أنفق بوتين مليارات الدولارات على الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي. وكان محورها أن روسيا دولة تقدمية ترتبط بالغرب من خلال ثقافتها، ولذلك تريد، حسبما يُفترض، أن تكون جزءاً منه. لذلك من غير المنطقي أن يقدم بوتين بعد أسبوع على انتهاء هذه الألعاب على احتلال القرم وبدء حرب بسبب أوكرانيا. لذلك، لا بد من أن نتساءل: لمَ حدث لك؟إذاً، يتحمَّل الغرب جزءاً من مسؤولية التصعيد؟نعم، لم تفهم الولايات المتحدة وأوروبا تداعيات التطورات التي بدأت مع المفاوضات في شأن علاقات أوكرانيا الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي وبلغت ذروتها مع التظاهرات في كييف. كان يجب أن تكون هذه التطورات وتأثيراتها موضوع حوار مع روسيا، مع أن هذا لا يعني أن رد روسيا ملائم.يبدو أنك تفهم بوتين جيداً. ولكن ألا يقوم بما تحذر منه بالتحديد، ناشراً الفوضى في شرق أوكرانيا ومهدداً سيادتها؟هذا مؤكد، إلا أن أوكرانيا لطالما حظيت بأهمية خاصة بالنسبة إلى روسيا. وكان من الخطأ عدم إدراك ذلك.العلاقات بين الغرب وبين روسيا أكثر توتراً مما كانت عليه قبل عقود. فهل يجب أن نقلق حيال احتمال اندلاع حرب باردة جديدة؟من الواضح أننا نواجه خطراً مماثلاً، ولكن يجب ألا نتجاهله. أعتقد أن استئناف الحرب الباردة سيشكل مأساة تاريخية. وإذا كان من الممكن تفادي هذا الصراع بالتركيز على المبادئ الأخلاقية والأمن، فعلينا محاولة ذلك.ولكن ألم يدفع ضمَّ روسيا القرم كلاً من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى رد فعل قوي بفرض عقوبات على روسيا؟أولاً، لا يستطيع الغرب أن يقبل بضم القرم. وهنا برزت الحاجة إلى تدابير مضادة. ولكن لم يقدّم أحد في الغرب برنامجاً ملموساً لاستعادة القرم. ولا يبدو أحد مستعداً للقتال لأجل استرجاع شرق أوكرانيا. هذا هو الواقع. إذاً، قد نعلن أننا لا نقبل بهذا الوضع، ولا نعامل القرم كمنطقة روسية وفق القانون الدولي، تماماً كما واصلنا التعامل مع دول البلطيق كما لو أنها مستقلة عن الحكم السوفياتي.هل من الأفضل تعليق العقوبات مع أننا لم ننل أي تنازلات من روسيا؟كلا، ولكن لديَّ تحفظات كثيرة في شأن العقوبات. فعندما نتحدَّث عن اقتصاد عالمي، ومن ثم نستخدم العقوبات داخله، تميل الدول الكبرى التي تفكّر في مستقبلها إلى حماية نفسها من المخاطر المحتملة. وهكذا تولّد اقتصاداً عالمياً إتجارياً. بالإضافة إلى ذلك، أواجه مشكلةً خاصة مع فكرة العقوبات الشخصية تلك. وسأوضح لكما السبب. ننشر لائحة بأسماء الأشخاص الذين تعرضوا لعقوبات. ولكن عندما يحين وقت رفعها، ماذا نقول؟ {بات هؤلاء الأشخاص الأربعة محررين من العقوبات، أما الأربعة الآخرون فلا}. ولكن لماذا اخترنا هؤلاء الأربعة تحديداً؟ أعتقد أن على الإنسان، حين يقدِم على خطوة ما، أن يفكر ملياً في ما يريد تحقيقه وما ستؤول إليه الأمور. فكيف ستنتهي مسألة العقوبات هذه؟ألا ينطبق هذا الأمر أيضاً على بوتين، الذي وضع نفسه في زاوية؟ وهل يقدِم على أعمال مماثلة بسبب ضعفه أو قوته؟أعتقد أن في ذلك ضعفاً إستراتيجياً مخبأ وراء قوة تكتيكية.ما تأثير ذلك في أي تفاعل معه؟من الضروري أن نتذكّر أن روسيا تشكّل جزءاً مهماً من النظام الدولي، وهي بالتالي مفيدة في حل أنواع الأزمات كافة، خصوصاً في التوصّل إلى اتفاق في شأن المسألة السورية وانتشار الأسلحة النووية في إيران. يجب إعطاء هذا الواقع أولوية على الصعيد التكتيكي في هذه الحالة تحديداً. فمن المهم من جهة أن تبقى أوكرانيا دولة مستقلة وأن تتمتّع بحق أن تقيم العلاقات الاقتصادية والتجارية التي تريد. لكنني لا أعتقد من جهة أخرى أن من الضروري أن تتمتع كل دولة بحق أن تكون حليفاً ضمن إطار عمل حلف شمال الأطلسي. وندرك جميعنا أن حلف شمال الأطلسي لن يصوّت بالإجماع مطلقاً على انضمام أوكرانيا إليه.ولكن لا نستطيع أن نقول للأوكرانيين إنهم ليسوا أحراراً في تحديد مستقبلهم.دعم عام كبيرتتحدث مثل قوة عظمى اعتادت تحقيق رغباتها كافة.كلا، لا تستطيع الولايات المتحدة أن تملي على أحد رغبتها، ويجب ألا تسعى إلى ذلك. فمن الخطأ التفكير حتى أنها تستطيع ذلك. أما بالنسبة إلى حلف شمال الأطلسي، فسيكون للولايات المتحدة صوت واحد في قرار يُتخذ بالإجماع. وقد عبَّرت المستشارة الألمانية عن هذا المنطق عينه.تبدو الولايات المتحدة منقسمة، فضلاً عن أن معدلات العدائية في المناظرات السياسية باتت عاليةً جداً. فهل ما زالت هذه القوة العظمى قادرة على اتخاذ الخطوات الحاسمة؟ يقلقني هذا الانشقاق المحلي. عندما كنت أعمل في واشنطن، كانت المعركة السياسية قاسية. لكننا كنّا نشهد تعاوناً أعمق وتواصلاً أكبر بين خصوم الحزبين الكبيرين.في الانتخابات الأخيرة، خسر الرئيس الأميركي باراك أوباما الأكثرية في مجلس الشيوخ أيضاً.صحيح من الناحية التقنية. لكن الرئيس يستطيع في الوقت عينه الدفاع عمَّا يراه صائباً، تماماً مثل الرئيس هاري ترومان بين عامَي 1946 و1948، حين مضى قدماً في خطة مارشال رغم خسارته الكونغرس.يبدأ السباق الرئاسي التالي قريباً. هل تشكّل هيلاري كلينتون مرشحة جيدة؟أعتبر هيلاري صديقة. وأظنّ أنها امرأة قوية. نعم، يمكنها الاضطلاع بهذه المهمة. ولكن من المفيد للبلد عموماً أن يشهد تغييراً في الإدارة. وعلينا نحن الجمهوريين أن نختار مرشحاً جيداً.ذكرت في كتابك أن {من الضروري تطوير النظام العالمي لا فرضه}. ماذا يعني ذلك؟يعني أننا نحن الأميركيين نشكل عاملاً مهماً بفضل قوتنا وقيمنا. فلا تصبح قوة عظمى بفضل نفوذك فحسب، بل أيضاً بالتحلي بالحكمة وبعد النظر. ولكن ما من دولة قوية وحكيمة كفاية لإنتاج نظام عالمي وحدها.ثمة جملة في الصفحة الأخيرة من كتابك يمكن اعتبارها نوعاً من الانتقاد الذاتي. فقد كتبت أنك ظننت سابقاً أنك تستطيع تفسير التاريخ، وأنك اليوم أكثر تواضعاً في حكمك على الحوادث التاريخية.تعلَّمت خلال كتابتي أن علينا اكتشاف التاريخ لا الإعلان عنه. وهذا إقرار تتوصل إليه مع التقدم في السن. لا أعتبره نقداً ذاتياً. كنت أحاول أن أوضح أن عليك ألا تظنَّ أنك تستطيع صوغ التاريخ بإرادتك فحسب. ولهذا السبب أعارض مفهوم التدخل عندما لا نعلم ما ستكون عليه تداعياته النهائية.في عام 2003، أيدتَ الإطاحة بصدام حسين. ولكن في تلك الحقبة أيضاً كانت عواقب التدخل غير أكيدة.دعني أخبرك بما فكرت. بعد الاعتداء على الولايات المتحدة، كان من الضروري أن ترسّخ هذه القوة العظمى موقفها. وكانت الأمم المتحدة قد وثَّقت انتهاكات كثيرة. لذلك اعتبرت الإطاحة بصدام هدفاً مشروعاً. فمن غير المنطقي محاولة فرض الديمقراطية من خلال الاحتلال العسكري.لمَ تبدو واثقاً إلى هذا الحد من أن ذلك غير منطقي؟إلا إذا كنت مستعداً للعمل على ذلك طوال عقود وواثقاً من أن شعبك سيؤيدك. لكن هذا على الأرجح يفوق موارد أي بلد.لهذا السبب يخوض الرئيس أوباما الحرب ضد الإرهاب من الجو مستخدماً الطائرات من دون طيار والطائرات الحربية في باكستان واليمن واليوم سورية والعراق أيضاً؟أؤيد الهجمات ضد المناطق التي تنطلق منها الاعتداءات الإرهابية. لم يسبق لي أن عبَّرت عن رأيي علانية في شأن الطائرات من دون طيار. فهي تهدد عدداً أكبر من المدنيين، مقارنة بنظيرتها في حرب فيتنام، إلا أن المبدأ يظل ذاته.تشير في كتابك إلى أن على الولايات المتحدة أن تحسم أمرها في شأن الحرب بالاستناد إلى ما يحقق {التركيبة الفضلى بين الأمن وبين الأخلاق}. هل يمكنك أن توضح لنا قصدَك؟كلا، يعتمد ذلك على الوضع القائم. فما هي مصلحتنا بالتحديد في سورية؟ هل هي إنسانية فحسب أم إستراتيجية؟ لا شك في أنك ترغب دوماً في تحقيق نتيجة تكون أخلاقية قدر الإمكان. ولكن وسط الحرب الأهلية، لا يمكنك أن تتفادى النظر إلى الواقع على الأرض. وعليك عندئذٍ أن تصدر أحكامك.أيعني ذلك أننا لأسباب منطقية معينة ولفترة محددة قد نقف إلى جانب بشار الأسد في قتاله ضد داعش؟كلا، لا يمكننا مطلقاً القتال إلى جانب الأسد، لأن ذلك يشكل إنكاراً لسنوات مما قمنا به وأكدناه. أعتقد صراحة أنه كان علينا التحاور مع روسيا والسؤال عن النتيجة التي نريدها في سورية لنعمل بعد ذلك على صوغ إستراتيجية معاً. كان من الخطأ الجزم من البداية أن على الأسد الرحيل في الحال، مع أن هذا يبقى الهدف النهائي المرجو. ولكن بعدما صرنا أسرى هذا الصراع مع روسيا، أصبح التوصّل إلى صفقة في شأن برنامج إيران النووي أكثر صعوبة.هل تؤيد أداء أوروبا دور أكثر حسماً؟نعم بالتأكيد. قبل قرن، كانت أوروبا تحتكر إنشاء النظام العالمي. أما اليوم، فتواجه خطر الإفراط في انشغالها بنفسها. تُعتبر ألمانيا الدولة الأوروبية الأكثر أهمية، وعليها أن تكون أكثر نشاطاً. أكن احتراماً وتقديراً كبيرين للمستشارة ميركل. وأعتقد أنها الشخص المناسب لقيادة ألمانيا كي تضطلع بهذا الدور، علماً أنني ألتقيت وصادقت كل مستشار ألماني.بمن فيهم فيلي برانت؟أكنُّ احتراماً كبيراً لفيلي برانت.فوجئنا برأيك هذا، فقبل بضعة أشهر نُشرت محادثة بينك وبين نيكسون تدعو فيها برانت بـ{الغبي المجنون}.عندما تُخرَج عبارات مماثلة من إطارها تصبح حقيقتها مشوشة. كنا شخصين منهكين في نهاية النهار نتبادل الأحاديث ونفكّر في المعطيات. ربما كنا نناقش اختلافاً ما في الرأي، لا أذكر ما كان بالتحديد. ساورنا بعض الشكوك حول سياسة برانت الشرقية في البداية. لكننا تعاونا معه عن كثب في وقت لاحق. اسألوا إغون بار وسيخبركم: من دون إدارة نيكسون، ما كانت سياسة برانت الشرقية لتحقّق أهدافها، خصوصاً مسألة برلين.في ألمانيا، تمثّل سياسياً مثيراً جداً للجدل. فعندما أرادت جامعة بون إطلاق اسمك على أحد أقسامها، احتج الطلاب. هل شعرت بخيبة أمل أو باستياء على الأقل؟أقدر هذا الشرف ولكنّي لم أطلب أمراً مماثلاً. ولم أعرف به إلا بعد حدوثه. لا أريد أن أكون جزءاً من هذا النقاش، لأن هذه المسألة تعود بالكامل إلى الوكالات الألمانية. أظنّ أن على ألمانيا أن تقوم بذلك لنفسها، أو أن ترفضه لأسبابها الخاصة.سياسة خارجية ومدنيونهل تُعتبر السياسة الخارجية الأميركية اليوم حكيمة وحاسمة؟نؤمن بولايات متحدة قادرة على تغيير العالم لا بالقوة الناعمة فحسب، بل بالقوة العسكرية أيضاً. إلا أن أوروبا لا تملك قناعة مماثلة.يبدو الشعب الأميركي متردداً في التدخل في شؤون العالم ويود التركيز على المسائل المحلية. يتحدث أوباما نفسه عن {بناء الأمة في الداخل}.عندما تتأمل في خمس حروب خاضتها الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، تلاحظ أنها تمتَّعت كلها بدعم شعبي كبير. كذلك تحظى الحرب الراهنة ضد داعش بدعم عام كبير. لكن السؤال الذي ينشأ: ما قد يحدث إن استمرت الحرب؟ الوضوح في تحديد نتائج الحرب أمر رئيس.ألا يجب أن يكون الهدف الأهم حماية المدنيين المعذبين في العراق وسورية؟أولاً، لا أعتقد أن من الممكن توضيح الأزمة السورية بأنها مواجهة بين حاكم ديكتاتوري لا يرحم وبين أناس عاجزين، وأن الشعب سيصبح ديمقراطياً عند الإطاحة بالحاكم المستبد.لكن المدنيين يعانون بغض النظر عن تعريفك لهذه الحرب.نعم، هذا صحيح، ويستحقون تعاطفنا ومساعدتنا الإنسانية. ولكن دعوني أوضح ما أظن أننا نشهد في سورية. يشكل هذا في جزء منه صراعاً متعدد الإثنيات وفي الجزء الآخر ثورة ضدَّ البنية القديمة في الشرق الأوسط. وإذا أراد أحد اليوم إصلاح هذه المشاكل كافة وكان مستعداً لتقديم التضحيات الضرورية، أو إذا ظنَّ أحد أنه يستطيع تحقيق ذلك كله، فيمكنه أن يقول: {من الصواب التدخل}. إلا أن هذه الخطوة تشمل اتخاذ تدابير عسكرية والاستعداد لمواجهة العواقب. لنتأمل في مثال ليبيا. لا شك في أن من المبرر أخلاقياً الإطاحة بمعمر القذافي، إلا أننا لم نكن مستعدين لنملأ الفراغ الناجم. نتيجة لذلك، نرى الميليشيات تحارب إحداها الأخرى هناك اليوم. هكذا حصلنا على منطقة غير محكومة ومخزن أسلحة لأفريقيا.لكننا نشهد وضعاً مماثلاً لا يُحتمل في سورية. فقد بدأت الدولة تتداعى، في حين تحكم المنظمات الإرهابية أجزاء كبيرة من البلد. أولم يكن من الخطأ على الأرجح عدم التدخل بغية تفادي الفوضى التي باتت تهددنا نحن أيضاً اليوم؟أيدت طوال حياتي السياسة الخارجية الفاعلة. ولكن من الضروري أن تدرك مع مَن تتعاون. تحتاج إلى شركاء يُعتمد عليهم، ولا أرى أمراً مماثلاً في هذا الصراع.كما في حرب فيتنام. ألا تندم أحياناً على السياسة العدائية التي طبقتها في ذلك البلد؟تتمنى أن أجيب بنعم.نعم بالتأكيد، فلم تتحدث كثيراً عن هذه المسألة طوال حياتك.أمضيت حياتي كلها في دراسة أمور مماثلة، ووضعت كتاباً عن فيتنام بعنوانEnding Vietnam War (إنهاء حرب فيتنام). كذلك تتناول فصول كثيرة من مذكراتي مسألة فيتنام. عليك أن تتذكَّر أن الإدارة التي خدمت فيها ورثت الحرب في فيتنام. فقد نشرت إدارة جونسون نحو 500 ألف أميركي هناك. وسحبت إدارة نيكسون هؤلاء الجنود تدريجاً، مع سحب القوات المقاتلة على الأرض عام 1971. ولا يسعني إلا أن أقول إنني وزملائي عملنا وفق ما أملاه علينا التفكير العميق. أما في التوجيهات الإستراتيجية، فكانت هذه خلاصة تفكير مطول. وقد عملت بما تمليه علي قناعاتي.* جوليان فون ميتلشتادت & إريك فولاث