نورمان دياب في «درب حجر» قصائد تفتح عيونها بعد نوم شاعرها الطويل

نشر في 04-06-2015 | 00:01
آخر تحديث 04-06-2015 | 00:01
No Image Caption
من الشّعر ما هو تدوين جمالي لحياة صاحبه، ففيه الـ«أنا» ترتاح على عرش مرصّع بلآلئ العاطفة الشخصيّة جدًّا، ومنه ما هو يصطحب الـ«أنا» إلى ضفّة الـ«نحن»، فيتبنّى هَمّ الجماعة فتغدو القوافي سيوفًا، طِعانُها حلالٌ شهيٌّ، لأنّها تنال من أبراج القصور الظالمة دون أن تغتسل بالدماء.

في مقدّمة ديوان «درب حجر» للشاعر اللبناني نورمان دياب ينجز الدكتور ديزيره سقّال قراءة مختصرة هي بمثابة مرآة تحتضن ملامح وجه دياب الشعري: «من الواضح أنّ نورمان يعبّر عن خلل في العالم، يشعر به بشكل حادّ» ويرى سقّال أنّ دياب يناضل للقيم الإنسانيّة النبيلة، لائذًا بالحدّة والسخرية، مؤمنًا: «بصورة إله يتحوّل باستمرار، وينمو من داخل الإنسان، فوق قلق الوجود المهترئ، كما أنّه متمسّك بإنسان أصيل، متجذّر في أصالته، بعيدًا عن قشور الزيف، ومرض الأنانيّة»...

يستهلّ الشاعر نورمان دياب بوحه في  «درب حجر» بقصيدة «دربٌ حجر»، تلك الدرب التي لا توصل إلاّ إلى المجهول والفراغ المتوَّج بالخيبة:

 «درب حجر

يمتدّ حتى لا جواب ولا خبر...

وإلى سماء آلهة استوطن قاماتها موت صخري، وغزا الاصفرار وجوهها، فهي مستقيلة من عالم الحواس ولا تزال جثثًا شاهقة في خاطر من يؤمن بها:

«ووجوه آلهة الزمان الصفر قُدّت من صَخَر،

لا نطق فيها أو سماع، ولا أنوف، ولا بصر

 وهكذا يتحوّل فضاء الوجود مقبرة عملاقة بلا جدران، مقبرة ليس فيها طاقة لصداح طير، أو شرفة لرنين وتر:

والأزرق المسكون أشباحًا عليل يحتضر

... لا طير يصدح في السماء ولا وتر

 وفي صحراء قطفَتْ رمالها من أغصان الضجر يمضي دياب وتحت أسنانه حياة طاعنة في المرارة، وكأنّها وصلت إليه قبل أن يدركها آدم والآدميّون. ويواصل إبحاره مع «نشيد الريح أو أغنية سندباد»، ويعلن عطشه العميق في بحر عميق، ذلك العطش الوجودي الذي يحتاج موجًا لا كؤوسًا. ويعلن مرضه المنسوج على نول السفر الدائم، الذي لا يعالجه سوى الطبيب الأزرق:

«أنا العطشان يا بحر

وفيك الموج يرويني.

أنا المعتلّ بالأسفار

 ماء البحر يشفيني

وأي بحر يخاطب الشاعر؟ إنّه البحر-الوجود، الوجود البديل، الوجود المبارِك مجانين الأرض حين يتّهم بياضهم وتمسي قيمهم عاهات:

«أنا المجنون يا بحر

 فقد أتلفْت مرساتي

أنا المكروه والمنبوذ

 فاقبلني بعاهاتي...

ويعرف دياب كيف يتعامل مع رمزيّة لا تصادر نسغ المعنى، ولا تسيء إلى قدرة النصّ على توليد الانفعال في المتلقّي. كما في قصيدة «أقعدْ» التي يتوجّه الشاعر بها إلى حاكم قد لا يعرف هو نفسه لماذا هو الحاكم، وفي الوقت عينه لا يبدو شعب هذا الحاكم رافضًا أن يحمل على الأكتاف عرش الغباء:

«أقعد، فديتُك، فالكبار كبار

 وانهقْ لنا، فالناس يفتنها الحمار

واركب ظهور الشعب حتى في أسرّته

فالشعب شعبك والقرار قرار

وفي هذا السياق يفتح الشاعر ملفّ الشرق المنكوب، التائق إلى حرّية وكرامة تليقان بالإنسان، إلاّ أنّهما من ذهب الحلم فقط. ويخاطب ولده المولود في «أرض عبد الله»، طالبًا منه الحذر، لأنّه وُلِدَ بلا حظّ، فعليه أن يبقي المسافة قصيرة بين رأسه والأرض، ومتى رفع رأسه بكلمة غريبة عن أسماع السلطان لحقت به لعنة الكفر، فما يستطيع سوى الاختناق بسخريته والرحيل لأن مقاومة التّنين في زمن الخصاء وتحريم صناعة الرماح مستحيلة:

«حاذر!

 وُلدْتَ بأرض عبد الله

 فالعن حظّك العاثر

 وأبقِ الرأس منخفضًا

 علوّ الرِّجل والحافر

 فإن ترفع لهم رأسًا

 فأنت مهرطق كافر

 وإن ضاقت بك الساحات

 فاكتم صوتك الساخر

وإن رجموك بالأحجار

ألقِ السيف أو سافِر...

ويبدو بوضوح الهمّ اللبناني حاضرًا في قصيدة «سَفَر»، فلبنان دياب وطن السّفر، يلد أولاده لتتبنّاهم الغربة:

 «سَفَرٌ... سفرْ

 ... وليبقَ تجّار الكراسي والدمى

وليحكموا القطعان قطعان الحجر...

 أمّا ما جعل نار لبنان طويلة العمر فهو تسلّق الكراسي على سلالم من عظام الناس، والحجّ الذي لا ينقطع إلى الشام بتنازل كامل عن الكرامة ونعمة الغضب:

«تركوا الكرامة والغضب

 لحقوا المناصب والذهب

 أرض الشآم محجّة

 رجل أتى، رجل ذهب

 وإذا كان من حلّ يرتجى يكون برحيل «الكبار» المؤلَّهين، الذين خذلوا قطعانهم القصيرة النظر والمسلوبة الإرادة:

«ليت الكبار يهاجرون كما تهاجر

 في الخريف البارد المشؤوم أسراب البجع...

يشبه نورمان دياب نفسه على درب حجره من أوّلها إلى آخرها. لقد حمّل محبرته وجع الشرق ولبنان، وأوصى سخريّته بوضوحه الشعري كي لا يكون قريبًا من المبتذل والمتكرّر والعادي. ومن المؤسف أن يرحل وهو في منتصف محبرته، تاركًا على بياض أوراقه قصائد أجنّة ليت البياض يبوح بها فتُكتَب بلا قلم شاعرها.

«يسير الناس»

في قصيدة «يسير الناس» يحدّق الشاعر إلى قومه فيجده غير مستطيع الخروج على غريزة القطيع، فتصبح الطبيعة، التي هي إناء لحياته، موشومة بالموت الكثير، وتغادر الجماجم قبورها إلى البدور، وتملّ الأفاعي صعودًا إلى شرفة الفجر، وتموت البيوت لتصير قبورًا، ويتنازل الثلج عن بياضه للكفن:

 «يسير الناس في الطرقات قطعانا

 يرون البدر جمجمة

 وخيط الفجر ثعبانا

 وكوخ الحقل مقبرة

 ولون الثلج أكفانا

وما حيلة دياب عندما يفترس الإرهاب الرغبة في الحياة في صدور البشر؟! إنّه يكسر قفلاً ليرى بعده غابة أقفال، ويطرد الظلام من عين ليرى بعدها ألف ليل في ألف عين:

«يعيش الناس في الإرهاب

 أجدادًا وشبّانًا

 فإن تفتح لهم قفلاً

وجدت الكلّ أقفالا

 وإن تفتح لهم عينًا

 وجدت الكلّ عميانا»...

وفي قصيدة «المجد قهوتنا» يتمادى دياب في سخريته، ويظهر ما وصلت إليه يده من آفات شرقيّة، ليتحوّل المجد فنجان قهوة ويطلع العزّ دخانًا من صدر نرجيلة:

المجد قهوتنا

 والعزّ نرجيله،

 وليبقى الصبر نهج حياة:

«والصبر مسكين

يحتاج تطويله»...

حتى في ثنائية الرّجل والمرأة يُظهر دياب عبثيّته الساخرة، فلا رجله محمود ولا امرأته:

«إن كنت قنديلاً

 حوّاء قنديله

 أو كنت برميلاً

 حوّاء برميله

وفي نهاية المطاف المؤلم يدعونا الشاعر إلى اعتناق الخدر للتخلّص من خيبات الحياة بأقلّ ضرر ممكن:

«أوكنت «مسطولاً»

 فالعمر «تسطيلَه»...

back to top