لماذا لا يكون الأذكياء منطقيين دوماً؟

نشر في 20-11-2014 | 00:02
آخر تحديث 20-11-2014 | 00:02
No Image Caption
تتعدد الطرق المدهشة التي يكون فيها البشر غير منطقيين. نميل إلى التفكير بأن العدد المرتفع يكون أفضل دوماً. لكننا نفشل بشكل مريع في فهم الاحتمالات وتقييم المخاطر. نبحث عن الأدلة لإثبات قناعاتنا بدل أن نصدق صحة ما تكشف عنه الأدلة. يكون الأشخاص الذين نحبهم أبرياء وصالحين ومحقين دوماً. نشتري تذاكر اليانصيب ونشتري الضمانات المطولة. نخشى الطيران لكننا نقود بسرعة فائقة.
مع ذلك، نستطيع تجاوز تلك الميول الطبيعية. أدمغتنا ليست معطلة. بل إنها تعمل بكل بساطة وفق إعداد افتراضي. لكنّ الذكاء ليس كافياً لتجاوز تلك الأوضاع الافتراضية.
وقع بول فرامبتون في {فخ عاطفي}. هو رجل مطلّق عمره 68 سنة، وقد بدأ يتواصل عبر الإنترنت مع امرأة اسمها دينيز ميلاني في نوفمبر 2011. كانت ميلاني عارضة بكيني في بداية الثلاثينات من عمرها. صحيح أنه لم يتكلم معها يوماً على الهاتف أو عبر برنامج سكايب، لكنه قرر في يناير 2012 مقابلتها في بوليفيا حيث كانت تشارك في جلسة تصوير. بعد أسبوعين، كان يقبع في سجن في بوينس آيرس بعد اعتقاله بتهمة تهريب كيلوغرامين من الكوكايين إلى داخل البلد.

هذا ما حصل باختصار: تلقى فرامبتون بطاقة من تشابل هيل في كارولاينا الشمالية إلى بوليفيا مروراً بتورنتو. حين وصل إلى تورنتو، اكتشف أن البطاقة الخاصة بالرحلة الثانية غير صالحة للاستعمال. لذا انتظر في تورنتو للحصول على بطاقة أخرى. بعد أربعة أيام، وصل إلى بوليفيا ولكن لم تكن ميلاني هناك. كانت قد توجهت إلى بروكسل للمشاركة في جلسة تصوير أخرى. فاقترحت عليه أن ترسل له بطاقة مقابل أن يجلب لها حقيبة تركتها في بوليفيا.

بعد تسعة أيام، سلّمه رجل حقيبة قماشية سوداء وفارغة. لم تكن الحقيبة من تصميم اسم مشهور ولم تكن قديمة ومن النوع الذي يمكن أن يحمل قيمة عاطفية، ولم تكن تحتوي على أي أغراض نسيتها، بل إنها مجرد حقيبة قماشية سوداء وفارغة. ملأ فرامبتون الحقيبة بملابسه القذرة وقصد المطار وكان واثقاً من أنه سيهبط قريباً في بروكسل ويتوجه إلى فندق حيث سيقابل أخيراً دينيز ميلاني.

لكنه لم يخرج من مطار بوينس آيرس.

تشير الأدلة إلى أن فرامبتون كان يعلم أن الحقيبة تحتوي على الكوكايين وأنه كان يعرف الكمية. لكنها تشير أيضاً إلى أنه ظنّ أن دينيز ميلاني كانت تحبه. يبدو أنه كان مقتنعاً بأنهما سيبيعان الكوكايين ويتزوجان ويستقران ويكوّنان عائلة.

ربما تتساءلون مثلي الآن إلى أي حد هذا الرجل غبي.

في الحقيقة، بول فرامبتون هو أستاذ فيزياء دائم في جامعة كارولاينا الشمالية في تشابل هيل وقد أصدر أكثر من 450 منشورة (إنه عدد خارق!). كذلك شارك في اختيار ثلاثة فائزين بجوائز نوبل. هو ليس غبياً إذاً.

لكن هل يمكن أن ننكر أنّ ما فعله كان غبياً؟

مثال مثبت: نادي «مينسا»

حين كنت أصغر سناً، في أواخر الثمانينات، كنت أبحث عن هدف معين مثل عدد كبير من نظرائي. بحثتُ عن أشخاص لديهم اهتمامات مشتركة أو عن محادثات تحمل التحديات أو عن علم أو أدب مشوق، أي تلك الأمور التي تجعلنا نشعر بأننا كسبنا رؤية عميقة عن معنى الحياة. لم تكن المنظمات المشككة شائعة بقدر ما هي عليه اليوم، مع أنني كنت أعرف عدداً منها، لكنها لم تكن تُعتبر مصادر للتحفيز الفكري.

لذا انضميتُ إلى {مينسا}.

لكل من لم يسمع بهذا الاسم، {مينسا} نادٍ والشرط الوحيد للانتساب إليه هو التمتع بمعدل ذكاء يسجلّه 2% من الناس، أي ما يساوي شخصاً من أصل 50، ما يعني أن الأمر ليس حصرياً جداً (بل إنه أقرب إلى شخص من أصل 25 عملياً بسبب أخطاء القياس). لكن في تلك الفترة، ظننتُ أن هذا النشاط يكفي لضمان التعرف إلى أشخاص مثيرين للاهتمام. توقعتُ أن أشعر بالغباء والرعب وسط هؤلاء الأشخاص، لكن سار الوضع على خير ما يرام. كانت المقايضة تستحق العناء.

تخيلوا مدى حماستي حين وصل ذلك المغلف إلى صندوق البريد وشاهدتُ تلك الحزمة التي ترحّب بي وتذكرت عدداً هائلاً من المناسبات و{جماعات الاهتمامات الخاصة} التي يمكن الانضمام إليها. إنه وضع مشوق، لكن لو كنت أريد بكل بساطة لعبة يرتفع فيها منسوب التحدي، كان يمكن أن ألازم المنزل وأدع والدتي تهزمني في لعبة {سكرابل}. أو كان يمكن الانضمام إلى مجموعات تهتمّ بالأدباء أو تحبّ {ستار تريك}؟ هذا أفضل بكثير!

ثم شاهدتُ جماعات {الإدراك خارج الحواس} أو {علم التنجيم} أو {الملائكة}.

سرعان ما تلاشى اهتمامي بالنادي ثم توظفتُ في شركة برمجيات وأصبحتُ محاطة بأشخاص أذكى مني. لطالما نويت خوض {تجربة} معينة في نادي {مينسا}، لكني لم أنجح في ذلك يوماً. تجمدت عضويتي مع مرور الوقت.

بعد سنوات عدة، حين كان أولادي صغاراً، جددتُ عضويتي في {مينسا} وظننتُ أن أبنائي الأذكياء والعباقرة قد يشعرون بأنهم أكثر انسجاماً مع أولاد أذكياء آخرين. كانت {جماعات الاهتمامات الخاصة} لا تزال موجودة. يمكن إيجاد هذه الأنواع من الجماعات اليوم:

• خوارق اللاشعور.

• نظريات المؤامرة.

• توقع الكوارث المستقبلية.

• تجويع القرود.

• الفئة المألوفة من الجماعات الدينية التي تشمل الملحدين أيضاً.

ثم قرأتُ {نشرة مينسا}. تعلّمتُ من إحدى القصص الواردة فيها أن العلم {لا يحصد الإجماع} في ما يخص طبيعة الاحتباس الحراري البشري الصنع وأن هذا المفهوم هو نتاج النزعة {المكارثية}. هكذا كان الوضع في عام 2008، بعد صدور بيان التوافق عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ حيث تعلن بكل حزم عن حصول إجماع علمي في شأن وجود وطبيعة التغير المناخي البشري الصنع. طرحت الكاتبة بعض الانتقادات اللاذعة والساخرة في شأن إطلاق الادعاءات من دون أدلة، لكن كانت حججها شائبة وغير منطقية بكل وضوح، ولم يكن رأيي كذلك لمجرد أنني لا أؤيد استنتاجها.

لم تُنشر الرسالة التي وجّهتها إلى المحرر. لم يفاجئني ذلك. لم أكن قد حضرتُ أي حدث من تنظيم {مينسا} وأظن أن عضويتي كانت {غير ناشطة} دوماً.

ليس مرادفاً للمنطق

تأسس نادي {مينسا} منذ أكثر من 65 سنة، وكان الهدف الأولي من تأسيسه تعزيز الذكاء لتحسين مستوى الإنسانية، لكن تبقى لائحة إنجازاته ضئيلة (على أقل تقدير). ظنّ أعضاؤه على الأرجح أن تكاتف الأشخاص الأذكياء يسمح لهم بحل مشاكل العالم. لكنّ {الذكاء} لا يعمل بهذه الطريقة.

يبدو أن معظمنا يدرك أن الذكاء ليس مرادفاً لحس المنطق. أسمع أحياناً الناس وهم يتحدثون عن {الحكمة} أو {منطق التفكير} ويقارنون هذه المفاهيم بـ{النجاح الأكاديمي}. لكن يبدو أننا نصرّ على استعمال الذكاء والمعارف لتوقع السلوك المنطقي، وكأن حس المنطق هو نتاج ثانوي للذكاء. حتى المشككون قد يعترفون غالباً بأننا لو منحنا الناس الوقائع المناسبة، فهم سيغيرون رأيهم في شأن اللقاحات والإدراك خارج الحواس والاحتباس الحراري. لكن لا يتصرف الناس بهذه الطريقة.

في الأساس، حين يتحدث علماء النفس عن {حس المنطق}، يشيرون إلى هياكل القناعات والسلوكيات التي تضمن تحقيق الأهداف بأفضل طريقة. بعبارة أخرى، إنها العمليات والسلوكيات المدروسة التي تقودنا إلى تحقيق ما نريده أو ما نحتاج إليه مثل القضاء على الجوع في العالم. قد يكون هذا الأمر مربكاً لأننا نظن عموماً أننا حققنا أهدافنا الخاصة من خلال اتخاذ معظم قراراتنا. لكنّ ما يحصل غالباً أننا نقرر طبيعة أهدافنا بعد أن نقوم بخياراتنا: نقوم بذلك لتقليص حدة التنافر المعرفي.

ما معنى {الذكاء} إذاً؟ الذكاء هو الذي يُقاس عبر اختبارات الذكاء ولكن لا معنى لذلك طبعاً. لنتحدث إذاً عن العوامل التي تقيسها اختبارات الذكاء. تقيس {القدرة المعرفية} (مع وجود هامش خطأ). لكن تكمن المشكلة في واقع أن القدرة والأداء ليسا مرادفَين.

في علم النفس، نميز بين ظروف الأداء {الاختياري} وظروف الأداء {النموذجي}. في ظروف الأداء الاختياري، يدرك المشارك أن الجميع يتوقع منه أن يبذل أفضل ما لديه وهو يعرف ما يجب فعله لتقديم أفضل أداء ممكن. ما نريد معرفته حين نستعمل اختباراً مماثلاً هو ما {يستطيع} الناس فعله. في ظروف الأداء النموذجي، نادراً ما تُستعمل التعليمات التي تسمح بتقديم أفضل أداء ممكن وقد يبدو الهدف مبهماً. ما نريد معرفته حين نستعمل هذه التدابير هو ما سيفعله الناس في أي موقف نموذجي.

تمثّل اختبارات الذكاء ظروف الأداء الاختياري. هي تقيس القدرة المعرفية. ولا يمكن تقييم حس المنطق من دون إضافة قياسات معينة في ظروف الأداء النموذجي لأن حس المنطق يشمل قابلية التفكير فضلاً عن القدرة المعرفية.

لا أهاجم اختبارات الذكاء هنا. في المقام الأول، تقيس هذه الاختبارات مستوى الذكاء فعلاً، ومن المعروف أن الذكاء عامل مفيد للغاية. إنه عنصر مهم من التفكير المنطقي أيضاً. لكنه لا يشبه حس المنطق، ومن دون منطق لا يمكن أن نقوم بالخيارات التي تحلّ المشاكل الحقيقية.

back to top