عيوبنا وعيوب الناس!

نشر في 02-12-2014
آخر تحديث 02-12-2014 | 00:01
 د. ساجد العبدلي صار مألوفاً أن تجلس في مجلس ما، أو أن تقرأ مقالة ما أو ما شابه، فتجد من يدّعي النقد الموضوعي لزيد أو عبيد من الناس، ثم تراه وقد خلط انتقاده لموضوع عمل «زيد» بسخريته من شكله أو أصله أو فصله أو مذهبه.

أسهل شيء على "الواحد" أن ينتقد الآخرين، كل ما يحتاجه أن يجلس متكئاً ليتصيد الأخطاء والقصور والمفارقات في خلق الله من حوله، ممن يعرف ولا يعرف، الأمر سهل جداً، لأنه لا يحتاج إلى طاقة عقلية كبيرة، وأظنه كذلك يوافق نزعة بشرية كامنة في داخل الإنسان تدفعه إلى ذلك، كي يُطمْئن نفسه تلقائياً بفكرة "أنه في حال أحسن من غيره، إذن هو بخير". في المقابل، أصعب شيء هو ممارسة "النقد الموضوعي".

تلك المقولة الدارجة بأن "من رأى مصائب الناس هانت عليه مصيبته" صادقة، لكن كثيراً من الناس يمارسونها بشكل فج، فيندمجون في تتبع العثرات والزلات والبحث عن السقطات، وإن لم تكتمل أمامهم الصورة المثيرة غلّبوا سوء الظن فأكملوها من خيالاتهم على المحمل السلبي دائماً، حتى تزداد اشتعالاً وإثارة، وإن لم يجدوا شيئاً يلامس مواطن الإثارة في نفوسهم لم يتورعوا عن اختلاق الأشياء وإشعالها وتداولها بل وتصديقها!

لا يكاد أحد يسلم من الوقوع في هذا المنزلق اليوم، حتى غدا الأمر طبيعياً، وممارساً على كل المستويات، وما عاد يثير الاستهجان. صار من المألوف أن تجلس في مجلس ما، أو أن تقرأ مقالة ما أو ما شابه، فتجد من يدّعي النقد الموضوعي لزيد أو عبيد من الناس، ثم تراه وقد خلط انتقاده لموضوع عمل "زيد" بسخريته من شكله أو أصله أو فصله أو مذهبه، أو خلط الأحكام المبنية على البيانات والحقائق تجاه "عبيد" بالآراء والظنون والأوهام القائمة على النوازع الشخصية لا المعايير الموضوعية. والمفارقة الصارخة أن بيننا من الناس من اشتهروا مجتمعياً، بل صاروا من البارزين "إعلامياً"، لمجرد أنهم احترفوا السباحة والغوص في هذا المستنقع!

هذا الأمر، ولا شك، مرفوض دينياً وممجوج أخلاقياً، ولا داعي لسرد النصوص الدالة على ذلك، لكنني أعتقد أن ما يجعل عموم الناس يستسهلونه ويستمرئون ممارسته بالرغم من النهي عن ذلك والوعيد لمن يفعل، هو أن البديل السليم، أي "النقد الموضوعي"، مرتقاه صعب جداً على العموم، لأنه مهارة عقلية عالية وتسامٍ نفسي رفيع، يتطلب من طالبه الاستقصاء المتأني والبحث الدقيق عن الدلائل، ومن ثم التفكير العميق والنظر المتأمل في كل التفاصيل، على أن يسبق هذا جميعه الإخلاص للحقيقة ولا شيء سواها، مما يستلزم التجرد من أهواء النفس ونوازعها. هل رأيتم صعوبة الأمر؟!

هذه الصعوبة هي ما جعلت كثيراً من العلماء والحكماء يعزفون عن الدخول في دائرة انتقاد الآخرين، خوفاً من الوقوع في الزلل والإثم، وينشغلون عوضاً عن ذلك بالنظر في شأن أنفسهم. يقول سفيان الثوري، الذي قال عنه الإمام شمس الدين الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء"، هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين: "شغلتني عيوبي عن عيوب الناس"، ليتنا نكون مثله، ونحن أحق منه بذلك، فهو مَن هو ونحن مَن نحن، فلتشغلنا عيوبنا عن عيوب الناس!

back to top