صفحتها الجديدة

نشر في 23-09-2014
آخر تحديث 23-09-2014 | 00:01
 د. نجمة إدريس تنطلق ابنتي هذا الأسبوع لتسلم وظيفتها الجديدة، مثلها مثل جيلها من الشباب المتطلّع الذي أنهى مرحلته الجامعية للتو، وامتلأ بالأحلام والطموحات التي لا يحدها حدّ. جلستُ أتأملها كحكيم بلا حكمة، وكمحارب قديم لا يدري ماذا يزجي من نصائح ما عادت تنفع في مقامات هذا الزمان ومكانه. ولعله من الظلم بمكان أن نحشو عقول أبنائنا ببضاعة من الحكم المنتهية الصلاحية، والتي ما عادت تصلح إلا لتزيين كتب التراث، أو لكتابتها ببنط أندلسي وتعليقها في المتاحف لتدل على نمط من التفكير التجريدي المحض المنقطع الصلة بواقع الحياة.

«من جدّ وجد، ومن زرع حصد»، «لا تأخذك في الحق لومة لائم»، «قل الحق ولو على نفسك»، «الصدق منجاة»، «الصبر مفتاح الفرج»، «القناعة كنز لا يفنى»... إلخ. أمثلة هذه الحكم باتت تصلح للتندر لا غير، وربما لتذكّر الغابرين الذين أشكّ أيضاً أن تكون هذه الحكم قد نفعتهم في موقع ما أو دفعت عنهم بلاءً أو ضيماً. بل يبدو لي أنه بات من الجائز الآن محاكمة هذا اللون من «التفكير» الشديد الثقة بنتائجه، والذي تربت عليه الأجيال من خلال المناهج الدراسية والتربية البيتية، ثم ثبت مع مرور الزمن أنه مجرد أنصاب لفظية وجدت للاستهلاك «الثقافي» .

 قليل من التأمل في واقع الحياة الوظيفية الآن يحتاج ربما إلى لون من اليقظة والنظرة الفاحصة، أكثر من الركون إلى الطيبة وحُسن النوايا. فمعرفة الحقوق والواجبات الوظيفية يأتي على رأس الأولويات، ولكن للأسف هذا العنصر المهم يبدو لدينا مغيّباً ومبهماً أو من ضمن المسكوت عنه الملتحف بشيء من الخبث. ولعله يجوز لنا التساؤل: لماذا لا تُقدّم لكل مستجد على الوظيفة الحكومية وثيقة مطبوعة تحدد حقوقه المشروعة وواجباته المطلوبة ليكون على بيّنة وعلم، لئلا يرى نفسه في نهاية المطاف ضحية للجهل والغبن. بينما وفقاً للائحة سرية مهربة للنخبة «تطير الطيور بأرزاقها»، فيما يخص العلاوات والدورات الدراسية وحضور المؤتمرات العلمية وغيرها من مصالح لا يدركها إلا الضالعون في معرفة الدهاليز الوظيفية، ومدى اتقانهم للوصولية والانتهازية وغيرها من الأمراض الوظيفية المزمنة.

 وفي السياق ذاته، تمنيتُ لو تخصص الوزارات الحكومية دورة دراسية إجبارية للمستجدين على الوظيفة تتضمن معلومات مفيدة حول «أخلاقيات المهنة»، لأن أغلب أولئك الشباب يدخلون المجال بنوايا إيجابية، معتقدين أنهم سيسيرون على بساط من حرير، وأن رزقهم سيأتيهم رغداً وسط ثلة من رفاق الدرب وزملاء المهنة. بيد أن واقع الأمر يقول ان الصراع والتنافس سيظل من ضمن التحديات الوظيفية، وأن التعامل مع افرازاته ونتائجه يحتاج إلى معرفة أساسية بأخلاقيات المهنة، وبعد نظر في إدارة المشكلة، مع المحافظة على المكتسبات الشخصية ومصلحة العمل. أما مسألة احترام التراتب الوظيفي، وتطوير الذات، والعمل ضمن فريق فتظل من الاستحقاقات الوظيفية الجديرة بالاستيعاب منذ بداية المشوار.

 الآن وفي ظل الواقع العملي والوظيفي أصبح للشباب قناعات أخرى، أولها أن الوظيفة الحكومية ليست منتهى الأماني، بل انها بخضوعها للبيروقراطية والروتين وقلة الانتاجية وانعدام الحوافز والفشل الإداري باتت حقلاً طارداً للكثير من الكفاءات الشبابية. وثانيها، أن الوعي لدى هذا الجيل الجديد أخذ يتجه نحو مشروعات انتاجية ذات صفة تجارية/ تسويقية أو تنموية بشرية، تتيح لهم استغلال مهاراتهم في الابتكار والإبداع وتقديم منتَج يعبر عن ذواتهم المتطلّعة.

بل حتى في مجالات التخصص الدقيق نجدهم يقبلون على مسميات دراسية لم نألفها بعد، أو لا تستطيع عقولنا التقليدية أن تفقهها، كمجالات التصميم الغرافيكي، والفوتوغرافي، وصناعة الأفلام، والإعلام الالكتروني، وتخصص الموارد البشرية، والهندسة البيئية، والهندسة الصناعية، وهندسة الكمبيوتر... إلخ.

 لا نملك إلا أن نتمنى أن يكون أبناؤنا أفضل منّا، وأصلح لعصرهم وزمانهم، وأقدر على صياغة حياة أكثر إيجابية وجمالاً.

back to top