نيران التَمرُّد
سأل أميوس غروي شارلوك: {هل فكرتَ يوماً بالنمل؟}.فهز شارلوك رأسه وأجاب: {عدا عن واقع انقضاضها على شطائر المربّى في النُّزهات، لا يمكنني القول إنني فكرت فيها كثيراً}.
كان الاثنان في منطقة ساري الريفية، حيث تُرخي حرارة الشمس بثقلها على مؤخّر عُنُق شارلوك كالآجرّ، ويبدو الأريج الطاغي للزهور والتِّبن المحصود حديثاً كما لو أنه معلَّق في الهواء حوله.أزّت نحلة قرب أُذنه فجفل. كانت مشاعره متناقضة حيال النمل، ولكن النَّحل لا يزال يُجفله.فضحك غروي وسأله: {ما خَطْب الشطائر البريطانية وشطائر المربّى؟! أُقسم إن لِعادات تناول الطعام البريطانية مظهرَ دارِ حضانةٍ لا يمتاز به أي بلد آخر. أطباق بودِنغ يتصاعد منها البُخار، شطائر مربّى، وخُضار مسلوقة لمدة طويلة لدرجة تمتّعها بقَدْر كبير من النكهة. إنه طعام لا يحتاج تناوله إلى أسنان}.شعر شارلوك بطعنة استياء، فسأل مبدِّلاً وضعيّة جلوسه على الجدار الحجري الجافّ: {إذاً، ما الرائع في الطعام الأميركي؟!}. أمامه، كانت الأرض تنحدر في اتجاه نهر بعيد.{قِطع اللحم البقَري}. قال غروي ببساطة. كان متكئاً على الجدار المرتفع حتى صدره، وذَقنه المربَّع يرتاح على ذراعَيه المطويّتَين المتشابكتَين، فيما قبّعته ذات الحافّة العريضة تقي عينَيه من أشعة الشمس. كان يرتدي بذلة الكتّان البيضاء المعتادة. {قطع لحم كبيرة مشويّة على اللهَب؛ مَشويّة بشكل مناسب حيث تتكوّن أجزاء صغيرة هشّة على حوافها، ولم يتمّ تحريكها بشكل متماوج فوق شمعة كما يفعل الفرنسيون، وليست مغطاة بصلصة قِشدية كما يفعل الفرنسيون أيضاً. لا يتطلب الأمرُ المقدرةَ العقلية الفذة لطهو قِطعة لحم بقَري وتقديمها بطريقة ملائمة. إذاً، لماذا لا يستطيع أحد خارج الولايات المتحدة القيام بالأمر بالشكل الصحيح؟!}. تنهّد، وسرعان ما زالت فجأةً طبيعته البهيجة الجيّاشة ليحلّ مكانها حزن رَتيب ظاهر.{تفتقد إلى أميركا، أليس كذلك؟}. قال شارلوك ببساطة.{أنا بعيد عنها منذ مدة أطول مما ينبغي للمرء الابتعاد عن وطنه. وأعرف أن فرجينيا تفتقد إلى بلدها الأم أيضاً}.وفوراً، امتلأت مخيّلة شارلوك بصورة لابنة غروي، فرجينيا، وهي تمتطي حصانها سانديا، وشعرها الأحمر بلون النحاس متطاير وراءها كشُعلة تتبعها.{متى ستعود؟}. سأل شارلوك آملاً في ألا يكون موعد مغادرته قريباً. فقد اعتاد على غروي وفرجينيا، ويحب أن يكونا في حياته بما أنه أُرسل للعيش مع عمّه وزوجته.{عندما ينتهي عملي هنا}. وغضّنت ابتسامة كبيرة وجهه المتجعد، وتبدّل مِزاجه. {وعندما أرى أنني أدّيت مسؤوليتي كاملة تجاه شقيقك؛ وذلك بتعليمك كل ما أعرفه. الآن، لِنتحدث عن النمل}.فتنهّد شارلوك، واستسلم لدرس آخر من دروس غروي المرتجَلة. باستطاعة الأميركي ضخم البنية الاعتماد في دروسه على أي شيء يجده حوله- سواء أكان في الريف أو المدينة أو في منزل أحدهم- واستخدامه كنقطة انطلاق لصياغة سؤال، أو طرح مشكلة، أو تشكيل أُحجية منطقية. إنها البداية لإزعاج شارلوك.قوّم غروي وقفته، وأجال بصره في أنحاء المكان، ثم قال: {أعتقد أنه سبق لي أن رأيت بعض النمل هنا}. وتوجّه بعد ذلك نحو كومة صغيرة من التراب الجافّ المكدَّس على غرار تلّة صغيرة جداً على رُقعةِ عشب. لم يُخدَع شارلوك. ربما رآها غروي في طريقهما إلى الأعلى، وقرّر استخدامها في دورته التدريبية التالية.قفز شارلوك عن الجدار، وسار إلى المكان حيث يقف غروي. {كَثيب نمل}. قال بقليل من الحماسة حين رأى أشكالاً سوداء صغيرة تجوب محيط كومة التراب على غير هدى.{بالفعل. إنه الدليل الخارجي الذي يؤكد وجود مجموعة كاملة من الأنفاق الصغيرة تحت الأرض حفرتها المخلوقات الصغيرة بصبر. في مكان ما تحت الأرض هنا ستجد آلاف البيوض البيضاء الصغيرة التي وضعتها ملكة نمل تقضي حياتها تحت الأرض، ولا ترى ضوء النهار أبداً}.انحنى غروي وأومأ لشارلوك للانضمام إليه قائلاً: {انظر إلى كيفية تحرّك النِّمال. ما الذي يأسر انتباهك؟}.فراقبها شارلوك للحظات. لم تكن هناك نملتان تسلكان اتجاهاً واحداً، بل يبدو أن كلّاً منها تغيّر اتجاهها على الفور من دون أي سبب ظاهر. {إنها تتحرك عشوائياً. أم إن سلوكها هذا رد فعل تجاه شيء ما لا يمكننا رؤيته؟!}.{أظنّ أن التفسير الأول هو الصحيح على الأرجح}. أجاب غروي، ثم تابع: {تدعى مشية الثَّمل، وهي طريقة جيدة في الواقع لمسح الأرض بسرعة إذا كنت تبحث عن شيء ما. إن معظم الناس الذين يبحثون في منطقة ما يسيرون وفقاً لخطوط مستقيمة فحسب؛ ويجتازونها بشكل متقاطع، أو يَقسمون المنطقة إلى شبكة مربَّعات ويفتشون كل مربَّع على حِدة. تضمن هاتان التقنيتان النجاح في النهاية. ولكنّ فرص العثور على ما يتم البحث عنه بسرعة تزداد لدى اعتماد هذه الطريقة العشوائية التي تعتمدها النملات في مسح الأرض. إنها تدعى مشية الثّمل لأنها طريقة سير المرء عندما يملأ معدته بالشراب؛ إذ تتّبع كلّ من السّاقين وجهة مختلفة عن الأخرى، ويتخذ الرأس وجهة مختلفة تماماً}. ومدّ يده إلى جَيب سترته وأخرج شيئاً ما. {ولكن بالعودة إلى النمل، عندما تعثر على شيء ما يثير اهتمامها راقب ما تفعله}.وأرى غروي شارلوك ما يحمله؛ آنية فخارية مغطاة بورق مشمَّع مربوط بخيط. {عسل}. قال قبل أن يتمكن شارلوك من طرح السؤال. {اشتريته من السوق}. وسحب الخيط، ورفع الورق المشمَّع. {آسف إذا كان هذا الأمر يُعيد إليك ذكريات سيّئة}. {لا تقلق}. قال شارلوك، وانحنى راكعاً بجانب غروي. {هل يمكنني أن أسألك عن سبب تجوّلك مع آنية فخارية مليئة بالعسل في جَيبك؟}.أجاب غروي مبتسماً: {لا يعرف المرء أبداً ما الذي يمكن أن يحتاج إليه فجأة، أم إنني خططتُ لكل ذلك مُسبَقاً؟ اخترْ}.ابتسم شارلوك فحسب وهز رأسه.{العسل مكوَّن من السكّر إلى حد كبير، إضافةً إلى عدد وافر من المكونات الأخرى. والنِّمال تحبّ السكّر، وتنقله دائماً إلى مسكنها لإطعام الملكة واليرَقات الصغيرة الخارجة من البَيض}.مُغمّساً إصبعه في العسل- لاحظ شارلوك أنه سائل تقريباً بسبب حرارة شمس الصباح القوية- غرف غروي مقداراً كبيراً من العسل البرّاق، ثم جعله يسقط، فوقع على كُتلة عشب، وبقي هناك للحظات قليلة قبل أن يغوص ويتسلل إلى سطح الأرض ويستقر هناك في خيوط متعرّجة ومتلألئة.{الآن، لِنرَ ما ستفعله المخلوقات الصغيرة}.راقب شارلوك النمل وهو يواصل تجواله العشوائي؛ فيتسلّق بعضه بعض الأعشاب ويتدلّى رأساً على عَقِب لبعض الوقت، فيما يبحث البعض الآخر عن طعام وسط حبات الرمل. بعد قليل، عبرت نملة قرب خط من العسل، ثم وقفت في منتصف الطريق. ظنّ شارلوك للحظة من الزمن أنها التصقت به، غير أنها جالت على امتداد الخطّ ثم عادت أدراجها وغمست رأسها كما لو أنها تشرب.{إنها تجمع منه بقَدْر ما تستطيع حمله}. قال غروي بطريقة حِوارية. {ستتوجه إلى مسكنها الآن}. وبالفعل، عادت النملة أدراجها متتبّعة خطاها كما يبدو، ولكنها واصلت التنقل إلى الأمام والوراء بدلاً من التوجه إلى مسكنها مباشَرةً. راقبها شارلوك لدقائق قليلة، وفقد أثرها مرتَين تقريباً أثناء تقاطع طريقها مع طريق مجموعات أخرى من النمل، ولكنها بلغت كومة التراب الجافة أخيراً، واختفت داخل ثُقب في جانبها.{إذاً، ماذا الآن؟}. سأل شارلوك.{انظر إلى العسل}. أجابه غروي.كانت عشر نملات وربما خمس عشرة نملة قد اكتشفت وجود العسل، وبدأت بأخذ عيّنات منه. وواصلت نملات أخرى الانضمام إلى الحشد أثناء انفصال بعض النملات وابتعادها عن العسل متجهة إلى مسكنها بإبهام.{ماذا تلاحظ؟}. سأل غروي.أحنى شارلوك رأسه لينظر عن كثب، ثم قال بدهشة: {تسلك النملات طريقاً أقصر أكثر فأكثر كما يبدو للعودة إلى مسكنها}.وبعد دقائق قليلة، تشكل خطان متوازيان من النملات المتنقلة بين العسل والعش. لقد استُبدل التجوال العشوائي باتجاه محدَّد.{جيد}. قال غروي موافقاً، ثم تابع: {الآن، لنجرّب اختباراً صغيراً}.مدّ يده إلى داخل جَيبه وأخرج قُصاصة ورق بحجم راحة يده، ووضعها أرضاً في منتصف المسافة الفاصلة بين مسكن النمل والعسل. عندها، عبرت النملات الورقة أثناء توجهها إلى مسكنها كما لو أنها لم تلاحظها.{كيف تتواصل؟}. سأل شارلوك. {كيف أخبرت النِّملة التي عثرت على العسل تلك الموجودة في المسكن عن مكانه؟}.أجاب غروي: {إنها لا تخبرها، فواقع عودتها مع العسل دلالة على وجود طعام في الخارج. فهي لا تستطيع مخاطبة بعضها بعضاً، ولا تستطيع قراءة أفكار بعضها أيضاً، ولا تستطيع الإشارة بأرجلها الصغيرة تلك. في الواقع، إن ما يحدث أمر أكثر حِذقاً. دَعني أُريك}.مدّ غروي يده إلى الأسفل، ورفع ببراعة قُصاصة الورق مُميلاً إيّاها تسعين درجة. عندها، ابتعدت النملات الموجودة على الورقة عن الحافة فوراً، ومن ثم بدت تائهة، وراحت تجول على غير هُدى. ولكن شارلوك دهش لدى رؤيته النملات الموجودة على الورقة وهي تعبرها حتى بلغت منتصف المسافة الفاصلة بين جوانبها، وبعد ذلك عادت وتوجّهت بشكل عمودي إلى طريقها السابق حتى بلغت الحافة، ثم ابتعدت عنها مجدداً، وشرعت بالتجوال ثانيةً على غير هدى.قال شارلوك بصوت هامس: {إنها تسلك طريقاً يمكنها رؤيته، ولكننا لا نستطيع رؤيته. بطريقة ما، رسمت النملات القليلة الأولى الطريق وتبعته بقيّة النملات. وعندما قلبت الورقة، واصلت تتبّع الطريق؛ غير مُدركة أنه بات يؤدي إلى مكان آخر}.{صحيح}. قال غروي موافقاً. {التخمين الأفضل هو وجود مادة كيميائية من نوع ما تفرزها النملات. فعندما تنقل النملة طعاماً، تترك وراءها أثراً مكوَّناً من مادة كيميائية. تخيّل خِرقة مغطاة بشيء ما ذي رائحة قوية، كاليانسون مثلاً، مربوطة بإحدى أرجلها، وتخيّل النملات الأخرى وهي تتبّع أثر اليانسون. فنتيجةً لمشية الثّمل، تجول النملة الأولى في المكان بأَسره قبل العثور على المسكن. ومع عثور المزيد من النملات على العسل، يسلك بعضها طرقاً أطول للوصول إلى المسكن، فيما يسلك بعضها الآخر طرقاً أقصر. وبقيام المزيد من النملات بتتبّع النملات التي تنقل العسل إلى المسكن، تُعزّز المادة الكيميائية الطرق الأقصر لأنها أفضل، وتمكّن النملات من العودة بسرعة، وتتلاشى الطرق الأطول - تلك التي تجوبها النِّمال على غير هدى - لأنها لا تحقق النتيجة المرجوّة. وفي النهاية، ينتهي بها الأمر مع مسلك مستقيم تقريباً. ويمكنك إثبات ذلك بالقيام بما فعلتُه بالورقة. إذ تواصل النملات اتّباع الدرب الذي يكون مستقيماً؛ عِلماً أنه يوصلها إلى مكان بعيد عن المسكن وليس إليه، ولكنها تصحّح وجهتها في النهاية}.