بلجيكا... بلد صغير ينتج مجاهدين كثراً؟

نشر في 01-02-2015 | 00:01
آخر تحديث 01-02-2015 | 00:01
نظراً إلى عدد سكانه الصغير، ما من بلد آخر في أوروبا يرسل هذا العدد من المجاهدين الشبان إلى سورية بقدر بلجيكا. ولكن ما السبب؟ يقول البعض إن المشكلة تكمن في طبيعة البلد المجزأة بحد ذاتها.
قصة أحد المجاهدين سرد تفاصيلها كل من كارن كونتز وغريغور بيتر شميتز في «شبيغل».
رأت شانتال لوبون ابنها آخر مرة في محطة حافلات في بروكسل. كان ذلك قبل سنتين في شهر أكتوبر {عند الساعة العاشرة والخمس والعشرين دقيقة تحديداً}، وفق لوبون. أوصل عبد أمه إلى المحطة بسيارة، ركنها في الموقف، وأنزل حقيبتها من السيارة إلى الرصيف.

قال لها: {إلى اللقاء يا أمي}. فأجابته: {إلى اللقاء يا ابني}. ولم ترَ وجه ابنها بعد ذلك إلا بعد أشهر حين شاهدته في شريط فيديو على موقع يوتيوب. ظهر في الشريط وهو يرتدي كوفية فلسطينية ويحمل كلاشنكوفاً. ودُمغ الفيديو بعلم «داعش» في سورية.

شانتال لوبون (64 سنة) مدرِّسة دار حضانة متقاعدة صغيرة القد ومفعمة بالنشاط، عيناها زرقاوان وشعرها غزاه الشيب. أتت إلى المقهى لتروي لنا قصة ابنها عبد، قصة ولد بلجيكي تحوَّل إلى مقاتل متطرف في «داعش» وهو بعد في الثالثة والعشرين من عمره. تذكر أمه ألا علاقة لعبد بخطط الاعتداء في بلجيكا، لكنها تؤكد أن ابنها مجاهد.

في طريقها إلى المقهى في بروكسل، رأت جنوداً يقفون حرساً أمام مركز الشرطة، مبنى المحكمة، ودار البلدية. فقد رفعت الحكومة البلجيكية إنذار الإرهاب إلى ثاني أعلى مستوى، بعدما نجح المسؤولون في إفشال اعتداءات كانت  تستهدف رجال الشرطة والمدارس اليهودية في مطلع الشهر الفائت. وفي البرلمان الأوروبي، مُنعت المناسبات التي تضم أكثر من مئة ضيف أجنبي، وتحرس الآلات العسكرية مدخل المفوضية الأوروبية.

منذ 15 يناير، قبل يومين من مقتل منفذي الاعتداءات المزعومين في مداهمة للشرطة في فيرفيه، صار خطر الإرهاب واضحاً للجميع، ما أدى إلى تبدلات كبيرة في الحياة في بلجيكا.

أوقف نحو 13 إرهابياً مشتبهاً بهم خلال يناير. لكن القائد المشتبه به للمجموعة التي يُعتقد أنها كانت تخطط للاعتداء، شاب في السابعة والعشرين من عمره يُدعى عبد الحميد أباعود، ما زال طليقاً ويُرجح أنه في اليونان. ذكر في شريط فيديو: {أصلي إلى ألله أن يدمر كل مَن يعارضوه}. وعلى غرار ابن شانتال لوبون، عاش أباعود أيضاً في مولنبيك، مقاطعة غرب بروكسل. وبما أنها قلقة من أن يقف ابنها وراء المؤامرة الإرهابية التالية في بلجيكا، فضلت أن تبقى هويتها مجهولة. لذلك غيرنا اسمها واسم ابنها أيضاً في هذا المقال.

بلجيكا والجهاد

من بين 4 آلاف أوروبي انضموا إلى الجهاد في سورية، أتى 1200 منهم من فرنسا، وبين 500 و600 من كل من بريطانيا وألمانيا، وفق التقديرات الأحدث التي نشرها المركز الدولي لدراسات التطرف في لندن. أما بلجيكا الصغيرة التي تعد 11 مليون نسمة، فأرسلت 440 رجلاً إلى ساحات المعركة في حلب، حمص، ودمشق. وبالنظر إلى عدد سكانها، ما من دولة أوروبية غربية أخرى أرسلت هذا العدد الكبير من المجاهدين.

ترعرع عبد مع عائلته في حي العرب في مولنبيك. تضم هذه المنطقة من بروكسل أناساً من أكثر من مئة بلد: من الكونغو إلى المغرب، فضلاً عن أعداد متزايدة من الشرق الأوسط والشيشان. يصل المهاجرون الجدد إلى بلد كاثوليكي بطبيعته بدأت المجتمعات اليهودية والمسلمة تنمو فيه، في حين أن الحكومة تعاني من دين سيادي عالٍ جداً منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي.

لم يعانِ عبد الفقر في صغره، فكان والده مدرساً. كذلك لم يواجه أي مشاكل في المدرسة. ولكن لما كان والده أفريقياً، امتلك هو بشرة داكنة. نتيجة لذلك، تخبر والدته أنه لم يشعر بانتمائه إلى هذا البلد. علاوة على ذلك، كان الأولاد الآخرون يسخرون منه. عندما أنهى المدرسة الثانوية، انتقل عبد للعيش في شقة خاصة به، مع أن والدته كانت تزوره باستمرار لتقوم بأعمال الترتيب والتنظيف. في تلك المرحلة أخبرها أنه اعتنق الإسلام، ولاحظت أنه بدأ يتعلم اللغة العربية. وسرعان ما امتلأت غرفته بالكتب. سُرت الأم بادئ الأمر بهذا التغير لأنها ظنت أن ابنها كان يسعى إلى أمر يستحق العناء.

لكنَّ تبدل عبد بدأ يزداد تدريجاً. وما هي إلا فترة قصيرة حتى صار يرتدي عباءة على غرار أهل المغرب. وعندما كان يزور أمه، كان يستخدم سجادة للصلاة. كذلك ما عاد يتناول طعامه المفضل، اللازانيا، لأن اللحم ليس {حلالاً}. وأيام السبت، كان ينزل إلى الشارع ليوزع الطعام على الفقراء. كذلك صار يلحّ على أمه قائلاً: {أمي، اعتنقي الإسلام}، إلا أنها كانت تجيبه: {كي نلتقي في الجنة}.

لم يشتكِ مطلقاً

أخرجت أمه كمبيوتراً لوحياً من حقيبتها لترينا شريط الفيديو. كان خمسة رجال يحملون علم {داعش} يقفون في أرض قاحلة. يقول أحد المقاتلين: {بإذن الله، سنحمل علم النصر إلى القدس وإلى البيت الأبيض. بإذن الله، سيرينا هذا الرجل من بلجيكا ماهية المسلم الصالح}. بدا عبد سعيداً في الشريط.

تخبر والدة عبد أنه كان يتصل من حين إلى آخر ويقول لها إنه يشارك في المساعدات الإنسانية في سورية. كذلك أخبرها عن أصدقاء قُتلوا، إلا أنه لم يشتكِ مطلقاً. في النهاية، ما عادت الوالدة تسأله عن عودته إلى الوطن. كذلك أخبرها ابنها عن الضربات الجوية التي نفذتها الولايات المتحدة. بحلول نهاية شهر ديسمبر، قال: {الهاتف مراقب، فمن الخطر الاتصال يا أمي}. ومن ثم أقفل الخط، لم يعاود الاتصال بها.

في مولنبيك، حيث كان عبد يقيم، كانت الشوارع مكتظة في تلك الأمسية. كان عدد من الرجال يقفون أمام المقاهي، فيما راح بائع خضروات يوضب الطماطم. هنا، في الطابق الرابع من مجموعة متلاصقة من المنازل الصغيرة، فتح منتصر الدعمي الباب. تحوَّل الدعمي إلى وجه مألوف في المقابلات أخيراً لمن أرادوا معرفة لمَ تخسر بلجيكا هذا العدد الكبير من الشبان للجهاد.

ولد الدعمي (26 سنة) لوالدين فلسطينيين في مخيم للاجئين في الأردن، إلا أنه ترعرع في مولنبيك. تخصص في الدراسات الإسلامية في الجامعة ويعد اليوم رسالة الدكتوراه بعنوان {المقاتلون الغربيون في إطار الجهاد الدولي}. ولا تضمّ بلجيكا على الأرجح أكاديمياً آخر مطلعاً إلى هذا الحد على ما يحدث في هذا المجال. يقول: {نعيش في بلد منقسم}. يفتقر عدد كبير من المسلمين الشبان إلى الهوية، وفق الدعمي. ويضيف أنهم لا يشعرون أنهم بلجيكيون لأن بلجيكا لا وجود لها حقاً. يعيش الفلامون والوالون والأقلية الألمانية جنباً إلى جنب، ويتوزعون بدقة في مناطق ومجتمعات لغوية عقب تطبيق مجموعة كبيرة من الإصلاحات الحكومية. يذكر الدعمي: {نتيجة لذلك، تصبح البنى الواضحة للثيوقراطية الإسلامية أكثر جاذبية في نظر كثيرين}.

يحلم باللازانيا

خلال البحث عن الشعور بالانتماء، انضم مسلمون كثر إلى {الشريعة لبلجيكا}، مجموعة إرهابية تواجه اليوم ملاحقة قضائية في أنتورب، إذ وجهت التهم إلى 46 عضواً يُرجح انتماؤهم إلى هذه المنظمة، ويُشتبه بأنهم جندوا المقاتلين في بلجيكا للجهاد في سورية أو حاربوا هم أنفسهم في ذلك البلد. كذلك وُجهت إليهم تهمة أنهم أسروا الصحافي الأميركي جيمس فولي الذي قطعت {داعش} رأسه لاحقاً. ومن المتوقع أن يصدر الحكم في هذه القضية في شهر فبراير.

تمكنت {شبيغل} من التكلم مع أحد أعضاء المجموعة عبر الهاتف. اسمه يونس ديليفورتري، شاب في السادسة والعشرين من العمر ولد في بلجيكا ويتكلم الإنكليزية بطلاقة. أخبرنا أنه أمضى شهرين في حمص، لكنه أصرَّ على أنه لم يقتل أحداً. قال إنه انضم إلى {الشريعة لبلجيكا} لأنه لم يرد إسلاماً لا يأخذ قواعده على محمل الجد.

شعر ديليفورتري في بلجيكا، على حد قوله، أنه تعرَّض للظلم. واشتكى خصوصاً من أنه لم يستطع الصلاة في مكان العمل. بالإضافة إلى ذلك، أكَّد أن بناء المساجد خاضع لعدد كبير من التنظيمات، حتى إنها تبدو أشبه بمرأب عند الانتهاء من تشييدها. قال: {إذا أمضيت سنوات في قمع شخص ما، فمن المنطقي أن ينتفض ويحاربك}.

تخبر والدة عبد أنها تلتقي بانتظام في بروكسل مع 15 والدة أخرى يحارب أبناؤهن في سورية أيضاً. اجتمعت تلك النساء بعد يوم من اعتداءات شارلي إيبدو في باريس. أخبرت والدة عبد المجتمعات عن حلم راودها بعد رؤيتها الدماء الكثيرة على التلفزيون. قالت: {رأيت ابني يسير في أحد شوارع باريس. ما كان يحمل سلاحاً، بل بدا مسالماً}. وفي الحلم، عاد عبد بعد ذلك إلى المنزل. جلس بصمت في المطبخ ووضع يديه على الطاولة. فتوجهت هي إلى الفرن وأعدت له وجبته المفضلة: اللازانيا.

نوتيلا في تركيا

علاوة على ذلك، لا يشعر معظم المسلمين في البلد أنهم ممثلون سياسياً. يوضح الدعمي أنهم اعتادوا التصويت للديمقراطيين الاشتراكيين من الفلامون. لكن الحكومة فرضت بعد ذلك حظراً على ارتداء البرقع والنقاب في الأماكن العامة. نتيجة لذلك، نلاحظ اليوم أن تدفق المسلمين المتطرفين يُعتبر كبيراً في مدن فلامية مثل أنتويرب، ميشلن، وفيلفورد، بالإضافة إلى بروكسل. وهذه هي المنطقة ذاتها التي أمضى فيها الحزب اليميني الشعبوي Vlaams Belang  سنوات في مضايقة المجتمع الإسلامي.

بالإضافة إلى ذلك، يوضح الدعمي أن الإسلام كممارسة في بلجيكا يخفق عن بلوغ الشبان. في فلاندر 150 مسجداً، واللغة العربية هي المعتمدة في معظمها، وفق الدعمي. لكن الشبان المهاجرين من الجيل الثاني لا يفهمونها. بدلاً من ذلك، يعثرون على معلمي الكراهية على موقع يوتيوب ويرون معاناة الناس في سورية. يقول الدعمي: {يسافرون إلى سورية ليداووا جراحهم الخاصة}.

في شهر يونيو عام 2013، زار الدعمي مجموعة من المجاهدين البلجيكيين في سورية. اقتاده وسيط إلى الجزء العربي من مدينة حلب. كان البلجيكيون هناك يقيمون في منزل فاخر يعود إلى سوريين فروا من البلد. أمضى الدعمي 15 يوماً مع المقاتلين، الذين ينتمون إلى جبهة النصرة. خلال النهار، يتولى هؤلاء الشبان تسيير الدوريات على الجبهة، ومن ثم يجلسون على مساند وهم حاملون بنادقهم الرشاشة ويروحون يتحدثون عن الحرب ضد بشار الأسد. وفي المساء، يذهبون للسباحة أو يتسللون عبر الحدود إلى تركيا لشراء النوتيلا (Nutella).

يخبر الدعمي أن البنى داخل جبهة النصرة هرمية. فثمة أمير يمنح مَن يريدون، مثل الدعمي نفسه، زيارة المجاهدين. تحته نرى رؤساء المناطق الذين يتولون إدارة أقاليم محددة. ويعطي هؤلاء بدورهم الأوامر للقادة المسؤولين عن المقاتلين السوريين والأجانب.

يتابع: {يدرك الجميع بالتحديد ما عليهم القيام به. تبدو معنويات البلجيكيين مرتفعة، فهم يحبون اتباع بنى محددة}. ويعود هذا الشعور أيضاً على الأرجح إلى أن جبهة النصرة، على غرار داعش، جعلت الشبان مثل عبد يشعرون أنهم جزء لا يتجزأ من أمة، وإن كانت خيالية.

back to top