خالد غزال: الخيار الديمقراطي محكوم بالفوضى وحروب أهلية قبل أن يهيمن

نشر في 14-12-2014 | 00:02
آخر تحديث 14-12-2014 | 00:02
لماذا تتخذ الحروب والصراعات في الشرق الأوسط طابع الحروب الدينية وحتى المذهبية؟ حول هذا السؤال يتمحور كتاب {من الدين الى الطائفة، في ضرورة الدولة المدنية» (دار الساقي) للباحث خالد غزال الذي يعالج فيه تحوّل الأديان إلى طوائف ومذاهب بسبب الانقسامات الحاصلة في داخلها واتخاذها طابعاً عنفياً. ويطرح حلولا تدعو إلى التزام الدولة المدنية، شارحاً مقوماتها والعقبات التي تواجهها في العالم العربي، وصولاً إلى مفهوم الدولة المدنية في أدبيات الانتفاضات العربية وطروحات بعض المؤسسات الدينية.

يتساءل المؤلف حول مدى مشروعية تعبير الطوائف والمذاهب عن واقع الدين الحقيقي، موضحاً أن الدين في الأصل وجد لخدمة الإنسان، ويتسم بالمطلق الأخلاقي والإنساني والروحي، ويدعو الى تحقيق قيم العدالة والمساواة بين البشر، بينما لا تصب ممارسات بعض المذاهب والطوائف من اقتتال وبناء للكراهية بين أبناء الدين الواحد، أو بين الأديان المتقابلة، مطلقاً في خانة الجوهر الأصلي الذي قامت عليه الأديان.

من هذا المنطلق يؤكد أنه ليس من المغامرة إطلاق حكم على هذه الطوائف والمذاهب لأنها تشكل العدو الأساسي للدين نفسه، من خلال فكرها وممثليها، من مؤسسات دينية ورجال دين يصدرون فتاوى لا صلة لها بأصل الدين.

حول إشكاليات الصراعات والانتفاضات في الدول العربية، وإلى أي مدى تخدم توق شعوبها إلى الدولة الديمقراطية، كان الحوار التالي مع الباحث خالد غزال.

ما العناصر الأساسية وراء الانقسامات الدينية سواء في المسيحية أو الإسلام؟

لم يكن للخلافات اللاهوتية في الأديان أن تأخذ المجرى الصراعي العنيف الذي عرفه كل من تاريخ المسيحية والإسلام، لولا اقترانها بالعنصر السياسي المركزي المتصل بالسعي إلى السلطة، والصراع على امتلاكها، سواء من جانب المؤسسة الدينية وممثليها أو من جانب السلطة السياسية التي تريد استخدام الدين وتوظيفه لتبرير مشروعية سلطتها الزمنية.

لماذا سلكت الخلافات سبيل العنف؟

العنف أحد أقدم الظواهر في تاريخ البشرية، ارتبط حجمه، صعوداً وخفوتاً، بعوامل عدة، كان الديني أحد عناصرها. تسود نظريات تركز على نفي العنف عن الأديان التوحيدية وتركز على المحتوى الإنساني والأخلاقي والروحي فيها، وإذا ما أشارت هذه النظريات إلى مظاهر العنف في هذه الأديان، فإنما تنسبها إلى سوء استخدام الدين أو التشويه في فهم مقاصده، وتشدد على أن هذه المظاهر العنفية لا تمتّ إلى الدين بصلة.

لا شك في أن الأديان التوحيدية تغلب على نصوصها الدعوة إلى المحبة والرحمة والعدالة وغيرها من القيم الإنسانية والروحية، وأن نصوص العنف فيها تمثل حجماً قليلا من محتوياتها، لكن الكتب الدينية المقدسة تحوي في الآن نفسه نصوصاً تدعو صراحة إلى العنف وضرورة استخدامه لنشر الدين وفرضه على المجتمعات.

أين تكمن الإشكالية بنظرك؟

في مسألة قراءة النصوص، إذا ما قرئت في سياقها التاريخي فيمكن فهم أسباب ورودها، بالتالي اعتبارها غير ذات موضوع في الزمن الراهن. لكن المشكلة أن تيارات سياسية تنسب نفسها إلى الدين، تتعاطى مع الكتب المقدسة بوصفها كلام الله الموحى والعابر لكل زمان ومكان، وهو أمر يجعل النص الديني القائل بالعنف ذا صفة راهنية، ما يعطي تبريراً ومشروعية لاستخدام العنف.

يكثر الحديث اليوم عن الدولة المدنية، فما هو مفهومها؟

يعتبر مفهوم الدولة بالشكل الذي نعرفه راهناً، أحد أبرز منتجات الحداثة وتتويجاً لفكر سياسي انطلق في أوروبا في عصر النهضة وشهد أعلى تجلياته مع فكر الأنوار وصولا إلى العصور الحديثة.

لم تتعرّف المجتمعات إلى الدولة كما تعبر عنها المؤسسات التي تشير إليها راهناً، لكن ذلك لم يعنِ بتاتاً أن المجتمعات البشرية، منذ تكوينها، لم تكن لها أشكالها الخاصة من «الدولة»، أي سلسلة مؤسسات وإدارات تتولى تدبير شؤون مجتمعاتها. وكانت هذه الأشكال تتفاوت وفق درجة التقدم أو التأخر في كل مجتمع. لذا من الضروري تجنب إسقاط مفهوم الدولة الحديثة على سائر أشكال التدبير التي عرفها كل مجتمع، بسبب الخلط الذي تقع فيه حركات أصولية أو سلفية عندما تطرح استعادة دولة ظهرت في عصر من العصور من أجل إقامتها مجدداً في العصر الراهن.

التطرق إلى مفهوم الدولة المدنية يقابله التطرق إلى مفهوم الدولة الدينية، لماذا؟

قد يكون هذا التناقض هو الغالب، لكن مفهوم الدولة المدنية تطور واتخذ أشكاله عبر الصراع البشري مع الأشكال التي كان المجتمع ينتجها في كل مرحلة من مراحل تطوره. في مواجهة استخدام الدين في السياسة ونظرية الحق الإلهي في السلطة، وفي مواجهة الاستبداد واحتكار السلطة في الأباطرة والملوك، وفي مواجهة التجمعات القبلية والعشائرية والفئوية المهيمنة... نشأت كل مفاهيم الدولة المدنية الحديثة والقوانين والتشريعات التي تحكم مؤسساتها، وهو مسار تاريخي امتدّ قروناً واصطبغ بصراعات مريرة وحروب أهلية دامية. لذا، في استعراض مقومات الدولة المدنية التي باتت اليوم المطلب الذي تطمح الشعوب إلى تحقيقه، سيرد حكماً، الوجه الآخر لما يعاكس هذه الدولة.

يشير علماء السياسة والاجتماع إلى مكونات أساسية، من دون تحققها يصعب إطلاق صفة المدنية على أي شكل من أشكال الدولة، أهم هذه المكونات هي: المواطنة، الفصل بين الدين والدولة أو تحقق العلمانية، الديمقراطية بمفاهيمها ومؤسساتها، الفصل بين السلطات، حقوق المرأة، الحقوق الإنسانية للمواطن.

مزيج مركّب

أين هي الدولة المدنية في العالم العربي اليوم؟

يكاد علماء القانون يجمعون على أن الدولة في العالم العربي هي مزيج مركّب من مقومات الدولة المدنية ومن البنى العصبية والقبلية والطائفية. تتمظهر اتجاهات الدولة المدنية في معظم الدساتير العربية التي تنص على القوانين المدنية مثل المواطنية والخضوع للقانون الوضعي والحقوق والواجبات... بصرف النظر عن مدى تطبيق هذه القوانين، وهو تطبيق منقوص في جميع البلدان، بحيث تبدو الدساتير مظهراً شكلياً يغلف هيمنة مقومات أخرى تتحكّم بالدولة والمجتمع.

إلى جانب المظاهر المدنية في الدساتير تنتصب البنى القبلية بقوة فتفرض قوانينها المجسّدة في أعراف وتقاليد وتكاد تعلو أحياناً على الدستور المكتوب في الممارسة.

هذا التموضع للمجتمعات العربية بين القبلية والعشائرية والطائفية يشكّل في تمفصلها في ما بينها، إعاقات حقيقية في وجه انخراط المجتمع في الحداثة ودولة القانون، يضاف إليها «النظام الأبوي» الذي يمنع أيضاً إمكانات التغيير.

إلى أين يتجه المسار الذي قطعته المجتمعات العربية في بناء الدولة؟

رغم الجهود المبذولة في وضع القوانين والدساتير والسعي إلى تغليب المشترك الذي تمثله الدولة على حساب العصبيات، فإن النجاح ظل محدوداً، فالعصبيات ظلت فاعلة وبقوة لدى الجماعات، بل وشكلت ما يشبه الرابطة السيكولوجية التي توحّد الجماعات وتقوم بمهام الدولة عندما تعجز الأخيرة عن تلبية المطالب. وقد فرضت التحولات والتصدعات في المجتمعات العربية، خلال المرحلة الأخيرة من تكوّنها، على العاملين في السياسة وعلم الاجتماع، إعادة بحث موقع هذه العصبيات في مسار التطوّر العربي والتخلي عن المقولات التي تعتبر أن، الحداثة وبناء الدولة قد وضعا هذه العصبيات في مسار التطوّر العربي، والتخلي عن المقولات التي تعتبر أن الحداثة وبناء الدولة قد وضعا هذه العصبيات خارج الفعل.

ما المآل الذي وصلت إليه الأقطار العربية اليوم؟

يبدو أن المجتمعات العربية اليوم تقذف ما في جوفها بعدما رُفع الغطاء والضغط عن المكونات المتراكمة، ولم يعد بالإمكان منع التستر على الموبقات الموجودة. لا يوحي هذا المشهد بأن مسار الدولة المدنية مفروش بتسهيلات تساعد في الوصول إليه، بل على العكس، يبدو هذا الطريق مزروعاً بالأشواك، لا بل بالألغام على الأصح.

أول العوامل التي تفسر الانفجار في بنى المجتمعات العربية يعود إلى العناصر التي تتكون منها هذه البنى، وتكمن في عجز الدولة العربية عن التكوّن على حساب هذه البنى، على غرار ما عرفته البلدان الحديثة. ورغم الإنجازات الفعلية التي تحققت في أكثر من مكان في السير نحو الدولة، فإن هذه المشاريع وصلت إلى مآزق، بدت النخب الحاكمة عاجزة عن تجاوزها. لعل أهمها فشل الدولة المتكوّنة في استكمال مشروعها النهضوي الذي طرحه معظم الأقطار مع نشوء دول الاستقلال، والقائم على تحسين مستوى المعيشة للمواطن، حل مشكلات الأمية والبطالة والتهميش، تحقيق الديمقراطية وإطلاق حرية العمل السياسي والتعبير الإعلامي والنشاط الفكري، إضافة إلى حل القضية الوطنية المتصلة بتحرير الأراضي المحتلة في فلسطين والتصدي للمشاريع الاستعمارية. هذا المشروع وصل إلى حدود لم يعد بالإمكان تجاوزها، تجلت بفشل النخب القائمة على هذه الدول في إنجاز المهمات التي وضعتها لنفسها ووعدت بتحقيقها.

مشروع نهضوي

رغم الطريق الذي سلكته الانتفاضات العربية ويبدو مخيباً للطموحات، فإن هذا الحراك يسجل حقيقتين أساسيتين: الأولى تؤكد استحالة عودة الشعوب العربية إلى الخضوع لأنظمة استبداد وقمع على شاكلة ما حصل في العقود السابقة. والثانية تؤشر إلى أن هذا الحراك الذي انطلق تحت راية شعارات الديمقراطية، كشف أزمة التغيير الديمقراطي في هذه المجتمعات من خلال ارتفاع الحواجز والعقبات أمام هذا المسار، بحيث بدا الخيار الديمقراطي محكوماً بممرات من الفوضى والحروب الأهلية والمزيد من الفوضى، قبل أن تتكون قواه وتصبح قادرة على الهيمنة.

مفاصل المشروع النهضوي التي يجب أن يرتكز عليها هي قضية الديمقراطية التي تفترض تعزيز مفهوم المواطنة، وهو شرط المساواة الحقيقية في الديمقراطية، معالجة ما نسميه بصدام الديمغرافيا والتنمية الفاشلة، فقد آن الأوان لمغادرة تلك النظرية التي تربط التنمية البشرية بالدولة الاستبدادية على غرار ما ساد زمناً في الغرب، نمو القوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية الحاملة لهذا المشروع والقادرة على فرضه والسير به عبر الخيارات الديمقراطية. ومن دون توافر هذه القوى سيظل الأمل في التجديد سراباً. هنا يكمن التحدي الأكبر في مسار المجتمعات العربية كلها من دون استثناء.

back to top