جيشنا لا ينفكّ ينتصر

نشر في 13-01-2015 | 00:01
آخر تحديث 13-01-2015 | 00:01
 جيمس جيفري على الجيش أن يصرّ على معرفة الأهداف السياسية وراء حروبه والافتراضات التي تكمن وراء هذه الأهداف والوسائل التي ستُستخدم، ومن ثم عليه أن يصرّ على الحصول على هذه الوسائل، وعلى القيادة السياسية والجمهور في الولايات المتحدة أن يفهما أنّ من واجبهما لا من واجب الجيش أن يعرّفا النصر ويحشدا الموارد اللازمة لتحقيقه، مع مساءلة الجيش على الفوز في ساحة المعركة.

ها هو جيمس فالوس يقدم معروفاً جديداً للحوار العام حول الأمن القومي من خلال مقاله المنشور في مجلة "ذي أتلنتيك" حول السؤال "لِمَ لا ينفك أفضل الجنود في العالم يخسرون؟"، ولكن، لديّ انتقادان بشأنه، فهو أولاً يؤكّد أنّ مشاكل متنوعة، بدءاً من طبيعة الجيش الانعزالية وصولاً إلى التطوير غير المنتظم للأسلحة، تساهم في شرح السبب الذي يؤدي إلى خسارة الحروب المستمرة المزعومة للجنود الأميركيين- وذلك من دون أن يثبت صلة هذه المشاكل، وخصوصا من حيث تطوير الأسلحة- علماً أنّها مشكلة يعود تاريخها إلى عقودٍ مضت، وثانياً، أنا أخالف فالوس الرأي في نقطته الرئيسة بأنّ "جنودنا لا ينفكون يخسرون"، وبما أنّ الفوز وليس الخسارة هو الغرض الأساسي من وجود قوة عسكرية، فلنبدأ من هذه النقطة.

منذ الحرب العالمية الثانية، فاز الجيش الأميركي في كل حملاته من منظور عسكري بحت، باستثناء هجوم عام 1950 على كوريا الشمالية ومعركتين صغيرتين أخريين، إحداهما في بيروت عام 1983 والأخرى في الصومال عام 1993، وبـ"الفوز"، أقصد أنّه أجبر الجانب الآخر على وقف جميع عملياته العسكرية أو معظمها وكسِب القيادة على الأرض المعنية. وفي فيتنام، كان الجيش الأميركي قد قضى إلى حد كبير على تمرد قوات "الفيت كونغ" بحلول عام 1972 وهزم غزواً للجيش الفيتنامي الشمالي في العام نفسه، وفي العراق، هزم الجيش الأميركي الجيش العراقي في ظرف أسابيع كما هزم كلاً من تمرد تنظيم "القاعدة" وانتفاضات الميليشيات الشيعية في عامي 2007 و2008. وفي أفغانستان، أسقط الجيش "وكالة المخابرات المركزية" حركة "طالبان" ودفع بـتنظيم "القاعدة" إلى باكستان بسرعة وكان قد فرض سيطرته على معظم أنحاء أفغانستان بحلول عام 2012.

هل قبلت الولايات المتحدة بـ"التعادل" في كوريا وخسرت فيتنام في النهاية وفشلت في القضاء بشكل كامل على المتمردين في العراق وأفغانستان؟ نعم، هذه كلها أمور صحيحة، إلاّ أنّها تمثّل إخفاقات في السياسة على المستوى الوطني، إخفاقات ساهم بها الجيش من خلال عدم تقديمه المساعدة لصياغة استراتيجيات الفوز، إلا أن المؤسسة العسكرية لم تكن هنا الطرف الوحيد في المعادلة، بل إن المسؤولية النهائية لوضع استراتيجيات الحروب تقع على عاتق رؤساء الولايات المتحدة الذين كانوا من أهم الأطراف إلى جانب المؤسسة العسكرية.

ليس الغرض الأساسي من الجيش الفوز في الحروب بل الفوز على المستويين التكتيكي والعملياتي ضد القوى المعارضة، وكما ذُكر أعلاه، لقد حقق الجيش الأميركي نجاحاً على وجه العموم في هذا المجال، ولكن، وكما يشير المؤرخ كارل فون كلاوزفيتز، إن الاستراتيجية الناجحة ليست شكلاً من أشكال النجاح في ساحة المعركة وعبقرية القائد فحسب، بل هي فوق كل شيء بصيرة القيادة السياسية في تحديد أهداف حربية تتماشى مع الأهداف السياسية والوسائل العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية المتاحة؛ وبتعبير آخر من كلاوزفيتز؛ تتمحور حول تحويل الانتصارات التكتيكية إلى فوز استراتيجي، وينطبق ذلك بشكل خاص في الحروب الطوعية المحدودة والصراعات الداخلية السياسية بطبيعتها.

في تلك الحروب (في فيتنام والعراق وأفغانستان)، كان الفشل ناجماً عن تعريف "النصر" بأنّه تحقيق هدف غير عسكري شبه مستحيل يقضي بإصلاح المجتمعات وتشكيلها على صورة المجتمع الأميركي مع القضاء في الوقت نفسه على الدوافع الاجتماعية والسياسية للتمرد، وما ضاعف من حدة هذه الأخطاء كان عدم تخصيص موارد كافية بما فيها الوقت لزيادة فرص تحقيق هذا الهدف بعيد المنال.

 وبينما كان على الجيش الأميركي تركيز قوته الفكرية على الفوز في ساحة المعركة، فإنه يتشارك مع مؤسسات أخرى مسؤولية صياغة أهداف حرب أكبر، وبالتالي، لا يجدر به الإجابة عن أسئلة حول ما إذا كان بإمكان جنوده إلحاق الهزيمة بقوات الخصم، وكيف سيفعلون ذلك فحسب، بل يتوجب عليه المساعدة في الإجابة أيضاً عن السؤال حول أي نجاح استراتيجي يمكن تحقيقه إذا ما نجح الجيش تكتيكياً.

في فيتنام وأفغانستان والعراق، حتى عندما تصرّف القادة العسكريون بالشكل الصحيح على أرض المعركة، لم ينجحوا في هذه الوظيفة الثانوية بل الهامة، ويبقى السؤال هنا: لماذا لم يطرح عدد أكبر من الضباط وبوقعٍ أكبر السؤال الذي طرحه الجنرال ديفيد بترايوس عام 2003: "كيف سينتهي هذا الأمر؟".

تكمن المشكلة وفقاً لما رأيته في أنّه غالباً ما يخلط الجيش بين الفوز في المعارك والفوز في الحرب، إذ يَفترض "رؤساؤه" أحياناً أنّ طرفاً آخر كان يعمل على حياكة انتصاراته التكيتيكية ليحولها إلى نجاحات استراتيجية، وكان يمكن تفهّم ذلك بصورة أكثر عندما كان يُعرَّف النجاح الاستراتيجي في مثل حروب التمرد هذه من منظور اجتماعي سياسي لا عسكري. وفي الوقت نفسه، تفترض عناصر من القيادة الوطنية والكونغرس والشعب الأميركي أنّه لو كان الجيش الأميركي المرموق يتولى زمام الأمور، لما كان سيكتفي بانتصارات تكتيكية فحسب- التي تشكل وظيفته الرئيسة- بل كان سيحقق نجاحات استراتيجية أيضاً، وبإيجاز، دفع كل طرف ضمنياً بمسؤولية الإجابة عن أسئلة الحرب الكبيرة إلى الطرف الآخر، ولم يكن ذلك فشل الجيش وحده، وهو ليس "فشلاً" بالمعنى العسكري، غير أنّه ما زال فشلاً رغم ذلك.

أما السؤال الأخير، فهو:"لِمَ لا ينفك الجيش الأميركي يُخفق في هذه المهمة الاستراتيجية؟"، من العوامل التي لا يلقي فالوس الضوء عليها، على عكس آخرين أمثال هانينغتون، هو عقلية الجيش الأميركي المخالفة للمفاهيم التي طرحها كلاوزفيتز، فإذا كان النصر يُعرف بـ"الاستسلام غير المشروط"، فالاستراتيجية وبالتالي النصر يأخذان إلى حد كبير شكل العمل التكتيكي على أرض المعركة وعلى نطاق واسع، وإذا كانت القيادة الوطنية تريد تحقيق مثل هذا الانتصار، فجل ما عليها فعله هو الاستمرار في صبّ الموارد في الجيش إلى أن يُحقق النصر، وهنا فالوس مصيبٌ.

كلما زاد انعزال الجيش عن المجتمع الأميركي وعن قيود هذا الأخير السياسية، تمكّن بصورة أكثر من تبني هذا الرأي. وبالمثل، كلما اعتُبر الجيش ركيزة وقاعدة كبيرة، قلّ تصدي النظام السياسي الأميركي لخلط الجيش بين النجاح العسكري التكتيكي والنصر السياسي، وزاد احتمال أن يتحول ذلك إلى عزوف عن انتقاد أهداف الحرب ووسائلها التي تحددها القيادة السياسية.

 إنّ إصلاح ذلك أمرٌ صعب، وفالوس مصيب في رفضه التجنيد الإلزامي، ولكن، حتى في وجود هذا التجنيد، سبق أن رأينا هذه الدينامية في حرب فيتنام، فالجيش يبذل جهداً كبيراً لتثقيف المدنيين ويُبرز ضباطه الواعدين بطرق أخرى أيضاً، غير أنّ وجود طبقة داخلية من العائلات التي يخدم الكثير من عناصرها في الجيش ويتم توارث هذا التقليد فيها، ومدارس عسكرية أميركية تفصل الضباط المستقبليين منذ مرحلة مبكرة عن المدنيين، وخدمات قواعد عسكرية تعزل العائلات التي يخدم الكثير من عناصرها في الجيش عن مجتمعاتها، كلها أمور تعزز الانفصال الذي يغذي سوء التفاهم في كلا الاتجاهين.

ليس هناك حل ممكن لهذا الانعزال، لذا فمن الأفضل الإقرار به والتعامل معه، ويبدأ ذلك بمهمة القيادة السياسية الأميركية التي تقضي بالفوز في الصراعات ودور الجيش الذي يقضي بمساعدتها في ذلك، وعلى الجيش أن يصرّ على معرفة الأهداف السياسية وراء حروبه والافتراضات التي تكمن وراء هذه الأهداف والوسائل التي ستُستخدم، ومن ثم عليه أن يصرّ على الحصول على هذه الوسائل، وعلى القيادة السياسية والجمهور في الولايات المتحدة أن يفهما أنّ من واجبهما لا من واجب الجيش أن يعرّفا النصر ويحشدا الموارد اللازمة لتحقيقه، مع مساءلة الجيش على الفوز في ساحة المعركة.

* رداً على مقال بعنوان "مأساة الجيش الأميركي" بقلم جيمس فالوس نُشر في عدد فبراير 2015 من مجلة "ذي أتلنتيك".

back to top