منى العنزي في «ليل وناي»... للمرّة الأولى: وجهاً لوجه مع القصيدة

نشر في 11-12-2014 | 00:02
آخر تحديث 11-12-2014 | 00:02
No Image Caption
سؤال وجيه: متى يرسل شاعر ديوانه الأوّل إلى المطبعة؟ وبكلّ بساطة ووضوح، عندما يقول له الناقد الذي فيه: «اطبع»، أو عندما يأذن له صاحب معرفة يحظى بالثقة والمحبّة. غير أنّ الكثيرين من شعرائنا ونقّادنا – مع التحفّظ- ما يقولونه في الأصفر الصحيح النسب إلى الذهب يقولونه في أصفر الجواهر الزائفة.
وصلت منى العنزي إلى ساحة القصيدة العربيّة، متأبِّطة باكورتها الشعريّة «ليل وناي». وعلى ظهر الغلاف رأي للشاعر الدكتور ابراهيم أبو زيد: «إذا كان نزار قبّاني قد أجاد الرسم بالكلمات، فإنّ منى العنزي قد أبدعت في العزف بالكلمات». وممّا لا شك فيه أن قبّاني لم يكن أوّل تاجٍ على جبين القصيدة ولن يكون خاتمة الشعراء وإن صعب ملء الفراغ الذي تركه كثيراً. لكنّ شهادة أبو زيد تسيء إلى العنزي ولا تخدمها، لأنّ نصّ العنزي الشعريّ لم يصل بعد إلى نضجه الكافي، وليس من السهل أبداً أن ينافس شاعر عربيّ، بديوانه الأوّل، مملكة نزار قبّاني الشعرية التي بناها بعرق قلمه وقلبه قافية قافية.
ممّا لا شكّ فيه أنّ منى العنزي ذات موهبة، ولها في ليل القصيدة قمرها، غير أنّها أدّت نصّاً يشكو الهدر على مستوى اللغة، ويحتاج إلى التكثيف وإلى المزيد من الإيحاء، وإلى التمرّس في حياكة الثوب الموسيقي ومجاذبة القوافي.

لافتٌ هو إهداء الديوان، ولاسيّما حين تعلن العنزي أن الأحلام المتواضعة هي سببٌ للإضطهاد الذي يبدو ضريبة لكلّ حلم: «بعض أحلامنا بسيطة وصغيرة/ نحن لا ندرك أهميّتها إلّا حين نكبر بالعمر، ونتشجّر بالأحلام، ويضطهدنا الآخرون». إلّا أنّ الشاعرة مستعدّة لتسديد ضريبة أحلامها، والقصيدة وحدها تكفي لأن تكون تاجاً يعلو الاضطهاد َ ولا ينال منه ريح أو سيف.

تستهلُّ العنزي بوحها بقصيدة «سيّد المطر»، وفيها دعوة لحبيب إلى لقاء يسبق وصول القمر، وهذا الحبيب مطالبٌ بإعلان حبِّه أمام النّاس كلّهم، فالعنزي تؤمن بالحبِّ جهراً، لا تحت قناطر الأسرار: «تعالَ قبيل ظهور القمر/ تعال وقل لجميع البشر/ بأنّ خطانا وليدة عشقٍ/ وصوت الناي يجيد السّمر». وواضح كيف يخذل الوزن الشاعرة: «وصوت الناي يجيد السّمر». وكان بإمكانها القول، على سبيل المثال: «وصوت لنايٍ يجيد السّمر». والخطأ الموسيقي متكرّر في أكثر من قصيدة، رغم أنّ معالجته ليست بالأمر الصعب.

والعنزي لا تفصل الحبّ عن الطبيعة، فهي تريده متوّجاً بالزهر، مرتدياً ظلال الشجر، عائشاً لذّة الشروق، وللحبّ تمدّ اللغة يدها: «فكلّ الحروف تنادي علينا/ على السّطر حتّى وفوق السّطر». ولا ترضى الشاعرة برجل ممتلئ من ذاته فقط إنّما تريده أن يتّسع ليصير النّاس كلّهم: «فعيني تراقب طيفك حتّى/ أراك بعيني جميع البشر».

حنين

والعنزي دائمة الحنين إلى طفولة هي أيقونة الطبيعة والعاطفة، ولذلك تلوذ بذاكرتها، وتمعن في الشّد على يد الماضي: «أعدني لوادٍ يفوح بزهر الربيع/ أعدني لتلٍّ.../ لأمّي التي تخبز الفجر في مبهجات الحياة/ أعدني لصوت أبي حين تأتي الصلاة...» ومن رحيق الحبّ في وجه الأم وصدر الأب، تمضي الشاعرة أبعد، لتصل إلى جدِّها ذي اللثمة ورجل الصحراء، الذي ربّى في ظلال خيمته القوافي وضيّفها والقهوة لـِ «وجوه سمراء ملوّحة/ بشمس الصبر والخيال.» جدّ العنزي يبدو طالعاً من كتاب التاريخ، مؤتمناً على القيم التي تصنع الفروسية عند العرب. فهو يرتدي الماضي عباءة، ويفتح خيمته «لصعاليك من أنحاء القبائل/ جاءوا على وهج شعاع/ يسنّون رماح البقاء...». وترتقي الشاعرة بجدِّها ليقفز من شرفة الحقيقة إلى بحيرة الخرافة، ويتعملق فيحجز كرسيّاً له تحت قنطرة الأسطورة: «وعيناه الرّماديتان من لون السّحاب/ تجرّ الظلال للبوادي.../ أنفاسه الرقيقة تقيس بخبرته حدود المحال...» ولعلّ أجمل ما وجدته العنزي في جدِّها عقلاً لم يتحوّل غربالاً لرمل الصحراء، إذ هو حاول أن يتحدّى صعاليك الصحراء بوقوفه على ضفّة المرأة المظلومة: «للعذارى الحقّ في تقرير المصير».

وغريب، في زمن العولمة، وسقوط القوميّات، والتجذيف نحو الإنسان الواحد باعتبار الأرض وطناً واحداً لكلّ البشر... غريب، كيف تفتخر العنزي برايات القبيلة، وبمن استبسل لبقائها خفّاقة في زمن الإنترنت: «... من ساق قطيع الغيم لوديان الحجرة/ في القرن الحادي عشر من الهجرة / ليكتب أغصان قبيلتنا/ وفروع أكثر من عشرة/ هذا الرجل الجالس في أقصى المقهى/ يعرف كيف تتشجّر أوراق قبيلتنا العطِرَة».

أمّا في قصيدة «ليالي النّاي» فتظهر العنزي متأثِّرة بـ{مواكب» جبران خليل جبران، محاولة فتح نوافذ الخاطرة والحكمة، فتطلب نايها من الليالي على رغبة في النور والارتواء: «يا ليالي الناي هاتي/ كلّ نور لحياتي/ واجمعي نبض السحاب/ ثمّ صبّي في فلاتي.»

وتتابع فكرتها معلِّلة توقها إلى الشّمس التي إن غابت عميَ الظّلُّ واتَّسع الظلام للجنون: «دون شمس سيكون/ ظلُّنا دون عيون/ والظّلام سوف يغدو/ حاملاً خيط الجنون». ومن الواضح أنّ الشاعرة قصَّرت في الوصول إلى العمق الجبرانيّ ولو أنّها، مقارنة مع نصوص الديوان، سعت في «ليالي النّاي» إلى جملة مضغوطة لا تخلو من التكثيف: «أعطني النّاي تعالْ/ في جوابٍ وسؤالْ/ لم يغب عزفي ولكن/ كنت أشدو للخيال»...

وفي قصيدة «الطائف» تحتفل العنزي بالمكان، وتفتح الأشياء لترى ظلَّها فيها: «ها هو الطّائف/ وهذا وقت مصيف/ وهذه أنا/ وهذه أسماء/ وسَلِ السماء؟ عن ظلِّنا في الأشياء». وفي هذه الاحتفاليّة سعيٌ إلى الانتماء وجنوحٌ نحو المبالغة العاطفيّة الجميلة، فيتحوّل ورد الطائف كائناً لغويّاً يسكن فردوس القصيدة، وكائناً سائلاً على حُمرة في العروق: «...بحثاً عن الورد الطائفيّ/ قالوا لنا بأنّه يفوح في القصيد/ يمارس الرقص في الوريد». وتسترجع الشاعرة عُكاظ أجدادها مساوية بين الشمس والقافية: «أين عكاظ؟/ وبيوت الشعر فيها كالنهار/ قالوا لنا بأنّها في الجوار»...

ليست منى العنزي خارج خيمة القصيدة، وإن كانت لا تستطيع الآن المنازلة في عكاظ. لكنّها تستطيع أن تعالج الضعف لغةً ووزناً وأسلوباً. فهي في مكان ذات جملة ممتلئة، وفي مكان آخر ذات جملة تشكو الفراغ.

وما من شكٍّ في أنّ المحاولات الأولى مغفورة خطاياها، شرط أن يعرف صاحب القلم متهيّباً، لا خائفاً، أنّه يقوم بصناعة أصعب ما في الوجود، وأعني: القصيدة.

back to top