سعيد عقل... كرأس صنين إن هوى

نشر في 30-11-2014 | 00:01
آخر تحديث 30-11-2014 | 00:01
 جولي مراد حسناً أيها الموت. لقد وصلت الرسالة. كفى تجول بمقصلتك حاصداً السنابل الواحدة تلو أخرى. كأنّي بك تغرز بأنيابك المسننة في بلادي مفتتاً روحها نتفةً نتفة بوقاحةٍ فجّة متلذذاً بمعين فرائسك الذي لا ينضب. أما شبعت بعد غطرسةً وتحجراً؟ أما اكتفيت فتكاً وهلاكاً؟ ما لنا بك تحصد العمالقة تباعاً؟ بالأمس القريب صباح وبعدها بيومٍ نهوند، وها أنت تتطاول بلا وجلٍ على مارد الشعر سعيد عقل، تنتزعه منا بدويّ يصمّ الآذان. مخطئٌ إن خلت للحظةٍ أنّك خطفته، فقد سطّر خلوده في أجيالٍ قادمة، وبأعمالٍ لا يقوى عليها دهرٌ. عزاؤنا الوحيد أنّنا عشنا في زمنٍ أُصقل بجواهر يصوغها شاعرٌ رفيع الطراز. يكفينا أننا عاصرناه. آخر الكلاسيكيين العرب، نحات الكلمة، ملك الخلق الشعريّ. غرفنا من منهله المدرار بنهمٍ. أشبعنا ذائقتنا بطيب مفرداته، وتفيأنا بروحه التي لا تشيخ كشمسٍ تأبى الانطفاء، ولنا من شعاع كتاباته ومن {عطره} قوتٌ يكفينا لردحٍ من الزمن.

ليس لأيّ أن يكتب في سعيد عقل بما يوفيه حقّه. كيف يكتب السواد عن الهامات؟ كلّ ما يكتب أو يقال عنه أشبه بخربشاتٍ على سطح المياه. عنده تتعطل اللغة أما معه فتحلّق بأجنحةٍ سحرية. بعده تتكسّر الأقلام، تنحني الرؤوس وتتوارى المفردات خفراً.

شاء بعض طفيليي البشر وأشباه المثقفين تأطير ملك الشعر في قمقم السياسة. أرادوا تحجيمه بقدحٍ وهجاء في إنسانيّته ظناً منهم أنّ في استغلالهم لفرصة الذم السانحة ما يكبرهم شأناً. أعابوا عليه أن ينبض خافقه لطرفٍ واحد هو لبنان، وأن تكون قوميته لبنانيةً صرف، وأن يستبسل دفاعاً عن بلد الفينيق وحده دون سواه، مُجرّحاً بخوالب ألفاظه الحادّة أطرافاً اقليمية تتخطى نواياها حجم لبنان وتهشّم وجهه الحضاري. أرادوه أن يشرب طوعاً، كما فعلوا هم خانعين صاغرين، كأساً ينتقص من لبنانه الحلم ... لبنانهم ليس فيه شيء من لبنانه... لبنانه على صورته شامخٌ شموخ الأرز، مزيجٌ من الكبرياء والأنفة والسمو، هامةٌ لا تطالها الأيدي، لا مكان فيه لفقراء ولا لبخلاء ولا لمتخاذلٍ رعديد. لبنانُه {هدايا في علب} أما لبنانهم فرماديٌّ، منفصمٌ، ذليلٌ، مرحبٌ بصراعات الآخرين ومهلّل بكلّ استحقار وإكراه.

ليس لأيّ أن يفهم سعيد عقل {اللبناني} إلا من كان {عنصرياً} في لبنانيّته حتى النخاع مثله. كان يُعتصر غضباً ويختنق حنقاً لأنّ لبنان المتجسّد واقعاً، غير لبنانه المنشود، غير مُكتفٍ بذاته، غير معمّر بسواعد أبنائه، غير مقدّر لطاقاته. يقهره أن يراه متسولاً في حين يزخر بجواهر نفيسة وثرواتٍ لا تحصى قد تعتقه في حال استثمارها من التبعيات العمياء. كان يحدّثك لساعاتٍ بلا مللٍ أو سأم عن تقنياتٍ واستراتيجيات كفيلة بنقل لبنان الى الرقي المنشود.

نعم كان حالماً. وهل من عملاقٍ غير حالمٍ؟ ولكنه والحال هذه لم يكتفِ بفيض الكلام مقرناً حلمه بفعلٍ مسهمٍ، فلسنواتٍ أنفق من جيبه ما يكفي لدغدغة طموح المتميّزين، لدرئهم عن اليأس والقنوط، لحثهم على المضيّ عطاءً في زمنٍ يبخل على المبدعين بلفتة تقدير فأطلق {جائزة سعيد عقل الأدبية}: مليون ليرة أسبوعياً لموهوبٍ لبناني كفيلة بشحذ همته على الانتاج. لا يُقاس زمنٌ عنده إلا إبداعاً. وحده بالابداع تُجترح المعجزات.

وكان سعيد عقل متغطرساً مستكبراً مع كلّ من ليس أهلاً باقتسامه وقتاً ثميناً يفضّل فيه مجالسة الحرف والقلم، ومتواضعاً مستكيناً مع كلّ من يتوسّم لديه بارقةَ مهارةٍ. أخذ عليه البعض مطالبته ببدلٍ لإطلالاته الصحفية، رأوا في الأمر تعجرفاً بدلاً من أن يستشفوا فيه رفضاً لاستجداءٍ قادم وحفاظاً على كرامة شاعر أو أديب من جور عوزٍ مستفحلٍ.  

نعم، كان سعيد عقل مجنوناً. مجنوناً بلبنان وعاميّته، لدرجة انه وحده، وحده هذا المغامر المقدام امتشق سيف الابجدية ونسَل {العامية} بأحرفٍ لاتينية. غامر بمجاهرة عشقه لها مترجماً مسرحيات عالمية كلاسيكية إليها، وكان يدعو الى الاعتراف بها لغةً جميلة لا تقلّ عن الفصحى رونقاً وسحراً وبهاءً. وحده هذا الشقيّ الفتيّ أبداً تجرأ على تقديم أطروحةً في {لبننة العالم}، وكان من قلةٍ قليلة، ونكاد نقول وحده أيضاً، كان خطيباً بارعاً في هذه اللغة، قادراً على اجتذابك إليها لساعاتٍ وساعات كفراشةٍ تحوم حول قبس نور.

نعم كان مجنوناً، لأنّه هو، واضع {قدموس} و{رندلى} و{أجمل منك لا} والمئات المئات غيرها، صنع مملكةً خاصةً به، عالماً من البلاغة اللفظية والصور الشعرية، وحده استحال اسمه نعتاً ولقباً، وحده يليق به أن يقول: {لسائلي أإلهٌ أنت؟ قلتُ بلى}.

أما وقد غادرنا بعد أن عاش قرناً وربا على المئة ونيف وطوى عصراً ذهبياً من عصور لبناننا الجميل الراقي، تحضرني فيه كلمةٌ لأنسي الحاج: {أوّل ثورة شعريّة عربيّة ليست «مواكب» جبران ولا محاولات جماعة «أبّوللو» بل «بنت يفتاح» و«المجدليّة» و«قدموس» و«رندلى». كثيرون من أركان مجلّة «شعر»، التي ثارت في مَن ثار على سعيد عقل، ما كانوا ليكونوا لولا سعيد عقل. كثيرون من حَمَلَة الأقلام اليوم كانوا سيكتبون أحسن لو قرأوا سعيد عقل. ونحن لا نجتزئه. عنصريٌّ؟ وخارقٌ. كثيرون في العالم عنصريّون وخارقون. الأديب يقاس بكتاباته. خاصة حين يكون أكبر من معظم الذين يقيسون».

back to top