زينب والخيط الذهبي
هووووفهووووف
هووووفكسمكةٍ اقتلعها رجلٌ لتوّه من شبكته وقذف بها على دكّة قاربه هكذا أخذت زينب تتقلّب في فراشها هذا الصباح،يمنةً ويسرةًيمنةً ويسرةًيمنةً ويسرةًحتى احمرت وجنتاها البيضاوان من النفخ والزفر، هكذا بلا طائلٍ في الهواء.وبعد كل تلك التقلبات، وكل تلك النفخات والزفرات من تحت دثارها الصوفي الذي حاكته لها جدّتها، استسلمت زينب أخيراً لواقع الحال. أبعدت الدثار عن وجهها... ركلته عن جسدها بقدميها، ثم مدّت ذراعيها وبسطت كفّيها، واستقبل قلبها هذا النهار؛ رغماً عنه وعنها.لكنها ورغم استسلامها للحال لم تنهض فوراً من الفراش، بل اكتفت فقط بمتعة الاستلقاء على ظهرها في انتظار قدومه هذا الصباح. ولِم لا؟ فليس من عادته أن يتأخّر عليها. وبينما هي مستلقية في انتظاره، تركت حواسها تستمتع برائحة فطائر الجبن والزعتر التي تسللت إليها من مائدة الطعام، وبرنين الأطباق والكؤوس وإبريق الشاي وهي تأخذ أماكنها على الطاولة بانتظام تأهّباً للاحتفاء.عصفورتي الصغيرة استيقظيومن فوق العش انهضيابتسمت زينب لدى سماعها إيّاه وهو يوقظها هكذا من خلف باب مغلق، من دون أن ينتظر ردًّا منها؛ كأنما هو واثق من أنها ستستيقظ على صوته؛ حتى إن كانت غارقةً في سباتٍ عميق. نهضت زينب من فراشها. وبينما كانت تتوجه إلى الحمام لتغتسل، لمحت نفسها في المرآة.توقفت، وشدّت خصل شعرها الناعمة كلها إلى الوراء، وحبستها في قبضة كفّها. تمعّنت ملياً في ملامح وجهها ذي الثلاثة عشر ربيعاً ومن دون أي خصلةٍ من خصل شعرها الكستنائي التي تنسدل عادة على وجهها وكتفيها. وبعد طول تمعّن، حرّرت خصل شعرها الواحدة تلو الأخرى من قبضتها، وهي لا تزال تنظر إلى انعكاس صورتها في المرآة. تنفست زينب الصعداء، وابتسمت لمرآتها المعلقة على الجدار.أرأيتِ؟ لا أزال عصفورة أبي الصغيرة.******دائماً، كانت مائدة الفطور صباح يوم الجمعة طقساً عائلياً يبعث الفرح والسرور في قلب تيتة فاطمة. فهو اليوم الذي ترى فيه أحفادها الثلاثة وقد التمّ شملهم جميعاً حول مائدة واحدة من دون أن يتغيّب أحد منهم في عمله أو مدرسته أو غرفة نومه. طوال تلك الأعوام التي سكنت فيها تيتة فاطمة هذا البيت منذ وفاة ابنتها ليلى، كانت هي التي تعدّ الطعام بنفسها لعائلتها، وما كانت لتسمح لأحد بأن يمدّ إصبعاً؛ لا من باب المساعدة ولا من باب التذوّق. إلّا أن كبر سنّها ووهن جسدها أرغماها على أن تتنازل عن تولي هذه المهمة لحفيدتها الكبرى سلمى التي طالما رأت فيها الإبنة البارّة التي أنعم الله بها على هذا البيت، لتحمل إرث الحفاظ على عائلتها من بعد رحيلها.مرّ عام منذ ذلك اليوم الذي تولت فيه سلمى دفّة الطهي، ورغم أنها أثبتت نجاحها في تولّي مسؤوليتها، إلا أن تيتة فاطمة ظلّت أول من يستيقظ من النوم يوم الجمعة. واليوم بالذات، استيقظت تيتة فاطمة قبل صلاة الفجر بساعتين. بعد أن ختمت صلاتها وأدعيتها وتلاوتها لسورتي النور ومريم، خلعت تيتة فاطمة عنها ثوب الصّلاة، وارتدت ثوبها الأبيض المطرّز بثلاث سلاسل من الورود الحمراء في الأمام، وثلاث مثلها على الظهر. السلسلتان اليمنى واليسرى تمتدان من خط الكتف إلى حاشية الثوب السفلى، أما السلسلة الوسطى فتمتدّ على مدى استدارة عنق الثوب حول جيدها. كل وردة من تلك الورود الحمراء نضرةٌ فاقعٌ لونها، تحيط بها خمس ورقات مصفرّة باهتٌ اخضرارها. بعدها، جلست على كرسي مزينتها، ورفعت عن المنضدة حجابها الحريري الأبيض الذي كوته لها سلمى ليلة البارحة. ورويداً رويداً، أخذت تضعه بأناة على رأسها. أخذتها الرجفة التي سرت في يدها اليسرى على حين غرة، وكاد حجابها أن يفلت منها، لكنها تداركت الوضع، وظلت رافعةً يديها في الهواء فوق رأسها حتى مرّت الرجفة بسلام، ثم فرشت حجابها على شعرها بعزّة الملكة التي تضع على رأسها التّاج.أمعنت تيتة فاطمة النظر أمامها حيث المرآة، لكن لا مرآة هناك؛ فقد اشترطت إزالتها عن الجدار قبل أن تطأ قدمها هذه الغرفة قبل اثني عشر عاماً. حينها، أزال حسين المرآة وعلقها في غرفة ابنته سلمى رافضاً أن يحطّمها ويرمي بها خارج البيت كما تمنّت عليه تيتة فاطمة. وهكذا، طردت تيتة المرآة خارج غرفتها بعد أن ازدان بها الجدار لعشرة أعوام. لكن المرآة لم تخلّف وراءها جداراً مهجوراً كما ظنّ حسين أنه سيكون الحال، بل على العكس تماماً. أضحى هذا الجدار أجمل ما في البيت كله. تراه كأنما يقف مزهواً بين كل رفاقه الجدران ببهاء المسابح التي علّقتها عليه سيّدته من كل الألوان والأحجار والأعراق... تنساب برفق على نتوءاته الخشنة؛ كأنما هي دموعٌ ذرفها الجدار يوماً على طفلٍ ضاع من قلب أمه وما عاد. ويا الله... يا الله... لكم يعشق الجدار تلك اللحظة التي يسري بها الدفء بين مسامه بعد ليلة بردٍ قارس في عزّ زمهرير الشتاء... كلما بارك نور الربّ الساطع مع بشارة الصباح مسابح تيتة فاطمة المسمَّرة على جسده العالق بين الأرض والسماءواحداًفالآخرفالآخرفالآخرحتى إذا ما باركها الربّ جميعاً، تلألأت أحجارها ساعة العناق ببريقٍ هادئٍ وخاشع يماثل بريق أدمع صاحبتها وهي تسبّح بين يديه، تتضرّع راكعةً للحصول على مغفرة يعلم الجدار يقيناً كم هي تيتة في أمس الحاجة إليها.يوم يتجلّى لها الربّوساعتها ...ساعتهايحين الحساب.*****أخذت تيتة فاطمة مكانها على رأس المائدة العامرة بأصناف فطائر الجبن والزعتر الخارجة لتوها من الفرن، وبأطباق الزبدة ومربّى المشمش والتوت والفراولة وزبدية القشطة البلديّة تتوسّطها أرغفة الخبز الساخنة مصفوفة بعضها فوق بعض. وعلى مدار المائدة، اصطفّت بانتظام كؤوس الشاي المذهبة والموزعة كل واحدة في مكانها الصحيح في انتظار الإبريق الذي ستأتي به سلمى بعد قليل. قبعت الكؤوس على المائدة متململة من طول الانتظار، فهي الأخرى لديها ما تحتفي به صباح كل جمعة بعد أن بقيت حبيسة الخزانة طوال الأسبوع، محرومةً من الشاي الذي يملأ جوفها الفارغ، محرومةً من الشفاه التي تلامسها بتلذّذ، محرومةً من الاستماع إلى أحاديث المائدة، والأشدّ قسوة من ذلك كلّه حرمانها من طلة ابن البيت. كل كأس تتضرع طوال فترة حبسها أن يأتي الدور عليها لتحل أمامه. بعض الكؤوس صادفها الحظ الحسن فحلت أمامه مرتين متتاليتين، وبعض الكؤوس مرّت عليها الأسابيع من دون أن تنتشي بريقه. لم تصدّق الكأس التي وقع عليها الاختيار لتحلّ أمامه ما حدث. فآخر مرّة حلت فيها هنا كانت قبل شهرين، والكأس التي كان من المفترض أن تحلّ أمام الابن اليوم - للمرّة الثالثة على التوالي - انزلقت من يد سلمى، فتحطمت وتناثرت أشلاؤها أسفل كرسيه. حين كنست سلمى بقايا الكأس ورمت بها في سلّة المهملات وهي تردد:انكسر الشر.. انكسر الشركل الكؤوس اقشعرّت، ليس حزناً على رفيقتها المحظوظة حتى في فنائها على الأرض التي يرتفع عليها كرسي الابن، بل لخشيتها أن لا يكتفي الشرّ هذا الصباح بكسر تلك الكأس وحدها. لكن، سرعان ما تبخّرت مخاوفها في الهواء حين وصلها صدى صوته وهو يلقي السلام، كل الكؤوس اشرأبّت أعناقها على أمل أن تراه. وطأت قدماه عتبة الباب، وطبع قبلة حنوناً على جبين جدّته، ثم انحنى على يدها فقبّلها وتبارك جبينه بملمسها، ثم سحب كرسيه وجلس إلى يمينها.– ابني الشيخ زكريا.لم ينطق لسانه بكلمة، لكنه نظر إلى جدّته وابتسم لها، وأخذ يتأمّل كأس الشاي الموضوعة أمامه، ثم حملها بين يديه. بدا عليه الإرهاق إثر انتهائه البارحة من امتحانات منتصف العام. لكنه لم يشتك لها من أيّ ألم أو تعب، هو لم يفعل ذلك ولا حتى مرّة واحدة طيلة حياته.هالولد مرضي.. فيه شي من ربنا..هكذا اعتادت تيتة أن تقول لأبيه كلما أبدى خوفه على ولده الذي لا يصيح ولا يشكو ولا يتذمّر كبقية الأولاد.تركت تيتة مسبحتها الفيروزية مسجاة على حجرها، وأخذت تمسح على شعر زكريا ولحيته اليافعة كأنما هي تتبارك به وتباركه، ثم راحت تقرأ عليه آية الكرسي، تعيدها مرة ومرتين وثلاثاً، وكادت الثلاث تضحي أربعاً لولا أن تيتة لمحت سلمى تنظر إليهما من على عتبة الباب حاملةً معها إبريق الشاي. سحبت تيتة يدها فوراً عن رأسه، وعاودت التسبيح مرة أخرى. دخلت سلمى، ووضعت أمام جدّتها إبريق الشاي، ثم جلست إلى يسارها، وحيت أخاها من دون أن تنظر إليه.أما زكرياابني زكريافعلى وقع قراءات جدّته الثلاثوبعدهاوكما كان عليه الحال قبلهاظل مبتسماً... وظل مرهقاً... وظل صامتاًيتأمّل كأس الشاي.****اكتمل النّصاب حول المائدة إلا من فرد واحد من العائلة. أخذ الجميع يختلس النظر بالتناوب في اتجاه الممرّ، منتظرين خروجها على أحرّ من الجمر. فالجميع جائع، والفطائر أصبحت جاهزة أمامهم على المائدة، تغريهم برائحتها اللذيذة على تناولها.لا! لا! لا!لن يجرؤ أحد على تناولها أو حتى لمسها حتى تبدأ تيتة فاطمة بتقديمها. وكلّهم يعلمون أن تيتة فاطمة لن تقدّمها حتى ترى العائلة بأكملها مجتمعة حول المائدة.– ابني حسين، ما لي لا أرى حفيدتي زينب على المائدة؟– لقد أيقظتها قبل قليل يا أمي. دقائق وستأتي... آه،ها هي... ها هي عصفورتي.– السلام عليكم.ردّ كل من كان يجلس إلى المائدة السلام بعد أن تنفّسوا الصعداء. فها هي زينب قد أقبلت، وتحوّل نظر الجميع من زينب إلى تيتة فاطمة. ركعت زينب عند كرسي جدّتها وقبّلت كلتا يديها.– صباح الخير تيتة.بقيت تيتة فاطمة صامتة وسيل حبّات المسبحة الزرقاء يتدفّق من بين أناملها من دون وهن أو كلل. وكذلك بقيت زينب راكعةً ورأسها مستلقٍ على حضن جدّتها، عيناها تراقبان حبّات المسبحة وهي تفترق وتجتمع كحبّات المطر؛ فتعانق الورود الحمراء التي تزين ثوب جدّتها. وصلت تيتة فاطمة إلى الحبّة الأخيرة، فرفعت رأسها وكفّيها إلى السماء حامدة الله على نعمه، ولأنه أعاد عليها وعلى عائلتها هذا الصباح في هذا اليوم المبارك والكل في خير وصحّة وعافية، ثم مسحت على رأس حفيدتها وقبلتها.– حسين يا ابني لقد ناهز عمري الثمانين، ولم أعهد بعد عصفوراً واحداً يستيقظ بعد شروق الشمس إلّا عصفورتك زينب.ضحكت زينب وضحك معها كل من كان جالساً إلى المائدة. ثم قامت وقبلت رأس جدتها، وأسرعت تجلس إلى يمين أبيها بعد أن قبّلت وجنته على استحياء. التفت الجميع إلى تيتة فاطمة بعد أن نهضت عن كرسيها وأخذت توزع الفطائر عليهم؛ كلٌّ حسب طلبه.– زعتر لابني حسين، جبن للأميرة سلمى، وزعتر وجبن للشيخ زكريا. وعصفورة أبيها زينب، أي الفطائر تشتهين؟لم تجب زينب عن سؤال جدّتها. فهي كانت تبحث عن جواب لسؤال آخر شغل بالها طيلة الدقائق العشر الماضية، وسيظل يشغل بالها عمرها القادم كله.ترى أين أضعته؟