هل يُمكن زراعة الذكريات وإزالتها مجدداً؟

نشر في 09-02-2015 | 00:02
آخر تحديث 09-02-2015 | 00:02
مع بداية القرن العشرين، أجرى إيفان بافلوف تجارب حوَّلت اسم عائلته إلى صفة. بإحداث صوت قبل تقديم الطعام للكلاب، علمها أن تبدأ بإفراز اللعاب ما إن تسمع الصوت فحسب، مع أنها لم تتلقَ أي طعام. يُدعى هذا النوع من التعلم التعود الكلاسيكي أو البافلوفي. لكن الأقل شهرة كانت تجربة أجراها بافلوف في الوقت عينه تقريباً: عندما سمعت كلاب بائسة الصوت، أعطيت حمضاً حارقاً. وكما تعلمت المجموعة الأخرى، كانت هذه الكلاب تبذل قصارى جهدها لتخرج الحمض الوهمي من فمها عند سماع الصوت. {فتروح تهز رأسها بعنف، فاتحة فمها ومؤدية حركات بلسانها}.
ماريا كوميكوفا ألقت الضوء في {نيويوركر} على دراسة حول تكوين الذكريات، تبحث في إمكان زراعة الذكريات في الدماغ ومن ثم إزالتها بمعزل عن أي محفز في البيئة المحيطة.
طوال سنوات، طغت اكتشافات بافلوف بشأن التعود الكلاسيكي على النسخة الداكنة من الاكتشاف عينه. ولكن في ثمانينيات القرن الماضي، أعاد عالم الأعصاب في جامعة نيويورك جوزف لودو إحياء تقنية دراسة ردود فعل الخوف لدى الجرذان. علَّم لودو الجرذان أولاً أن تربط بين صوت معين وبين صدمة كهربائية كي تتجمَّد في مكانها عندما تسمع الصوت. إذاً، كوّن الجرذ من حيث الأساس ذكرى جديدة: أن الصوت يعني الألم. ومن ثم أضعف لودو هذه الذكرى بأداء الصوت مراراً من دون تعريض الجرذان للصدمة. وبعد مرات عدة من سماع الصوت من دون تلقي صدمة، ما عادت هذه الحيوانات تشعر بالخوف.

يحاول جيل جديد من الباحثين اليوم معرفة الخطوة المنطقية التالية: إعادة توليد التأثيرات ذاتها في الدماغ من دون اللجوء إلى صوت واحد أو صدمة. هل أصبح فهم تكوين الذكريات واضحاً كفاية، حتى إننا صرنا نستطيع زراعتها ومن ثم إزالتها بمعزل عن أي محفز في البيئة المحيطة.

في مقدمة القيمين على المشروع روبرتو ماليناو، عالم أعصاب في جامعة كاليفورنيا بسان دييغو. مذ كان طالباً في جامعة نيويورك، عشق المشابك العصبية، تلك المساحة الصغيرة بين الخلايا العصبية التي تؤمن التواصل بينها. راح يسأل: كيف يمكن لأمر بهذا الصغر أن يتحكَّم بعمليات معقدة ومحددة مع اتحاد مئات الجزيئات لتحدد ما إذا كانت الذكرى ستتكون وكيف. لذلك بعدما تخرج في كلية الطب، أعدَّ رسالة دكتوراه في علم الأحياء العصبي في جامعة كاليفورنيا ببيركلي كي يعمق فهمه لطبيعة العملية العصبية التي لطالما أثارت إعجابه.

وصلات أطول أو أضعف

تتشكل الذكرى، على حد فهم العلماء، من خلال عملية تشمل تبدل المشابك العصبية: تصبح الوصلات بين المشابك العصبية أطول (التفعيل الطويل الأمد long-term potentiation) أو أضعف (التخميد الطويل الأمد long-term depression). في الحالة الأولى، نتعلم أمراً جديداً، مثلاً ولد ماليناو في الأرجنتين. وفي الثانية، ننسى أمراً قديماً، مثل اسم معلمة بديلة في المدرسة الابتدائية. وإذا تمكنا من فهم هذه العملية على نحو عميق، نتمكَّن نظرياً من التأثير فيها. وبعد عشرين سنة، يعتقد ماليناو أنه هو زملاءه قد بلغوها. أخبرني ماليناو: {اقتربنا أخيراً من فهم الكثير من تفاصيلها. من المثير للاهتمام أن تتمكن من البدء من مشابك عصبية والتلاعب بها وتطبيق ذلك على الحيوانات لمعرقة تأثيراته في سلوكها}.

مع الجمع بين فهم تبدلات المشابك العصبية والتكنولوجيا التي تزداد تعقيداً والتي يطورها ويحدثها علماء الأعصاب والفيزياء العصبية، يعتقد ماليناو أنه قد يتوصَّل إلى اكتشاف ثوري: محو ذكرى أو إعادة تنشيطها عند الرغبة. وفي سلسلة من الدراسات نُشرت في عدد يوليو من مجلة Nature، أظهر ماليناو وزملاؤه ما يجب القيام به بالتحديد، في حالة جرذ على الأقل.

تقوم المقاربة الأساس في عمل مالينا وعلى أسلوب تعلم مألوف من خلال التعويد أجرى عليه بافلوف ولودو تجارب قبل عقود. قرر ماليناو وزملاؤه محاكاة هذه العملية مباشرة في دماغ الجرذان، مستخدمين تقنية جديدة (علم البصريات الوراثية optogenetics) تتيح لهم التحكم في المشابك العصبية التي تربط مراكز السمع (أجزاء الدماغ التي تتفاعل مع النغمة وتتعلمها) بمراكز الخوف (أجزاء الدماغ التي تتفاعل مع الصدمة الكهربائية).

يعتمد علم البصريات الوراثية على القدرة على إدراج بروتين في الخلايا العصبية يجعلها حساسة تجاه الضوء. وهكذا يستطيع الباحثون بعد ذلك تنشيط الخلايا بتعريضها لومضات ضوء: كلما اصطدم الضوء بالخلية، يرسل العصب إشارة كهربائية. لكن هذه العملية غازية: لا يحتاج الباحثون إلى إدراج مؤشرات حيوية في الخلايا العصبية فحسب (في هذه الحالة خلايا في الدماغ)، ولكن عليهم أيضاً أن يجروا جراحة مطولة كي ينجحوا في تحفيز هذه المؤشرات بواسطة الضوء. على سبيل المثال، زرع ماليناو (في الدراسة) أليافاً ضوئية في الدماغ وثبته في مكانه بواسطة براغٍ وركّزه على الجمجمة، مستخدماً إسمنتاً مخصصاً للأسنان.

أولاً، استخدم فريق ماليناو التعود البافلوفي لتعليم الجرذان أن تخاف الصوت: في كل مرة صدر الصوت، شعرت بصدمة كهربائية في قائمتها. وسرعان ما بدأت تتجمَّد خوفاً، كما هو متوقع، مع سماع الصوت وحده. عمد علماء جامعة كاليفورنيا في سان دييغو بعد ذلك إلى إلغاء الصوت والصدمة على حد سواء. بدلاً من ذلك، حفزوا الخلايا العصبية المعنية (المسار بين مراكز السمع ومراكز الخوف) بتسليط ومضات من الضوء الأزرق عليها. فتجمدت الجرذان، كما لو أنها سمعت الصوت. وهكذا، لم يولد الباحثون ذكرى فحسب، بل تمكنوا أيضاً من تنشيطها من دون إجراء أي تغييرات بيئية.

اتخذوا بعد ذلك خطوة إضافية: إن أمكنهم استخدام الضوء لجعل الجرذ يتفاعل كما لو أنه يتذكر صدمة أليمة، فربما يستطيعون أن يستخدموه أيضاً لجعل ذكرى الصدمة تختفي. ترتبط هذه الفكرة ارتباطاً وثيقاً بمفهوم تعديل الذاكرة: إعادة الترسيخ، أي العملية التي نتذكر خلالها الذكرى، وعدلها بعض الشيء أثناء ذلك. ولكن بدل العمل على مستوى الحوافز (جعل ذاكرة الجرذ أقل حساسية بتكرار الصوت من دون الصدمة)، تعمل على مستوى المشابك العصبية. طوال خمس عشرة دقيقة، حفز الباحثون الخلايا العصبية التي كانت تتفاعل مع الصوت والنبرة بطريقة تبين سابقاً أنها تسبب التخميد الطويل الأمد، أي ما يعادل تكرار الصوت مراراً من دون التسبب بأي أذى. وبحلول نهاية الخمس عشرة دقيقة تلك، نسيت الجرذان خوفها وما عادت تتجمد. وهكذا تمكَّن فريق ماليناو باستخدام التحفيز الضوئي فحسب من إخماد الذكرى بالكامل.

لم يتوقف الباحثون عند هذا الحد: إن استطاعوا إخماد ذكرى، فهل يستطيعون إعادة تنشيطها؟ لذلك عملوا مجدداً على تحفيز الخلايا بالطريقة التي اعتمدوها سابقاً ليشكلوا الذكرى. فتجمدت هذه الحيوانات مرة أخرى. وهكذا عادت الذكرى، التي بدا أنها زالت، لتحتل المحور ووسط المسرح، علماً أن العلماء لم يستعملوا أي صوت لاسترجاعها. يذكر موليناو: {يمكننا أن نطفئ هذه الذكرى ونعيد تنشيطها لنطفئها مجدداً ساعة نرغب، وذلك بتعديل المشابك العصبية بطرق متوقعة. طوال عشرات السنين، كان الناس يدرسون المشابك العصبية، معتبرينها أساس الذاكرة. وتشكل طريقتنا أسلوباً مباشراً لنؤكد أنهم كانوا محقين}. بكلمات أخرى، ظنَّ العلماء منذ زمن أنهم يعرفون كيفية تشكل الذكريات واضمحلالها. أما اليوم، فباتوا يملكون دليلاً واضحاً على مستوى الخلايا يثبت ذلك، فضلاً عن طريقة لتعزيز الذكريات أو إضعافها.

دواء لإضعاف المشابك العصبية

يختبر ماليناو وزملاؤه في الوقت الراهن ما إذا كان دواء صُمم لإضعاف المشابك العصبية يؤدي إلى التأثير عينه كما المحفزات الضوئية. يشير ماليناو: «تقوم هذه الفكرة البسيط على أن شخصاً يملك ذكرى وقد تكون متكررة، فيُعطى الدواء وهو يفكر في الذكرى. نتوقع في هذه الحالة أن تضعف المشابك العصبية التي تُستخدم في هذه الذكرى. وبعد زوال تأثير الدواء، يجب أن تكون الذكرى قد خمدت». صحيح أن ماليناو يختبر الدواء على الجرذان فحسب، إلا أن آخرين يفكرون في إمكان تجربته على البشر.

في المقابل، من الممكن لمجموعة أخرى من الأدوية أن تحاكي تقوية المشابك العصبية باستخدام مقاربة تخفض عتبة إنتاج الذكرى على غرار ما يحدث حين نجد أنفسنا في حالات مشحونة عاطفياً (لذلك تتذكر على الأرجح ما كنت تقوم به في الحادي عشر من سبتمبر 2001 لا اليوم الذي سبقه). ومن الممكن استخدام هذه المقاربة نظرياً لعلاج حالات مثل الزهايمر: يعتقد الباحثون أن البيتا أميلويد الذي يتراكم في الدماغ يضعف وصلات المشابك العصبية، وبذلك يخمد بعض الذكريات. ولكن إذا استطاع العلماء تقوية هذه الوصلات، فقد ينجحون في استرجاع الذكريات الضائعة.

أخبرني ماليناو أنه يتلقى كل يوم رسائل إلكترونية من أناس يطرحون عليه سؤالاً واحداً: هل يستطيع أن يمحو ذكرياتهم عن حادث أليم؟ يقول: {مذهل العدد الكبير لمَن يعانون المشاكل والذكريات الأليمة}. صحيح أنه يأمل أن يتوصل ذات يوم إلى الجواب، لكنه ينبه إلى أن من المستبعد أن نتوصل إلى علاج قريباً. يضيف ماليناو: {دماغ الإنسان معقد جداً. ومن الصعب التلاعب بالمشابك العصبية بطريقة يمكن توقعها فيه. يمكننا أن نختبر هذه الأفكار في نظام مماثل، ونشكِّل بالتالي صورة عن كيفية معالجة مشاكل مماثلة. لكننا لم نبلغ بعد مرحلة يمكننا أن نقول معها إننا نستطيع المساعدة بالتأكيد}.

ذاكرة الإنسان معقدة

لا شك في أن هدف الباحثين النهائي الانتقال من الجرذان إلى البشر. وهل من الممكن استخدام هذه التقنية في النهاية لمحو الذكريات الأليمة، المحزنة، أو حتى السعيدة التي لم نعد نريدها على غرار فيلم Eternal Sunshine؟ لا شك في أن ذاكرة الإنسان أكثر تعقيداً من الجرذان، ومن الممكن لذكرى واحدة أن تتوزع على أجزاء عدة من الدماغ.

لكن ماليناو يعتقد أن تعديلها قد يصبح ممكناً ذات يوم. يقول: {عندما نفكر في ذكريات معقدة، ينشط مسار مختلف من الخلايا العصبية. إلا أنها كلها متصلة بواسطة مشابك عصبية شبيهة بما تناولناه في الدراسة. وإذا استطعنا أن نضعف عدداً من هذه المشابك في ذاكرة معقدة، فقد ننجح في وقف نشاطها بالطريقة عينها}. يعتبر العالِم أن هذه مسألة كمية لا نوعية: مهما كانت الذكرى دقيقة ومتأصلة في الذاكرة، يمكننا إضعافها أو تعزيزها، إن نجحنا في استهداف المشابك العصبية كافة التي تنشطها بطريقة صحيحة. لا ترتبط هذه الاكتشافات بالترويج لعمل البصريات الوراثية كوسيلة ممكنة (يُستبعد استخدامها في حالة البشر لأنها غازية ولأننا نحتاج إلى معرفة الخلايا التي ينبغي تحفيذها بالتحديد)، بل باحتمالات أن يشير نجاح هذه المقاربة إلى تبدل الذكريات عموماً.

back to top