«الخزعة السائلة»...اكتشاف السرطان في عينة دم

نشر في 15-11-2014 | 00:01
آخر تحديث 15-11-2014 | 00:01
فوغلشتاين أحد أشهر العلماء في العالم. وُصف في ثمانينيات القرن الماضي بأنه اخترق «مقصورة السرطان» بعدما أظهر وزملاؤه من جامعة جونز هوبكنز للمرة الأولى كيف تتحوّل بالتحديد سلسلة من طفرات الحمض النووي، التي تتراكم بصمت على مرّ العقود، إلى خلايا سرطانية. وأسهم أيضاً في تأكيد أن تلف الحمض النووي هو سبب السرطان.

تخيل اليوم أنك تستطيع رؤية هذه الطفرات والسرطان بحد ذاته في عينة دم. تلقي أنواع السرطان كافة تقريباً حمضاً نووياً في مجرى الدم. وقد طوّر مختبر فوغلشتاين في جامعة جونز هوبكنز تقنية تُدعى «الخزعة السائلة» تستطيع تحديد مواد جينية تكشف الكثير.

صارت تقنية {الخزعة السائلة} ممكنة بفضل معدات تحدّد بسرعة تسلسل الحمض النووي في عينة دم، ما يتيح للعلماء اكتشاف حمض الورم النووي حتى لو كانت كمياته ضئيلة. ويعمل علماء جونز هوبكنز اليوم، بالتعاون مع أطباء يعالجون المرضى في مركز علم الأورام الأكبر في بالتيمور، على دراسة عينات دم من أكثر من ألف شخص. ويؤكدون أن الخزعات السائلة تستطيع اكتشاف السرطان قبل وقت طويل من ظهور أعراض المرض.

لكن عينة الدم هذه كانت شخصية. فهي لشقيق فوغلشتاين، جرّاح عظم يصغره بسنة. كان يحارب سرطان الجلد، الذي بدأ ينتشر في جسمه. وكان الأمل كبيراً بأن يتجاوب مع نوع جديد من الدواء، إلا أن هذا العلاج يسبّب التورّم، فضلاً عن أن من الصعب معرفة من خلال التصوير المقطعي أو بالأشعة السينية ما إذا كان السرطان يتراجع أو لا. لذلك استخدم فوغلشتاين تقنيته المخبرية الجديدة. فإذا اختفى حمض السرطان النووي من الدم، يكونون قد حققوا النجاح، وإلا فقد يحوّل أخاه إلى علاج يُعتبر الحل الأخير.

يخبر فوغلشتاين بصوت مضطرب: {حاولنا توجيه العلاج، وهذا ما أملنا به في النهاية}. لكنه لا يذكر ما حدث بعد ذلك.

نُشر نعي باري فوغلشتاين، الذي وُلد في بالتيمور، في الثالث من يوليو عام 2013.

لا ننتصر في الحرب ضد داء السرطان، ويُظهر موت شقيق فوغلشتاين السبب. ففي حالات كثيرة، يُكتشف المرض بعد أن يكون قد أصبح في مرحلة لا يمكن شفاؤها. كل سنة، ينفق العالم 91 مليار دولار على أدوية السرطان، إلا أن معظم هذه الأدوية يُعطى للمرضى بعد فوات الأوان. بالإضافة إلى ذلك، تُكلِّف العلاجات الجديدة مبالغ باهظة جداً تصل إلى 10 آلاف دولار شهرياً، وقلما تطيل حياة المريض إلى أكثر من بضعة أسابيع. وباتت شركات الأدوية تطور وتختبر أدوية للمراحل الأخيرة من داء السرطان تفوق ما قد نراه مع أي مرض آخر.

يوضح فوغلشتاين: {بات الناس والعلماء مهووسين بفكرة شفاء حالات السرطان المتقدمة. فهذه خطة المجتمع الرئيسة. لكنني أعتقد أن لا داعي لأن يكون الوضع كذلك}. فثمة طرق أخرى للحد من وفيات السرطان: وضع الكريمات الواقية من أشعة الشمس، عدم التدخين، والخضوع لفحوص بغية اكتشاف السرطان في مراحله الأولى. يعتبر فوغلشتاين أن هذه الخطوات الوقائية كافة تشكل الخطة البديلة لأنها لا تحظى بالاهتمام الكبير والتمويل الكافي. ولكن عندما تنجح التدابير الوقائية، تحقق نتائج أفضل من أي دواء. على سبيل المثال، صار خطر الوفاة جراء سرطان القولون في الولايات المتحدة أدنى بنحو 40% عما كان عليه عام 1975، ويعود هذا التراجع عموماً إلى تنظير القولون. كذلك أصبح سرطان الجلد قابلاً للعلاج بواسطة الجراحة إن اكتشف في مراحله الأولى. يقول فوغلشتاين: {نعتقد أن الخطة البديلة يجب أن تصبح الخطة الرئيسة}.

فحوص جديدة

قد تجعل فحوص الدم الجديدة هذا الأمر ممكناً. فهذه المرة الأولى، وفق باحثي جونز هوبكنز، التي يقتربون فيها من إعداد أداة فحص عامة من الممكن استخدامها (ربما خلال فحص دوري سنوي) لاكتشاف آثار السرطان جزيئة في حالة أناس لا يعانون أي أعراض. يذكر فيكتور فيلكوليسكو، باحث في جامعة جونز هوبكنز يدير مختبراً في مبنى مجاور لمختبر فوغلشتاين: {نعتقد أننا حللنا مشكلة الاكتشاف المبكر}.

لكن جعل عملية الفحص هذه روتيناً في الطب يشكل تحدياً. وتشمل الصعوبات واقع أن الفحص قد يبرهن وجود حمض نووي خاص بالسرطان في الجسم إلا أن الأطباء يجهلون موضعه ومدى خطورته وما إذا كان يستحق المعالجة. يوضح الدكتور دانيال هبر، مدير مركز السرطان في مستشفى ماساتشوستس العام: {علينا توخي الحذر حيال الطريقة التي نتحدث فيها عن تطور مماثل}. يعتقد هبر أن فحص الدم بحثاً عن الحمض النووي {لم يصبح جاهزاً بعد}، ويؤكد أن ثمة ضرورة إلى دراسات كثيرة لإثبات أنه فاعل. ويضيف: {أمامنا حاجز كبير علينا تخطيه}.

رغم هذه الشكوك كافة، تحظى هذه التكنولوجيا بالاهتمام. يقول توني ديكهوربر مدير معهد السرطان الوطني في برنامج تقنيات التحليل الجزيئي المبتكر، إن فكرة فحص الدم بحثاً عن حمض الأورام النووي {كانت هامشيةً على أفضل تقدير} قبل ثلاث سنوات. لكن المختبرات والشركات من كاليفورنيا إلى لندن تسعى اليوم إلى المشاركة في هذه الفكرة، منتجة دفقاً من التحسينات في تكنولوجيا فحص الدم والبيانات الجديدة التي تدعمها. يتابع ديكهوربر موضحاً: {بدأ الناس يفكرون في أن فوغلشتاين محق. فقد تشكل هذه الطريقة الفضلى للتشخيص الباكر. بالإضافة إلى ذلك، قد تصبح هذه التقنية أكثر انتشاراً من أي وسيلة فحص أخرى. ومن الممكن استخدامها لتشخيص مجموعة واسعة من أنواع السرطان}.

في شهر فبراير، قدّم الأطباء من جونز هوبكنز و23 مؤسسة أخرى أكبر دراسة عن اكتشافاتهم. درسوا أورام 846 مريضاً يعانون 15 نوعاً مختلفاً من السرطان. فاكتشفوا حمض الأورام النووي في دم أكثر من 80% من المرضى المصابين بسرطان في مرحلة متقدمة، أي منتشر، ونحو 47% ممن لا يزال السرطان في حالتهم في موضعه وفي مراحله الباكرة. وفي حالة سرطان القولون المتقدم، كان الحمض النووي متوافراً دوماً.

قد لا تبدو هذه النتائج مهمة من النظرة الأولى. فما نفع اختبار يخفق في نحو 50% من الحالات؟ تعود فائدة هذا الاختبار إلى أنها {محددة جداً}، وفق فيلكوليسكو. فقد تبين حتى اليوم أنك إذا كنت تحمل حمض الأورام النووي، فأنت مصاب بالسرطان. وقد يميز هذا الأمر فحص الحمض النووي عن الفحوص المتبعة حالياً لتشخيص سرطان البروستات والثدي، التي تؤدي غالباً إلى نتائج إيجابية خاطئة. تشير ستيفاني جيفري، رئيسة قسم أبحاث علم الأورام الجراحي في جامعة ستانفورد: {من الطبيعي أن نحمل حمضاً نووياً في مجرى دمنا، إلا أن من غير الطبيعي أن يطابق هذا الحمض النووي ورماً}.

يعتبر فوغلشتاين أن فحوص الدم هذه تعني احتمال اكتشاف أكثر من نصف حالات السرطان في مرحلة مبكرة وإمكان شفائها بواسطة الجراحة. يوضح: {إن كنت تملك علاجاً يشفي نصف حالات السرطان، فلا شك في أنك ستنظم مهرجاناً كبيراً في مدينة نيويورك احتفالاً}.

مرحلة باكرة

أطلق الرئيس نيكسون حربه ضد داء السرطان عام 1971، حين كان فوغلشتاين لا يزال في كلية الطب. لكن سنوات من الاستياء وخيبات الأمل تلت مع إخفاق العلاج تلو الآخر في إحداث تراجع بسيط حتى في عدد الوفيات الناتجة من هذا المرض. فماذا تبدل اليوم؟ صرنا نعلم ما يسبب السرطان. أسهم عمل فوغلشتاين في ثمانينيات القرن الماضي، بالتعاون مع زميله كينيث كينزلر، في تأكيد دور طفرات الجينات المهم في الداء. وقد أعد العلماء اليوم لائحة بأكثر من 150 جينة يبدو أن لها دوراً أساسياً. صحيح أن مشهد السرطان الجيني معقد، إلا أن طفرات الحمض النووي كلها تحقّق أمراً واحداً: السماح لبعض الخلايا بمواصلة التكاثر في حين تموت الخلايا الطبيعية. ويُدعى عدم التوازن الناجم سرطاناً.

بالنسبة إلى شركات الأدوية، شكلت هذه المعلومات الجديدة ولائحة الجينات نقطة انطلاق لجهود بمليارات الدولارات هدفها تطوير أدوية جديدة لعلاج السرطان في مراحله المتقدمة. ولكن من وجهة نظر فوغلشتاين، لطالما عنت معرفة أن طفرات الحمض النووي تسبب السرطان أمراً مختلفاً: أن من الممكن ملاحظة تبدلات مهمة منذ البداية قبل وقت طويل من تشخيص المرض عادةً. وفي علم الأورام، يدرك الجميع هذا الواقع: كلما اكتُشف السرطان في مرحلة مبكرة، ارتفعت فرص الشفاء منه.

لنتأمل في حالة سرطان القولون، النوع الذي تناوله فوغلشتاين عن كثب. يبدأ هذا السرطان مع طفرة واحدة في جينة تُدعى APC. ولكن تمر نحو 30 سنة بعد ظهور تلك الطفرة قبل أن تتعرض الخلايا لعدد من الطفرات الجينية الأخرى الضرورية كي ينتشر السرطان ويقتل. يموت نحو 600 ألف شخص جراء سرطان القولون كل سنة. يذكر فوغلشتاين: {يموت معظمهم لأن إصابتهم بالسرطان لم تُشخص خلال السنوات السبع والعشرين الأولى من وجود الورم. ولا شك في أن هذا الواقع يقدم لنا نافذة تدخلٍ كبيرة في هذه العملية}.

كانت المشكلة قبل اكتشاف فحوص الدم عدم توافر طريقة سهلة جداً للبحث عن هذه الطفرات. يعمل فوغلشتاين على خطط الكشف المبكر منذ تسعينيات القرن الماضي، حين بدأ يبحث عن حمض الأورام النووي في البول والبراز، مستخدماً أساليب مضنية كانت متاحةً آنذاك. ولا يزال يعتقد أن الوقاية والفحص لا يحظيان بالاهتمام الكبير حتى اليوم. فيقتصر الاهتمام على «أقلية صغيرة جداً» من الباحثين. يقدر هذا العالِم أن أموال الأبحاث التي تُنفق على الأدوية تفوق ما يُخصص لإستراتيجيات مماثلة بنحو مئة مرة.

يوضح هذا الأمر لمَ يحاول فوغلشتاين، رغم شهرته، إلقاء اللوم على الآخرين. فتسارع مجموعة أبحاث جونز هوبكنز، التي تضم عدداً من الباحثين المشهورين الآخرين، إلى نشر أفكار جديدة، إلا أنها تسعى غالباً إلى استهداف مفاهيم علمية معتمدة في أماكن أخرى. على سبيل المثال، على كل عالِم شاب يود العمل هناك، وفق تقاليد المختبر، أن يقدّم أولاً أعماله الأولى.

تولى الإشراف على عمل المختبر على فحوص الدم لويس دياز، عالِم أورام صار ينعم بدعم فوغلشتاين الكامل. توصل إلى فكرة فحص الدم بحثاً عن حمض السرطان النووي عام 2005، حين كان يجري أبحاثاً حول ما إذا كان من الممكن استعمال بكتيريا تأكل اللحم للتخلص من الأورام. شمل هذا العمل زراعة سرطان بشري في عدد من الفئران. يتذكر دياز أنه احتاج «إلى طريقة لمراقبة الأورام في الفأرة من دون قتلها». فقرر هو وأحد زملائه أنهما قد ينجحان في تحقيق ذلك من خلال فحص الدم. وسرعان ما لاحظا معدلات الحمض النووي البشري ترتفع وتنخفض مع نجاح العلاج وفشله. وإن استطاعا مراقبة الحمض النووي لورم بشري في فأرة، فلمَ لا تنجح هذه الطريقة في حالة البشر؟

لم تكن هذه الفكرة جديدة بالكامل. فقد علم العلماء منذ عام 1948 أن الحمض النووي الحر يتنقل في عروقنا وشراييننا. ويشكل مخلفات طبيعية ناجمة عن الخلايا الميتة. لكن الأورام تنتج أيضاً الحمض النووي في الدم. وقد تصل نسبة الحمض النووي الناجم عن أورام في حالة شخص ينازع بسبب مرض السرطان إلى نحو 87%، إلا أنها تبقى ضئيلة عموماً.

عندما بدأ دياز يدرس هذه المسألة، كانت لا تزال مجرد أفكار مبهمة وليست احتمالاً ممكناً. وبغية تطوير الخزعة السائلة، كان على علماء جونز هوبكنز أولاً ابتكار طرق لاكتشاف حمض الورم النووي من ضمن مجموعة واسعة جداً من الأحماض النووية الطبيعية. عمل الباحثون بادئ الأمر على دم تبرع به مرضى يعانون سرطان القولون كان دياز يعالجهم في بالتيمور، فتتبعوا أربع جينات سرطان فقط. رغم ذلك، لاحظوا أن حمض الورم النووي يختفي بسرعة (في غضون يوم أحياناً) بعد خضوع المرضى لجراحة أو علاج بالأدوية. كذلك لم تأتِ نتائج المشاركين الأصحاء في مجموعة الضبط إيجابية مطلقاً. يخبر دياز: {أدركنا أن هذا الفحص قد يجيب عن السؤال: هل أعاني السرطان؟}.

يعتقد باحثو جونز هوبكنز أن اختبارهم قد يكون أكثر دقة من أي أداة أخرى يملكها الأطباء اليوم، على الأقل في الحالات التي تكون فيها أورام السرطان أصغر من أن تظهر في الصور. يقدر فوغلشتاين أن من الضروري أن يضم الورم ما لا يقل عن 10 ملايين خلية (ما يجعل حجمه بحجم رأس دبوس) كي ينتج كمية من الحمض النووي يمكن رصدها. ولكن كي يظهر في صورة تُلتقط بالرنين المغناطيسي، يجب أن يكون الورم أكبر بنحو 100 ضعف ويحتوي على ما لا يقل عن مليار خلية.

بدأ أطباء جونز هوبكنز يستخدمون فحص الحمض النووي لتحديد ما إذا كان جسم المريض ما زال يحتوي على أي خلايا سرطانية بعد استئصال الأورام جراحياً. وبالتعاون مع بيتر غيبز، عالِم أورام أسترالي، فحصوا عينات دم 250 مريضاً خضعوا لجراحة استئصال سرطان قولون لا يزال في مراحله الأولى. فتبين أن معظم هؤلاء المرضى قد شُفي، إلا أن من المتوقع أن يعاني 30% انتكاسة لأن الجرَّاح لم ينجح في استئصال الورم كله. تكمن المشكلة في أن الأطباء لا يعرفون من المرضى الذين سيعانون انتكاسة. يوضح دياز: {يقول الجراح: لا تقلق! استأصلناه كله. لكن هذا يغضبني حقاً لأنني أُضطر بعد ذلك إلى إخبار المريض: لا نعلم ما إذا كنت قد شفيت حقاً}. فيقع الناجون في حالة من الضياع لأنهم يجهلون ما إذا كان المرض سيعاود الظهور، متخذاً على الأرجح شكلاً أكثر خطورة. وقد تدوم هذه الحالات سنوات.

يخضع المرضى في أستراليا لفحص حمض الورم النووي في دمهم بعد خضوعهم للجراحة بنحو ستة أسابيع. يقول الباحثون إنهم نجحوا حتى اليوم في تحديد نحو نصف الحالات على الأقل التي ستواجه انتكاسة. ويؤكد فوغلشتاين أن من الممكن في المستقبل تحديد هوية هؤلاء المرضى كي يخضعوا لعلاج كيماوي، ما قد ينقذ حياة ثلثهم على الأقل. رغم ذلك، تبدو حدود الفحص واضحة، بما أنه يخفق في تحديد نصف المرضى الذين سيعانون ظهور السرطان مجدداً.

يعزو دياز ذلك على الأرجح إلى أن الخلايا السرطانية المتبقية لا تنتج ما يكفي من الحمض النووي لاكتشافه. ويضيف: «بلغنا على الأغلب الحدود البيولوجية». لكن حمض السرطان النووي قد يعاود الظهور إلى معدلات يمكن اكتشافها بمرور الوقت، ولا شك في أن إخضاع المرضى لفحوص دورية قد يسهم في اكتشافها. صحيح أن فحوص جونز هوبكنز لا تزال قيد التجربة، ولكن يؤكد دياز أن له ملء الثقة فيها، وأنه يعتمد عليها ليخبر المرضى ما إذا كانوا لا يزالون مرضى أو شفوا تماماً. يتابع موضحاً: «بعد ستة إلى ثمانية أسابيع، نستطيع أن نخبرهم ما إذا شفوا. نعم، النتائج مرضية تماماً».

مراحل متقدمة

حتى اليوم، لا تتحدث الشركات كثيراً عن الفحوص الواسعة لمرض السرطان في حالة الأشخاص الأصحاء. في الوقت الراهن، تقدّم Personal Genome Diagnostics، شركة فحوص تشخيصية أسسها دياز وفيلكوليسكو أخيراً، وعدد من الشركات المنافسة، مثل Boreal Genomics وGuardant Health، خزعات سائلة لمن يعانون مراحل متقدمة من السرطان فحسب. ففي حالة هؤلاء المرضى، قد تكشف الفحوص ما إذا كان العلاج يعطي أي نتيجة وما إذا كان من الضروري الانتقال إلى علاج آخر إن لم يكن فاعلاً. بالإضافة إلى ذلك، تشمل استخدامات هذه التكنولوجيا المفيدة الأخرى تتبع طفرات محددة في الحمض النووي تحفز الأورام. فبما أن عدداً كبيراً من علاجات السرطان بات اليوم {محدداً} (يعيق عمليات جزيئية معينة)، فلا يعود يُعطى للمرضى إلا إذا تبين أن أورامهم قد تتفاعل معها. كذلك يستطيع الأطباء اليوم استخدام فحوص الحمض النووي على أجزاء من الورم يحصلون عليها بواسطة خزعة. لكن فحوص الدم غير الغازية قد تكون أكثر سهولة وأماناً، ما يتيح تقييم حالة المرضى بوتيرة أكبر. فبما أن حمض السرطان النووي يتبدل باستمرار، فقد يساعد ذلك المرضى على تبديل العلاجات في الوقت المناسب.

يعتبر حلمي الطوخي، مدير تنفيذي في Guardant الخزعة السائلة {فكرة عظيمة} لها استعمالات كثيرة. ولأسباب تجارية وطبية، تسوق شركته هذه الفحوص لمن يعانون السرطان فحسب. لكنه يقول إن شركته تضع الفحوص المبكرة على جدول أعمالها. ويضيف: {هذا بالتأكيد إنجاز. تخيلوا مدى اتساع تطبيقات الخزعة. وهذا ما نحاول فعله راهناً}.

سألت فوغلشتاين (65 سنة) وفيلكوليسكو (44 سنة) ما إذا خضعا هما لهذه الفحوص، فكان جوابهما نفياً. رغم ذلك، يبلغ احتمال أن يُصاب الرجال في الولايات المتحدة بالسرطان في مرحلة ما من حياتهم 44%، وترتفع النسبة مع التقدم في السن. وإذا لم يفكر هذان الباحثان في الخضوع لهذه الفحوص، فما قد يدفعنا إلى الاعتقاد بأن الناس عموماً سيتحمسون لذلك؟ كي يتحول هذا النوع من الفحوص إلى تدبير صحي عام، يجب أن يشارك في هذه الحملة كامل المجتمع الطبي. ولا شك في أن هذا يتطلب الكثير من الوقت.

من المؤكد أن فوغلشتاين ليس ساذجاً. ولا نزال نحتاج في مطلق الأحوال إلى أدوية جديدة لمعالجة مرضى السرطان. لكنه يتمسك باقتناعه أن الطريقة الفضلى للتغلب على السرطان في مراحله الأخيرة تقوم على منع الوصول إلى مراحل مماثلة. وعندما قدمت تعازي إلى فوغلشتاين لوفاة أخيه، تجاهلها وقال: «لهذا نقوم بعملنا هذا. فبعد مئة سنة من اليوم، عندما يصبح السرطان والموت بسببه أقل شيوعاً، سيعود الجزء الأكبر في هذا الإنجاز إلى الاكتشاف المبكر لا إلى قدرتنا على شفاء جسم تأصلت فيه الأورام».

سلبيات الفحوص

نرى في عالَم الطب سابقة عن سوء التعامل مع الفحوص التي قد تكشف أمراضاً خطيرة. لنتأمل في المستضد البروستاتي النوعي الذي يرصد بروتيناً مرتبطاً بسرطان البروستات. لا يؤدي هذا الفحص إلى نتائج إيجابية خاطئة فحسب في غالبية الحالات، بل يُعتبر بعض الأورام التي يكشفها بطيء النمو ولا يستحق حتى المعالجة. نتيجة لذلك، انتهى المطاف بكثير من الرجال إلى تلقي علاج السرطان مع أن ما يعانونه ما كان ليؤثر في صحتهم على الأمد الطويل. بالإضافة إلى ذلك، تشير إحدى التقديرات إلى أن بين كل 47 رجلاً يخضعون لجراحة استئصال البروستات، يُنقذ هذا الإجراء حياة رجل واحد. على نحو مماثل، تكشف دراسات أعدها باحثون في كلية دارتموث أن صورة الثدي تؤدي أيضاً إلى مبالغة في التشخيص والعلاج. فنحو 25% من حالات سرطان الثدي التي تُكتشف وتعالج ما كانت لتسبب أي أعراض. يوضح جوناثان سكينر، خبير متخصص في الاقتصاد الصحي: «عندما تُخضع الجميع لفحوص، تُضطر إلى معالجة الناس من أمراض ما كانت لتؤثر في صحتهم، إما لأنها لن تتطور أو لأنهم يموتون جراء مشكلة صحية أخرى. إذاً، قد تكون سلبيات الفحص المبكر كبيرة».

ولكن في جامعة جونز هوبكنز، يقول فيلكوليسكو إنه يأمل بأن يصبح فحص حمض السرطان النووي شائعاً. ويضيف: {إذا ما كنت تستطيع إحداث أي فارق، فستود على الأرجح أن تبقى مجهولاً. لكنني لا أقبل البتة فكرة أن زيادة معرفتنا عن السرطان لن تساعد المرضى. صحيح أننا لن نتوقف مطولاً عند كل معلومة، أو قد لا نتخذ أي خطوات، ولكن مع هذه الفحوص يسهل علينا تحديد حالة المريض. ونستطيع عندئذٍ أن نقول له: لنرَ كيف تسير الأمور}.

فحوص كثيرة

يذكر فوغلشتاين أن هدفه النهائي تحويل فحوص الدم هذه إلى طريقة تُعتمد بشكل روتيني للتأكد من أن المريض لا يعاني السرطان. ويعتقد باحثو جونز هوبكنز أنهم طوروا نسخة من الفحوص قد تحقق هذا الهدف. فبدل تتبع بعض جينات السرطان الأساسية، يعدون تسلسل كامل جينوم المريض مستخدمين الحمض النووي في عينة الدم. ويتيح لهم ذلك إحصاء المواضع التي لا تكون فيها المواد الجينية في مكانها الصحيح أو تبدو مختلة. ويشكل العدد الكبير من مواضع الخلل في الحمض النووي تأثيراً جانبياً جزيئياً لا يُرى إلا في صبغيات الخلايا السرطانية، ما يُعتبر إشارة إلى وجود سرطان. لكن إعداد تسلسل الجينوم بكامله لا يزال باهظاً. لكن فوغلشتاين يشير: {إذا كان المريض يعاني السرطان، فلا يأبه إن أنفق 5 آلاف دولار على فحص الحمض النووي. ولكن لا يمكنك تحويل فحص تبلغ كلفته 10 آلاف دولار إلى فحص روتيني سنوي. نتيجة لذلك، نسعى إلى التوصل إلى تقنية بخسة كفاية لاستخدامها في عمليات الفحص هذه}.

قد تستغرق هذه العملية وقتاً طويلاً. صحيح أن كلفة إعداد تسلسل الحمض النووي تتراجع بسرعة كبيرة، إلا أننا لن نحصل على فحص جينوم يكلف مئة دولار (ثمن يُعتبر متدنياً كفاية ليتحول هذا إلى فحص روتيني عام) قبل عشر سنوات على الأقل. في هذه الأثناء، بدأت جامعة جونز هوبكنز دراسات عدة يتناول معظمها أشخاصاً معرضين لداء السرطان بهدف تحديد ما إذا كانت هذه التقنيات تستطيع الكشف عن الأورام في مراحل باكرة في حالة مَن لا يعانون أي خطب. تشمل إحدى الدراسات 800 مشارك معرضين لسرطان البنكرياس. في هذه الحالات غير الاعتيادية، يعاني المريض من كيسات على البنكرياس تتحول أحياناً إلى سرطان وتبقى حميدة في حالات أخرى. بدأت هذه التجربة السريرية في تتبع حالة هؤلاء المرضى عام 2012، وسيحظى الباحثون بأولى النتائج في وقت لاحق من هذه السنة.

يشكل سرطان البنكرياس حالة اختبار جيدة لتحقق من فاعلية هذه الفحوص. فهو ليس شائعاً جداً، مع أنه يحتل المرتبة الرابعة على لائحة أكثر أنواع السرطان فتكاً في الولايات المتحدة لأن نسبة شفائه تنخفض إلى 4%. وإذا اكتُشف هذا السرطان في بداياته قبل أن ينتشر، يرتفع معدل النجاة إلى نحو 25% فقط (توفي مؤسس آبل ستيف جوبز عن عمر يناهز السادسة والخمسين بسبب إصابته بنوع مختلف من سرطان البنكرياس يُدعى الورم العصبي الصماوي).

لا شك في أن توفير فحوص الحمض النووي للجميع يشكل قفزة كبيرة. يقول هبر، عالِم الأورام في مستشفى ماساتشوستس العام، إن هذه التكنولوجيا، حسبما تُطوَّرت اليوم، قد توضح للأطباء ما إذا كان المريض يعاني السرطان. ولكن بخلاف التصوير أو الخزعة، عليك أن تخمن موضع هذا السرطان في الجسم. نتيجة لذلك، سيشعر المرضى بالخوف والأطباء بالحيرة حيال الخطوات التي عليهم اتخاذها. يفيد هبر: {من المؤكد أن فكرة فحص الأشخاص الأصحاء والقول لهم: {تعانون السرطان في موضع ما من جسمكم إلا أننا نجهل أين}، سيئة تماماً}.

back to top