من يوميات الرحالة البريطانية غيرترود بيل قبل قرن من الزمان (الحلقة 9)

نشر في 04-11-2014 | 00:02
آخر تحديث 04-11-2014 | 00:02
من دمشق إلى حائل على ظهور الإبل
في 16 ديسمبر 1913، انطلقت رحلة غيرترود بيل من دمشق، ميممة حائل بقافلة مكونة من 17 بعيراً محملة بالمؤن والخيام، وثلاثة جمّالين، وطباخ، ومرشد، وقد تلقت تحذيرات عن المخاطر المحتملة، وبالرغم من أخذها الحيطة والحذر في ترحالها، فإن المخاطر واكبت رحلتها: حين هاجم قافلتها بعض الفرسان وسلبوا أسلحتها وذخيرتها عنوة، وانتظرت أسبوعاً حتى أعاد أحد شيوخهم ما سُلب، ثم اعترض طريقها مسؤول عثماني لمنعها من السفر؛ وبعد 10 أيام من المفاوضات المضنية، تمكنت من إقناعه بالسماح لها بالسفر. وعند مرورها بأراضي إحدى القبائل اعترض طريقها شيخ تلك القبيلة، ولم يسمح لها بالمرور، بحجة أنها "نصرانية"، واقترح سراً على رجال قافلتها قتلها وتقاسم حاجاتها، وفي حائل ظلت غيرترود بيل حبيسة في قصر برزان قرابة 11 يوماً، وقد سجلت معاناتها في يومياتها يوماً يوماً. وكانت، مع كل تلك المصاعب، مفعمة بالحيوية والحماسة، وقد شدها جمال الطبيعة في صحراء النفود، وكثيراً ما اعتقدت أنها دخلت إلى كوكب آخر، وأنها تعيش أجواء "ألف ليلة وليلة" الحقيقية.  

وتستعرض بيل في ما يلي يوميات الرحلة من 26 فبراير إلى 2 مارس 1914 من العام نفسه.

الخميس 26 فبراير 1914

بعنا 6 من الإبل بمبلغ 36 جنيها، بخسارة قدرها 15 جنيها إسترلينيا مقارنة بتكلفتها، ونفق لنا بعير كلفنا 8.5 جنيهات، ومن هنا فإن خسارتنا الإجمالية بحدود 23.5 جنيها، وبقية رواحلنا الـ13 بعيرا أرسلناها إلى النفود للمرعى، ورعاتها عودة وسيف واثنان من الرجال، وطلبت منهم إبقاءها حتى تشفى من الجرب.

قمت بكتابة رسائلي وأنا في الروشن حين زارتني لولوة والعبدة الصغيرة، جلستا بقربي وأخذتا تتحدثان، وقبل الظهر جاء الأمير الصبي عبدالله بن طلال الرشيد مع العبد، إنه فتى وسيم، عيناه سوداوان مكحولتان، ويضع على رأسه عقالا مطرزا بالذهب، ونظرته حزينة. وفي فترة بعد الظهر جاء شقيقه الأصغر محمد، أيضا نظرته حزينة وخجولة، متأبطا يد صبي صغير آخر من بيت الجبر (الذين قتل محمد كثيرا منهم بدعوى تآمرهم على حياته) أخذتهم إلى خيمتي وعرضت لهم كل شيء في الخيمة. جلسوا وأكلوا بسكويتا وتفاحا حتى حضر صالح، وجلسنا مرة أخرى في خيمة الرجال. سألت محمدا إذا كان يجيد القراءة والكتابة، فأجابني: نعم، أذهب إلى المدرسة.

وكان عبدالله قد أنهى تعليمه. وأضاف «إنه يعرف كيفية القراءة والكتابة، يعرف كل شي» ويعرف تسلق النخل، وكان لديهما عبدان صغيران يرافقانهما، وقال صالح: رفع الآن آذان العصر «ألا تنهض لتأدية الصلاة يا محمد؟» ونهضوا من المجلس ومشوا جنبا إلى جنب بطريقة رسمية حتى ابتعدوا عنا، وبدوا مثل رجال قصار القامة وهم في ثيابهم الطويلة، ولمحمد ضفائر طويلة جدا تتدلى على جانبي رأسه.

هذان الفتيان من أبناء طلال وسعود وابناه الاثنان (لديه أربع زوجات على الرغم من أن عمره نحو 20 عاما) والابن الصغير لمتعب بن عبدالعزيز: هو كل ما تبقى من أحفاد عبدالله بن رشيد.

 بعد تناول الشاي ذهبت مع سالم وسعيد العبد خارج المدينة وجلست على صخرة أمعن النظر في الكتابة على الجدران الحديثة، إنها خطوط: عبدالله بن صالح وما إلى ذلك...، داخل السور تشع حقول الذرة الخضراء كالمجوهرات، ويسمى القسم الأوسط لبُّة بوابتها إلى جنوب الشرقي (بوابة لبة)، وهناك خمس بوابات للسور بأكمله.

هناك بعض المساحات الفارغة داخل الأسوار لكن أغلبها حدائق. إلى الجنوب هناك حدائق أو بساتين كبيرة منفصلة ذات أسوار وأبراج، وتشمل هذه البساتين اللوز الوردي المزهر، أو الخوخ، وفي الوسط يظهر برج برزان الطويل الشاهق.

خرج سعود بمهمة غزو منذ شهرين، في بداية هطول الأمطار المبكرة الجيدة؛ إنها غزوة المطر، وقال إنه ربما يعود في غضون شهر، وكان قوام فرقته الغازية 800 رجل، ولم يضم القرويين لقواته لكنه تقاضى تعويضا ماديا مقابل إعفائهم من الخدمة. عندما يخرج ابن رشيد في مثل هذه الحملات يأخذ معه رعية أو اثنتين إضافيتين من الإبل وكذلك بعض الأفراس للاستعمال الاحتياطي.

وكان يمنح المؤن والأسلحة لكل رجل وفقا لعدد الرجال الذين دعاهم للانضمام إلى قواته، ووافقوا على المشاركة، يقوم الآن بغزو الرولة، وفي العام الماضي غزا بني صخر، ولا يقوم بالغزو في فصل الصيف إلا لأماكن قريبة للغاية تكون في متناول اليد، وقد قام صالح بتحديد مصلى بجوار الخيام للرجال وشكل المحراب بصف عدد قليل من الحجارة في المقدمة للإمام وحدد صفين بخط على الأرض لاصطفاف المصلين.

 أرسل إبراهيم عبده للاستفسار عن صحتي، وفي الليل جلست في خيمة الرجال، وأخذ محمد المعراوي هدايا لتقديمها إلى إبراهيم وهي: كوفية (شماغ)، وعباءة (بشت) من الحرير وعلبتان من الحلويات. وأيضا قدمت كوفيتين وحلويات إلى من أرسل لنا الخراف والأرز، وتحدث صالح عن مآسي الرشيد، وعندما عاد سعود من المدينة المنورة وجد جميع أطفال عائلة الرشيد فرع العُبَيد قد نُفّذ فيهم حكم الإعدام، وكان حمود قد أقنع – على ما أظن- ماجدا ابن أخيه بالعدول عن ذلك قائلا إنه ينبغي ألا يلوث يديه بالدم، فأجابه أنه ينبغي ألا يكون هناك دم وقام بقتلهم خنقا، قال صالح: كان «فارس وغزّاي». قتل متعب على يد سلطان بالقرب من قفار؛ وجلبت جثته ودفن في بئر في برزان. نجل عبدالعزيز الصغير، محمد، قتل بيديه، وقد توسلهم للرحمة به، وأنقذ حمود حياة سعود، وموضي هي أخت حمود وزوجة محمد، وعندما توفي تزوجها عبدالعزيز، وكان السبهان وزيرا لمحمد.

الجمعة 27 فبراير 1914

كتبت في مذكراتي: استيقظت هذا الصباح وأخذت قياس خط العرض، وأمضيتُ وقتا قليلا في الحديث مع لولوة العجوز وقمت بالتقاط صور فوتوغرافية للمنزل، وفي المساء بعد أن حل الظلام أرسل إليّ إبراهيم فرسا واثنين من العبيد هما: حسن وعيد. امتطيت صهوة الفرس وسرت في شوارع مظلمة، نظيفة جدا وخالية تقريبا، في بعض الأحايين أرى نساء يلبس أردية سوداء تتحرك على طول السور.

كان أحد مرافقي يحمل بيده فانوسا، مررنا عبر بوابة خشبية كبيرة تؤدي إلى السوق، وكانت أبواب المحال التجارية مغلقة أمامنا، وهناك مسجد في السوق تؤدي بوابته إلى القصر.

 من المسجد إلى البوابة الخشبية للقصر، هناك المقاعد أو الكراسي مصنوعة من الطين وموضوعة على جانب السور الخارجي للقصر. مررت عبر طريق ضيق بين سورين يؤدي إلى بوابة ثانية والتي قام بفتحها لنا عبد آخر.

ترجّلتُ من فرسي وذهبتُ من خلال صالة انتظار كبيرة يفصلها عن الروشن جدار طيني وهناك متاريس في أعلى السور. إن الروشن صالة فسيحة جدا وأنيقة، ويدعم سقفها أعمدة حجرية كبيرة مغطاة بالجص تنتهي بتيجان مربعة. والأرضية من جص خاص تقريبا مثل الرخام، مغطاة بسجاد، ووسائد على مدار الحائط. جلس إبراهيم أمام موقد النار، فنهض الجميع وجلست بجانبه، وتطرق حديثه حول المسارات الآمنة في التاريخ، وتناول من تحت الوسائد الدفتر الذي دوّنت به الأحداث الرئيسة بتواريخها عاما بعد عام حول تاريخ الرشيد، وقد بدأ تشييد القصر من قبل ابن علي وكانت بداية «الشيخة» المتنازع عليها بين الرشيد وتم الانتهاء من بناء السور الخارجي في عهد عبدالله والد محمد. ومن ثم بنيت الأقسام الداخلية شيئا فشيئا، وشمر ليسوا من جد واحد؛ ولكن الجعفَر الذين ينتمي إليهم الرشيد ينتسبون إلى قحطان بالقرب من اليمن، واستولوا هم على ديرة نجد «كَسْب».

ونتيجة لاهتماماتي بالآثار تحدث إبراهيم عن مسلّة قديمة حولها مجموعة من التلال تبعد نحو 4 ساعات من البلدة، وكذلك تطرق إلى وجود حجارة صغيرة مستديرة «منقّشة» (مطرّزة) تبعد نحو 4 أيام من هنا على «درب زبيدة» وصفت بأنها سليمة وعليها كتابة مسمارية.

في غضون ذلك، جلب لنا صبيان عبدان أكوابا من الشاي يعصر عليها الليمون، ثم ناولانا فناجين من القهوة الممتازة، قال إبراهيم إن بندر لم يعقب أولادا بل لديه سبع بنات، ولنايف ابن واحد فقط.

السبت 28 فبراير 1914

جاءت تركية مرة أخرى، جلست معها في الصباح، وروت لي كل تاريخها: فهي ابنة لجندي شركسي وقد تم طلاق والدتها فعادت هي وأمها إلى بلادها الأصلية، ولكن جدتها- قالت لي تركية: «الله يدخل جدتي نار جهنم»- كانت تكره أمها، مما دعاها للخروج من بيتها وعاشتا (الأم وابنتها) حياة بائسة. ضلت تركية الطريق في إحدى المرات وهي تحمل أخاها الصغير على كتفها والتقطها بعض الناس ولا تعرف مَنْ هُم وقاموا بنقلها إلى «بورصة» وبيعها هناك. وقالت إنها لم ترَ شقيقها مرة أخرى، كان اسمه مصطفى وعلامته أن أحد أصابع قدمه اليمنى ملتوٍ على الآخر– وقامت بلي أصابع قدمها الجميلة لتبين لي حالة قدم شقيقها- وكانت على الدوام تبحث عن واحد يدعى مصطفى أصابع قدمه من هذا القبيل.

وقالت إنه تم بيعها إلى ناس من أهل إسطنبول واستغرقت رحلتها 6 أيام للوصول إلى هناك، وإنها وضعت على ظهر بغل ووصلت هناك ليلا، واقتيدت إلى بيت امرأة عجوز، وبقيت هناك حتى قاربت سن الزواج وتم بيعها مرة أخرى، فاقتيدت إلى سفينة وقيل لها إنها ذاهبة لمجرد أن تشاهد منظر البحر، ومن ثم تركت هناك لأنها بيعت لرجال من العرب والذين لا تفهم كلامهم، نامت على سطح السفينة – «شفت العذاب يا غالية»- لا تعرف أحدا، واحتجزت هي ومن معها مدة 25 يوما بمحطة الحجر الصحي (الكرنتينا)، وألقوا بجثث الناس الذين لقوا حتفهم على متن السفينة في البحر، وعندما وصلوا إلى جدة اقتيدت ليلا إلى أحد المنازل، ومن ثم أرسلت إلى المدينة المنورة، ومكثت هناك مدة سنتين في بيت الشريف كخادمة لإحدى بناته- كانت والدة البنت شركسية، وجميع الخادمات العاملات في البيت شركسيات باعتبارهن أكثر جدارة بالثقة، لم تخرج من البيت إطلاقا ولم تَزُر بيت الرسول صلى الله عليه وسلم (المسجد النبوي) في المدينة المنورة، ولكنهم يصطافون بالطائف، ثم انتقلت من بيت الشريف إلى بيت عجوز اسمها هدية، امرأة مرموقة وغنية جدا تسكن مكة المكرمة.

وأعربت لها «هدية» عن رغبتها في أن تزوجها لابن لها بالتبني، وهو صبي فارسي يعيش معها، وسوف تحملها بالمجوهرات، وكانت دائما تتناول الطعام مع هدية، ووقعت في شباك حب الصبي الفارسي من النظرة الأولى- قالت تركية و«كيّفتْ» (فَرَحْتُ) بزوج المستقبل، ثم سافروا جميعا إلى نجد، وعندما وصلوا هناك أقاموا في بيت بطرف البلدة. في هذه الأثناء جاء وكيل الأمير لرؤية هدية، لا يعرف الصبي الفارسي فيما إذا كان هناك ترتيب مسبق بينهما، ولكن تركية عندما رأت الرجل بدأت تساورها الشكوك في أن هناك أمرا ما، وسرعان ما انتُزعتْ من البيت واقتيدت بعيداً، وكانت تصرخ وتنوح على طول الطريق إلى أن وصلت إلى السوق «أوه واه واه هؤلاء العرب! هؤلاء العرب بضفائر «قرون» شعورهم المتدلية وأقدامهم الحافية، واه واه»، وركض الولد الفارسي خلف تركية وهو ينتحب، وعندما وصل إلى القصر رفضوا السماح له بالدخول، وخلال الأيام القليلة الأولى رفضتْ تناول الطعام، وقالت إنها ستمكث أسبوعا.

ثم قيل لها إن الأمير يرغب فيها لتبقى بالقصر «محشومة» وبإمكانها أن تخرج إلى الحدائق وتأكل أفضل الوجبات، وأخيرا جاء الأمير محمد بن رشيد وقال لها إنها ستكون بمثابة ابنته وسيعتني بها، وأحبته كثيرا وقالت إنه رجل لا مثيل له، ولا أحد يقترب منها، وقالت: في عهده عمّت الراحة والاطمئنان الجميع، أما الآن ما إن يخرج الأمير في مهمة غزو حتى يخشى الجميع من هجوم متوقع. كل امرأة من العامة لديها جارية، ولكن الشيخات لديهن جوار يتراوح عددهن ما بين 10 و15 ولديهن كميات كثيرة من المجوهرات، ومن ضمن مجوهرات تركية القلادة التي ارتدتها عندما قابلتني أول مرة.

فاطمة هي حاكمتهن جميعا، فهي ذكية جدا وتجيد القراءة والكتابة، أما موضي فهي «غشيمة تحت أمها». ولا تقوم الشيخات بعمل أي شيء على الإطلاق طوال اليوم، أصبحت تركية وهابية، إنها تجيد القراءة والكتابة، وتؤدي الصلوات الخمس بخشوع، وفي رمضان تبدأ صلاة التراويح في رمضان من الساعة 5 حتى الساعة 10 في الصيف، وفي فصل الشتاء حتى الساعة 11، وخلال شهر الصيام قد تشعر بأوجاع في الرأس والجسم والساقين، وأداء الصلاة واجب على كل مسلم ومسلمة. وخلال الصوم تمتنع أو تمسك عن الأكل والشرب قبيل أذان الفجر إلى أذان المغرب. في فترة ما بعد الظهر قمت بالتقاط صور لتركية وللروشن، وحدثتها عن الحياة الأوروبية التي كررتها بفارغ الصبر للولوة، وسألتني ما الفرق بين المسيحيين والمسلمين، قلت: في النصف الثاني من الجهر بالإيمان the second half of the confession of faith. طلبن مني وبإلحاح أن أنطق به وقلت النصف الأول، لن أقول الثاني؟ قلت لهن يمكن أن تقول أي شيء بلسانك ولكن قد لا يخرج من قلبك، وأثناء خروجي للنزهة قيل لي إن بعض نساء السبهان قادمات لرؤيتي، فانتظرتهن لكنهن لم يجئن. تم إرسالهن إلي ليخبرنني بأن سليمان قد قال «غربت الشمس». أرسل إبراهيم عبدا لرؤيتي في المساء مع بعض الهدايا، قالت تركية إن الناس هنا يعتقدون أن النساء مثل الكلاب وهكذا يعاملوهن. ليسوا مثل الإنكليز أو الأتراك، وفي اليوم الذي سقط فيه عبدالعزيز كان غازيا ابن سعود بالقرب من ديرته، وعندما خيم بقواته حذره رجاله وأشاروا عليه أن يشدد الحراسة على مخيمه وألّا ينام أو يشعل النيران وكان يرفض الاستماع لنصائحهم قائلا إن ابن سعود لا يجرؤ على مهاجمته.

وفي منتصف الليلة باغتهم العدو، حتى وهم يرون ابن سعود لم يتجرأ أحد على إيقاظ الأمير، وفي نهاية المطاف ذهب أحد رجاله محاولا إيقاظه بلمس قدمه، وقال: إنه استيقظ ومازال يرفض تصديق ذلك، وعندما داهمهم العدو نهض مسرعا متجها نحو حصانه، وعلى عجل امتطى صهوة الحصان معتقدا أن من حوله جماعته ولكنهم كانوا جماعة ابن سعود، وعرفه العدو حين سمع صوته فقتل.

الأحد 1 مارس 1914

أرسل إبراهيم لي فرسا اليوم، وفي الوقت نفسه أعاد الهدايا التي قد أهديتها له ولزامل، وبعث الخازندار متسائلا عما إذا كانت مني أو من محمد المعراوي، وبعد لحظات قليلة ظهرت امرأة ومعها سلة، ركبت الفرس وذهبت إلى حديقته التي كانت مليئة بالخوخ المثمر واللوز والتفاح، ومن ثم قمت بجولة على أسوار المدينة.

ساحتا لبدة وسماح هما فقط المسورتان، عندما جئت لمناقشة الوضع مع المعراوي على مائدة طعام الغداء جلست فترة مع لولوة، ووجه علي دعوة لكل الرجال لتناول العشاء بعد موافقة خاصة من إبراهيم!

عادوا نحو الساعة 5.30، كان الجو حارا جدا وخانقا، فشعرت بصداع وقت العشاء فذهبت إلى الفراش في وقت مبكر، ولكن ليس للنوم، أرسلت تركية مع العبدة بعضا من النارنج والليمون، في فترة ما بعد الظهر قرأت كل «سفر أعمال الرسل Acts» وشعرت وكأنني في بيتي بمواجهة متكافئة بين الرومان وبولص (1) وغمرني إحساس بالراحة معه أيضا.

الاثنين 2 مارس 1914

طقس اليوم رياح مثيرة للغبار وزخات مطر خفيفة، ناقشت الخطط مع رجالي ثم ذهبت إلى الروشن وكتبت خريطة طريقي، جاءتني الجواري فرادى وأزواجا وأخذن يثرثرن بهدوء، وأخيرا طلبت منهن المغادرة، ذهبن مرددات «يا بَعَد حيّي»! تحوم طيور الغربان فوق سماح وكذلك طيور الرخمة الكبيرة التي لها صوت (نقيق) كصوت طائر الحدأة. وفي الليل سمعت نعيق بومة صغيرة تنعق بهدوء، أيقظني صياح ديك بالقرب من خيمتنا صباح أمس– واشترينا ديكا صغيرا وطهوناه، وتناولته وكان لحمه قاسيا جدا وكبده كانت أفضل جزء منه– وأصبحت في جو عائلي حميم في هذا المكان الموحش.

قبل شروق الشمس (صلاة الفجر) وفي الليل (صلاتا المغرب والعشاء) أسمع صالح يرتل القرآن أثناء أداء الصلوات- بصوت ناعم رخيم وجميل جدا، وتساءل سالم عن طريقة الخشوع في الصلاة وقال إن كثيرا من الرجال في دمشق الشام قد يقطعون صلاتهم للرد على سؤال ما، ثم يمضون قدما في تكملتها قائلين: «بسم الله الرحمن...» يجب التأكيد على أنه إذا قمت بالكثير من الإيماءات والحركات التي في غير محلها أثناء تأدية الصلاة أصبحت صلاتك باطلة برمتها.

جاءني أبو قاسم (محمد المعراوي) بعد أن قابل إبراهيم وتحدث إلى فاطمة (وهي منقبة)، كلاهما أبدى عدم علمه بمصير الحوالة المالية التي من المفترض أن يتم صرفها لي.

هنا، ومن الواضح أنهما لن يصرفاها لي، وأنا الآن لا أملك سوى 40 جنيها، وهو قد يكفي لمصاريف الرحلة إذا سمح لنا إبراهيم بالذهاب، وسأقابل إبراهيم هذه الليلة، إنه يوم مشوب بالحذر والقلق «خير إن شاء الله! ما يصير إلا خير».

يرى سالم أن عادات الزواج لدينا قاسية وصعبة لأنها لا تسمح بالزواج من أكثر من واحدة، ويتساءل إذا كانت المرأة لا تنجب أطفالا فكيف لا يسمح للرجل بألا يتزوج من زوجة أخرى، لكنه ينظر إلى نجد بأنها تعيش في عزلة وهمجية ويعتقد أن الموت أفضل من العيش بها، وعلق فتوح حول مسألة الزواج موجها كلامه إلى سالم: «أنت تنظر للمسألة من جانب الرجل فقط، الطلاق أمر صعب على المرأة». وقال سالم: «إيه والله».

 يبدو أن فاطمة هي الشخصية القوية والقوة الدافعة وراء العرش هنا، لكنني لا أتوقع أن تسنح لي الفرصة لمقابلتها، في الساعة 5.30 جاء علي بأخبار مهمة تساعدني، حيث أخبرني بوصول أعمامه إلى حائل قادمين من عنيزة، وأن الرشيد في حاجة ماسة إلى مساعدتهم، لأن ابن سعود قد تحدث عن نيته للقيام بحملة غزو- ولم يذكر متى وأين- ويطلب مساعدة كل من أهل بريدة وأهل عنيزة.

وعهدت أسلحة إسطنبول إلى أعمام علي الذين سيقودون حملة للانقضاض على عنيزة والفرصة سانحة أمامهم لقتل أميرها عبدالعزيز آل سليم، وأبدى أعمام علي استياءهم وسخطهم من الطريقة التي عوملت بها هنا وسبق أن تحدثوا إلى إبراهيم بهذا الصدد.

 كل شيء- حسب قولهم- بيد «الكلبة» فاطمة، وأشار علي إلى أن واحدا من أعمامه أو أكثر سيأتون هذه الليلة إلى قصر برزان، وهذا يتزامن مع موعد مقابلتي لإبراهيم، فاقتنصتها فرصة ثمينة، عَمّا علي هما صالح اليحيى وحمد من عنيزة، لم أرهما ولم يتجرآ على زيارتي لكنهما أعربا عن احتجاجهما ضد المعاملة التي تعرضت لها.

إلا أن إبراهيم متحضر جدا، ذهبنا عبر المسحب– يجلس الرجال تحت رواق المسجد صباحا وفي ظل السور عصرا- وبعد أن مررنا من خلال الباب الداخلي ذهبنا إلى الطابق العلوي إلى روشن صغير قائم على عمودين لهما تيجان مربعة. جلسنا هنا وجاءنا إبراهيم، تحدثنا أولا عن شائعات حول الأمير بأنه يخيم شرق الجوف، ثم ثانيا ناقشت مسألة الهدايا - التي جلبناها معنا مرة أخرى– وعن الحوالة المالية، وفيما يتعلق بتساؤلاتي قال إنه ليس لديه أي معلومات، وعندما قلت له إنني أنوي مغادرة حائل، قال: إن الرفيق جاهز. ثم تطرقنا في حديثنا إلى مسائل أخرى، وقال: إن شمر هنا منذ مدة تزيد على 200 سنة وتقل عن 500 سنة، ولم يعثر على آبار قديمة محيطة بحائل، قبل نشأة شمر هنا لم يكن هناك أي نوع لحكومة.

أعطيت إكرامية (بخشيش) للبوابين الذين على البوابة الخارجية وبوابة السوق، وجدير بالذكر أنه يتم جلب حجر البناء من سمراء.

الهوامش

(1) بولص الطرسوسي أو القديس بولص، يعرف عند المسيحيين برسول الأمم حيث يعتبرونه من أبرز من بشر بهذه الديانة في آسيا الصغرى وأوروبا، وكان له كثير من المريدين والخصوم على حد سواء. مكث بولص فترة من الزمن في شمال الجزيرة العربية (ربما بادية الشام) ثم عاد إلى دمشق، وهناك تآمر عليه اليهود ليقتلوه وأبلغوا عنه الحاكم فقام رفاقه بتسهيل هروبه من المدينة.

(المترجم)

من يوميات الرحالة البريطانية غيرترود بيل قبل قرن من الزمان (الحلقة 8)

back to top