عبد الحكيم الحربيلي في «خريف حزين»... رمزيّة شفّافة وسخاء لغويّ

نشر في 10-06-2015 | 00:02
آخر تحديث 10-06-2015 | 00:02
No Image Caption
قد يكون الشعر، بطبيعته، ليس بمنأى عن الحزن. إلاّ أنّ الدم العربيّ الحديث، الذي يملأ خوابي الفجيعة وشم الشعر عندنا بكآبة كثيفة تعيش على خبز اليأس اليابس، وتبدو ذات عمر يطول.
في جديده الشعريّ «خريف حزين»، يجذّف الشاعر المغربيّ عبد الحكيم الحربيلي في مياه لغة عميقة الانتساب إلى جغرافية الحزن. والإصدار هو كناية عن كتابين في كتاب: الأوّل «اشتعالات» وقد صدر سنة 2006، والثاني «خريف حزين» لم تمض سنة على نشره، وسيكون الكلام عنه.
يطرق الشاعر المغربيّ عبدالحكيم الحربيلي، أوّلاً، باب الحبّ معتقداً أنّ يقينه لن يخذله: «أعتقد أنّه الحبّ». والحبّ عنده مائيّ الكينونة، منتسب إلى الطبيعة لتكون له مثلما أحشاء الأمّ للجنين: «مثل سحابة بنفسجيّة، صعدتُ من برج الدلو،/ تقتلني النار، ويحييني الماء، / وتعجبني الريح حين تداعبني / وتدفعني بكفّيها الناعمتين»...

ففي الربيع، يتقمص الحبّ المسافة الملتهبة بين فراشة ووردة: «في الربيع/... أنصت بشغف إلى قلب الحبّ وهو ينبض/ مثل قلب فراشة تلثم وردة»... وفي الشتاء، يصير للضوء رنين فترتدي النجوم أجراساً ويحلّ الحبّ في عروق النبات جائداً عليه بتيجان من ذهب: «وفي الشتاء،/ عندما ترنّ النجوم كالأجراس في السماء/ أرى ضوءاً غريباً/ يخرج على شكل تويجات ذهبيّة/ من سيقان النباتات والأغراس»... وكي يتمكّن الشاعر من اصطياد هذه المشاهد بشبكة عينه العاشقة، لا بدّ له من أن يكون خارج روحه، وعلى مسافة منها: «أتأمّل في المشهد من خارج روحي،/ وهو يبتسم لي بروحه،/ أعتقد أنّه الحبّ».

ومن الحبّ يعبر الحربيلي إلى خريفه الحزين، الذي يصل إلى الروح ويحوّل عينيها مرآة جليديّة لا تتّسع إلاّ لفضّة الكآبة: «خريف حزين.../ يغطّي عيون روحي بجليد الكآبة»، وفي ظلال الكآبة يمضي الليل والنهار إلى كهف عميق يستوطنه الموت وحده، والموت عند الشاعر كائن شهيّ، باعتبار أنّ الأموات يقفون على الأبراج العالية في قصور السعادة، ويعيشون حركة تصاعديّة تجعلهم هدايا ثمينة ترفعها الأرض إلى السماء: «ليل، نهار/... سبات وأحلام مثل الأموات/ ينامون/ وهم يتجوّلون في مدن السعادة،/ طاقة وحركة مثل البركان/ يقذف بخيرات الأرض نحو السماء».

 

كهولة

 

ويعاني الحربيلي العمر. فتزوره الكهولة حاملة على كتفها غراب اليأس الخدّاع بخفّته، إذ إنّه ذو المنقار الفولاذي القادر على الارتواء من دم الحجر، فكيف إذا وقع على قلب شاعر: «لم أستطع إيقافه،/ كان خفيفاً مثل طيف الغسق/ وعنيفاً مثل كاسر الأحجار». وغراب الكهولة هذا يحرج الشاعر فيبوح بمخبّآت قلبه الهشّ «كقطعة بسكويت»، الذي ينبت الحبّ في تراب فقره زهرة بلا حياة، المحتضن غضب موجٍ لم تصفّق له صخور، المحتفظ ببقايا امرأة كانت بعضاً من لحم ودم وبعضاً من مستحيل: «جدار قلبي هشّ كقطعة بسكويت/ لن تجد تحته ثروة/ قد تجد الحبّ مثل زهرة ذابلة،/ أو تجد أمواجاً غاضبة / أو بقايا صورة امرأة جميلة/ خفق لها قلبي ذات ربيع/ ولم أجد إلى قلبها سبيلاً»...

 إلاّ أنّ ذلك الغراب لا يريد أن يؤذي الحربيلي إنّما هو باحث عن عشّ له، عن مكان يليق بسواد ريشه، وعليه، فإنّ قلب الشاعر من أندر أعشاش الغربان الناشدة مكاناً آمناً لفراخها واستمراريّتها: «أجابني بصوت حنون:...»أريد أن أبني لغراب اليأس عشّاً/ منذ تلك اللحظة، استوطن غراب اليأس قلبي،/ ووضع فيه بيضاً كثيراً». وفي قصيدة «التمثال» يحاول الحربيلي تمثالاً له، غير أنّ هذا التمثال لم يخرج من رحم صخرة، بل هو صاحبه نفسه: «ذات شتاء صنعت تمثالاً من تربة حقل حياتي،/ مثل نحّات عجنته بدمي،/ ثم صقلته بنار أحلامي»... ولا شكّ في أنّ تمثال الشاعر جديد، وينمو في ظلال فكرة الكمال والارتقاء: «وأنا أفكّر في الله، وأحلم بالجنّة الأبديّة»، ولكن المشكلة أصبحت في شكل من أشكال الانفصام، فالتمثال مشى، خرج من الشاعر وصار كياناً مستقلاًّ: «لم أنتبه إلاّ والتمثال يربّت على كتفي/ كائناً آخر صار»... وأمام هذا التمزّق الوجودي أصبح الشاعر إنساناً في تمثال، وأصبح التمثال تمثالاً في إنسان، يبعدان ويقربان. يتيهان ثمّ يتوحّدان: «وها أنا داخل التمثال والتمثال داخلي/ كأنّنا نصفان من جسد واحد/ تاها في العالم/ ثمّ توحّدا».

 

البوح بأمانة

 

ويبدو لافتاً الهدر اللغوي في بعض نصوص الحربيلي، القادر على الجملة القصيرة الكثيفة والمعبّرة، كما في قوله: «الحقّ في الحلم هديّة السماء للكائنات». في حين أنّنا نراه يسترسل في البوح محاولاً أن يكون أميناً إلى آخر حدّ لألمه الوجوديّ، ولو أتت هذه الأمانة، أحياناً، على حساب النّصّ. ويبدو الحربيلي أيضاً مولعاً بنقل أشياء الواقع المادّية وأسمائها إلى لغته الشعريّة، فيحوّل القدر «رامي صواريخ في ساحة معركة لا تنتهي، ويشتهي بداً حديديّة تسحر ديناصور العولمة فتردّه خنفساء: «أحلم بموجة فولاذيّة / تحمي جسدي المتمرّد من راجمات القدر،/ أحلم بيد حديديّة/ تعيد ديناصور العولمة الذي يقضم ذيله/ إلى حجم خنفساء الجعل الذي قدّسها الفراعنة»... وفي مثل هذا الكلام يلتبس المشهد كما اللغة على القارئ، فهل هو أمام تجلٍّ شعريٍّ خالص أم هو امام تركيب معيّن من محسوس متداوَل على الشاشات وأوراق الجرائد يمتزج بخيال لا يستطيع تنجيته كثيراً من لعنة النثر الخاضع لكثير من العقل والتحليل؟...

 

إنسان يتشظّى

 

يصل الحربيلي إلى نهايات خريفه الحزين معلناً أنّ: «الناس، عندما يموتون، يحلمون كثيراً». في هذا النصّ صورة إنسان يتشظّى، بعد أن يسلّم نفسه للنّوم: «في عزّ الحلم، جاءتني امرأة غريبة/ رمتني بذرّات مشعّة.../ حتى فوجئتُ بجسدي يتناثر مثل قطع غيار»... وهكذا يتخلّص الشاعر من أسر جسده الذي كان متواطئاً بكلّ أعضائه عليه. وقد تحوّل هذا التواطؤ متعدّداً، إذ كلّ عضو راح يبحث عن ألم خاصّ به: «فالأصابع تبصم بالدم الجدران والأزقّة، / الأنف يفتّش في الهواء عن رائحة البدء،/ العين اليمنى ترسم بألوان الطيف/... واليسرى تلملم شظايا الأحلام»... ولا يخفي الشاعر أنّ مفتّش المباحث الذي كان يكتب يوميّات الشّاعر نيابة عنه تابع مهمّته ليطمئنّ إلى أنّ الموت تمكّن من فريسته بما لا يقبل الشكّ: «وأبلغ رجال الدفاع المدنيّ الذين جاءوا في سرعة/ وحملوا قطع جسدي في أكياس الدهشة/ إلى ثلاّجة الموتى»... وهديّة الموت الذهبيّة إلى الحربيلي هي أنّه خلّصه من علامات الاستفهام العملاقة المزروعة عميقاً في وجدانه، وأنّه جعله كائناً دائم الحلم.

في «خريف حزين» كتب الشاعر عبد الحكيم الحربيلي بلغة خريفية طاعنة في الحزن، وأدّى جملة تتّصف برمزيّة شفّافة وسخاء لغويّ».

back to top