التشكيلي يوسف عبدلكي: لوحة الواقع السوري لم تُرسم بعد

نشر في 29-12-2014 | 00:01
آخر تحديث 29-12-2014 | 00:01
يوسف عبدلكي مبدع صاحب بصمة خاصة وإبداع متفرد في الفن التشكيلي السوري خصوصاً والعربي عموماً، خاض كثيراً من التجارب والمجالات الفنية عبر رحلته الإبداعية، بدءاً من اللوحة والكاريكاتور والخزف وتصميم أغلفة الكتب... وسائط فنية عدة جمعته بالمتلقي، وفي معرض الخزف الذي أقامه في القاهرة أخيراً يسيطر عليه هاجس البحث عن الجديد لاكتشاف خبايا فنية أخرى.
كان لـ {الجريدة} هذا الحوار معه على هامش تجربته الجديدة.
لماذا انتقلت إلى تجربة الخزف الجديدة، لا سيما أنه يبدو للمتلقي شغفك في التعامل مع هذه الخامة؟

لا أفضل إلقاء الضوء على هذه التجربة الصغيرة، لأني أعتبرها نوعاً من الفضول. لديَّ رغبة في التعرف إلى المادة وعلى جزء من أسرارها. أعتقد أن المسألة بدأت لديَّ عندما كنت طالباً في كلية الفنون الجميلة في دمشق، وأخبرني أحد زملائي في قسم النحت بأن مجموعة أعمال للطلاب ستُحرق، وعرض عليَّ حرق قطعتين ورؤية النتيجة، وفعلاً أنجزت قطعتين بالطين وحرقتهما، وما زلت أحتفظ بهما حتى الآن. اندهشت حينها بعد رؤية العملين، اندهشت من حساسية الطين، من بقاء بصمات أصابعي عليه، مادة حساسة وأمينة إلى درجة مذهلة، وقد ظلَّ هذا الأمر عالقاً في ذهني طوال الوقت، لذا عندما أتُيحت لي الفرصة منذ سبع سنوات للمجئ إلى القاهرة والعمل لفترة في مركز الفسطاط للخزف التابع لوزارة الثقافة أقبلت على العمل بحماسة ومتعة، في إحدى الورشات الخاصة. وعندما أتذكر الشهر الذي أمضيته في المركز أجد أني كنت أشبه بطفل يلعب، يحاول استكشاف خبايا لعبة جديدة، لذا أرى أن هاجسي هو التعرف إلى المادة والألوان والتغييرات التي تطرأ عليها قبل الحرق وبعده، في الخزف نحن باستمرار أمام مفاجآت واستحالة التحكم الكلي بالنتائج. كانت المفاجأة أحد العوامل التي جعلتني أعشق العمل بالخزف، لأنه أيضاً يجعلني أتعرف إلى مادة لها قوتها وشخصيتها وليست خاضعة بين يدي، أي أن لها قوة حضور وتفرض على الفنان شروط اللعبة.

 ماذا عن فكرة الفراغ التي تتبعها في الشكل الفني بصورة كبيرة؟

 أعتقد أن قصة الشكل والفراغ واحد من مفاتيح كبيرة في الفنون والحضارات كافة. بالتالي، عندما نرى الفنون الخاصة بالحضارات الكبرى سنرى كيف أن فكرة الفراغ مرتبطة بفلسفة هذه الحضارة أو تلك، وليست معالجة الفراغ حيلة تقنية، وربما تكون ملامسة مسألة الفراغ  في الفنون الأوروبية أو الشرقية القديمة هي إحدى هواجسي... فبقدر ما أنا ابن العالم اليوم أنتمي أيضاً إلى بوتقة حضارية عربية إسلامية، والانتماءان ليس بينهما أي تعارض كما يتوهَّم البعض.

يتجلى في أعمالك استخدامك للنقيضين الأبيض والأسود، كيف تصف علاقتك بهذين اللونين؟

أعمل بالفحم منذ 20 عاماً في مجموعة الطبيعة الصامتة، ولكن في ظل الظروف الراهنة في سورية، لم تعد العناصر التي أعمل عليها هي نفسها، وأعتقد أن من يرى المعرضين اللذين قدمتهما في بيروت وباريس مطلع هذا العام يعرف كيف أن البشر دخلوا عملي. وغنيٌ عن القول إن المأساة التي يعيشها بلدي تعشعش اليوم في وجدان كل مواطن، ولا يمكن لهذا الحدث المزلزل إلا أن يجد بصمته في أفكار وكتابات ورسوم وأحاديث كل سوري. بالتالي، فإن دخول البشر والأمهات والشهداء في عملي تمَّ من دون قرار مني، جاء كحصيلة طبيعية، وهو ما حدث للعاملين كلهم في ميدان الثقافة، بشكل أو بآخر، رغم أني أعتقد أن تسارع الوضع المأساوي وعنفه لا يمنحان الفنان فرصة التقاط أنفاسه، ليقدم فناً من قياس الحدث. نحن اليوم في قلب المخاض، وأخمّن أن اللوحة التى ستعبر عن هذا الزلزال بشكل حقيقي ستولد بعد سنوات. كذلك أعتقد أن الفنانين كلهم الذين يعملون على سطح ينقسمون إلى نوعين: الأول يعمل بالأبيض والأسود والخط وهم الرسامون، والثاني يبني اللوحة على علاقات وصراعات الألوان الباردة والحارة وهم الملوّنون. المجموعة الأولى عموماً عقلانية أكثر بينما الثانية عاطفية أكثر، غير أن الصلات بينهما متشابكة وليست منفصلة. كنت محظوظاً لاكتشافي في وقت مبكر بأن ميولي الحقيقية تتَّجه نحو الرسم، لذا كرّست مجهودي عليه، وعملت بالحفر والرسم بالحبر الصيني والفحم، أي أدوات الرسام كلها وليس الملّون بوجه عام.

خضت تجربة السجن، فما أثرها على تجربتك الإبداعية؟

ليس لديَ الكثير الذي أقوله عن هذه التجربة رغم مرارتها، أعتبر سجني أمراً بسيطاً جداً، ومن المعيب الحديث عنه في بحر التضحيات الجسام التي قدمها السوريون على مدى السنوات الماضية.

تملك تجربة مهمة في تصميم الكتب، فما هي أبعادها؟

أعتبر العمل في هذه التجربة تم بالمصادفة، فقد كان عمري 15 عاماً عندما هُدّد والدي بالقتل. بالتالي، شعرت في هذه السن الصغيرة بأني مسؤول عن عائلة ومن ثم عليّ أن أتعلم مهنة ما كي أعيل عائلتي. تعلمت الخط العربي، ثم انتهت مشكلة والدي ولكني تابعت  تعلم الخط العربي. من هنا، ذهبت إلى تصميم أغلفة الكتب وكنت أعتبرها مجالاً بديعاً وواسعاً وحقلاً واسعاً للتجريب. في نهاية الأمر، غلاف الكتاب هو النافذة التي يطل منها الكاتب على قرائه. بالتالي، أهميته كبيرة في صناعة النشر، وأعتقد أن ثمة مئات الكتب التي ظُلمت بسبب الأغلفة السيئة والعكس صحيح. أرى عمل الغلاف أو الكاريكاتور أو الخزف أو الحفر أو غيرها، حقولاً لا بد من أن يقترب منها كل رسام حسب مزاجه ونوعية اهتماماته، لأن الفنان في نهاية الأمر ليس كائناً وحيد خلية، وكل حقل جديد هو حقل للجمال، يمكن أن يغني عمله الفني الأساسي.

نال الكاريكاتور نصيباً بالغاً من اهتمامك، فكيف كان ذلك ولماذا ابتعدت عنه أخيراً؟

ولدت في عائلة لديها اهتمام بالغ بالسياسة، والدي اعتقل 12 مرة في حياته لأسباب سياسية، وهو أعتبر السياسة عصب الحياة، وربما بسبب هذا المناخ أصبحت أهتم بالكاريكاتور. كنت أشاهد جريدة أسبوعية سورية اسمها {المضحك المبكي}، ورغم أن والدي لم يكن يتوافق مع سياستها، ولكن رسوماتها كانت تسحره. بالتالي، أصبحت أشعر بأن الكاريكاتور قد ينفذ من مناطق من الصعب أن تنفذ منها الكتابة، فدائماً ثمة صرامة للقراء في التعامل مع الكتابة، بينما يفترض الكاريكاتور المفارقات والسخرية، وهما ما يسهل نفوذيته، لذا اهتممت به منذ منتصف الستينيات. ولكني منذ تسع سنوات لم أعد أرسمه، ربما لأنه في السنوات الأخيرة من عملي في جريدة يومية لمست أن المحظورات تزداد بشكل كبير، وأصبح هامش النقد ضيقاً جداً، خصوصاً ما يتناول القضايا العربية، قضاينا الداخلية وأوجاعنا الحقيقية كعرب، ومواطنين ومؤسسات وعلاقة بين الإنسان والدولة والفساد... إلخ، لذلك كله فضلت الابتعاد عن النشر.

back to top