حنا شحيبر... طيار عشق السماء وحلَّق بها 30 عاماً

نشر في 15-03-2015
آخر تحديث 15-03-2015 | 00:01
قاد رحلات على متنها شخصيات مرموقة أهمها سمو الأمير حينما كان وزيراً للخارجية
 أروى الوقيان بذكريات عديدة لا تنسى لدى أهله وجميع من عرفه، تمر الذكرى التاسعة لوفاة الطيار «آمر قسم سلاح النقل الجوي» حنا شحيبر، الذي حلّق بعيداً عن سماء الدنيا في 15 مارس 2006، بعد رحلة مشرفة حافلة بالأحداث، ندمت على عدم معرفتي به، ولم أكن لأعرفه لولا صداقتي مع ابنته رانيا، التي تعرفت منها ومن باقي أسرتها الكريمة على تلك الشخصية الجديرة بالاحترام.

هل سبق لك أن شعرت أنك تعرف شخصاً تمام المعرفة من فرط ما يتحدث عنه المقربون بكثير من الحب، حتى بعد رحيله؟ كنت أشعر بمعرفتي له تمام المعرفة، شعرت بضحكاته وقدرته على التقليد، وحبه لأبنائه ودعمه غير المحدود لإخوانه وعائلته.

لذا ثار فضولي كي أعرف عنه المزيد، هو طيار كويتي من أصل فلسطيني، من أقلية مسيحية، وهو واحد من أهم الطيارين الحربيين، عاش وطار مصطحباً معه عديداً من الشخصيات المهمة، لعل أهمها سمو أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد حينما كان وزيراً للخارجية.

قصة حياته مثيرة للاهتمام وجديرة بالبحث، وتستحق أن يتعرف عليها شباب اليوم.

طفولته

ولد شحيبر في 25 ديسمبر عام 1937 في القدس، ولكن عائلته هاجرت إلى الكويت عام 1948، غير أنها أرسلت حنا للدراسة في مدرسة داخلية بلبنان حيث كان عمره 11 عاما، فدرس هناك ما يقارب الست سنوات، ليكتسب من دراسته هناك العديد من الهوايات، لعل أهمها حبه للرياضة، ومن هنا بدأ حبه للمغامرة، ما كان سبباً على الأغلب في حبه واتجاهه إلى الطيران.

وبعد تلك السنوات التحق بأهله في الكويت، ودرس المرحلة الثانوية بثانوية الشويخ، وكان أهم مدرسيه الشاعر الكويتي المعروف أحمد العدواني.

التحاقه ببدايات الطيران

في الكويت

في عهد الشيخ عبدالله المبارك، رحمه الله، تم افتتاح نادي الطيران، وكان المدربون من مصر وبريطانيا، وذلك حينما استشعر الشيخ عبدالله المبارك التطور الذي طرأ على الطيران بعد الحرب العالمية الثانية مع دخول الكويت مرحلة جديدة ورغبتها في بناء مؤسسات الدولة الحديثة، التي منها الجيش، فأحس بحاجة الكويت الماسة إلى وجود قوة جوية لحماية الأجواء الكويتية.

 وانطلاقاً من هذا، افتتح المرحوم الشيخ عبدالله المبارك أول مدرج طيران في تاريخ الكويت لاستقبال الطائرات المروحية، حيث كان تديره شركة «إنترناشونال راديو ليمتد»، وكان يتبع لدائرة الأمن العام بقيادة المبارك نفسه، وكان هذا المطار بدائياً ومدرجه رملياً يدار نهاراً، وإمكاناته بسيطة وطاقمه لا يتعدى 12 موظفاً في البداية، وعرف لاحقاً باسم مطار النقرة، وكما يعرف أيضاً بمطار النزهة.

التحق شحيبر عام 1952 بنادي الطيران، وكان معه في هذه الدورة 12 طياراً، لعل أشهرهم مرزوق العجيل، وبعد اجتياز الامتحان الأول كانت رحلاتهم إلى عبدان.

وفي عام 1954 أمر الشيخ عبدالله المبارك بإرسال الدفعة الأولى من نادي الطيران إلى بريطانيا، لإكمال تدريبها للحصول على شهادة الطيران التجاري في مدرسة الطيران في مدينة هامبل، وضمت تلك الدفعة، إضافة إلى حنا شحيبر، كلاً من مرزوق العجيل، وغازي القدومي، وبدر الصايغ، وعبدالله صالح العلي، وفهد العتيقي، وداود مرزوق البدر، وعبدالله السمحان.

ورغم رفض والدته دخوله هذا المجال لخوفها عليه، كان شغف حنا بالطيران عظيماً، لذا لم يستطع أن يكبح جماح طموحه، بل امتدت العدوى إلى أخيه باسم، الذي أصبح هو أيضاً طيار الأمير الراحل الشيخ صباح السالم.

كانت دفعة شحيبر هي الدفعة الأولى التي يتم إرسالها إلى الخارج، حيث درست الطيران التجاري، وحين عاد شحيبر إلى الكويت التحق بدورة عسكرية في القوات المسلحة للتدريب العسكري، ليحلق بعدة طائرات، ومنها الطائرة النفاثة، والهليكوبتر، إلى جانب طائرة تابعة لسلاح الطيران.

في عام 1959 تطور سلاح الطيران في الكويت، واستحضروا طائرات نفاثة مما تعادل (بوينغ 337)، وكان شحيبر رئيس وحدة التنقل الجوي، وتنقل كثيراً في هذه الفترة بين فرنسا ودول الشرق الأوسط.

كان معروفا بحرصه ودقته، وقد يرجع ذلك إلى حادثة شهيرة حدثت له في مطار الكويت، هي عدم إنزال عجلات الطائرة، وكان يقودها الكابتن لانس كبير المعلمين في مدرسة الطيران الكويتية، وكان بصحبته الملازم أول حنا شحيبر ولم يصب أحد بأي ضرر، ولكن ظلت هذه القصة كأسطورة يتم التندر بها، تعلّم منها شحيبر الحرص الشديد الذي قد يصل إلى مرحلة الوسواس، ما جعله يقوم بنفسه بفحص الطائرات قبل الإقلاع للتأكد من أن كل شيء على ما يرام.

شحيبر والشخصيات المهمة

بحكم المكانة المهمة التي وصل إليها شحيبر في الطيران، كان موضع ثقة العديد من الشخصيات، بل طار بأهم الشخصيات في الكويت، ومنهم الأمير الوالد الراحل الشيخ سعد العبدالله، وولي العهد الحالي الشيخ نواف الأحمد حين كان وزيراً للداخلية، وأمير البلاد الشيخ صباح الأحمد حين كان وزيراً للخارجية، قام معه بكثير من الرحلات بحكم طبيعة عمله آنذاك التي تحتاج إلى كثير من الرحلات.

وقام مع الأمير الوالد الشيخ سعد العبدالله بجولة خليجية، وفي إحدى المرات قال: «ليت كل الطيارين مثل حنا شحيبر»، وكان شحيبر يعتز كثيراً بهذه الشهادة من سموه.

وبسبب المعرفة السابقة التي تجمع شحيبر والشيخ صباح الأحمد، حرص على إرسال رسالة تهنئة حين أصبح سموه أميراً للكويت في عام 2006، كما أرسل له كتابا رسميا تم الرد عليه بكتاب شكر.

هذه العلاقة الجميلة بين أهم الشخصيات السياسية في الكويت ومع الطيار شحيبر تجسد أسمى معاني التسامح الديني، حيث لم يتعرض شحيبر أثناء خدمته لأي مضايقات بسبب دينه، بل على العكس كان يطلب بالاسم لدماثة أخلاقة، ولكونه طياراً ماهراً.

هذا التسامح نفتقده بشدة في عصرنا هذا، الذي انتشرت به الكراهية والتفرقة من أجل دين وعرق ولون ومذهب وقبيلة... والقائمة تطول.

رغم أن نشأتنا كانت زاخرة بأسمى معاني التسامح الديني، المسيحي يهنئ المسلم والعكس، من دون تكفير أو عداوة، كنا ومازال الكثيرون منا يعتزون بصداقتهم وعلاقتهم الإنسانية الجميلة بأشخاص من ديانات وجنسيات مختلفة، ولطالما كانت الكويت حاضنة لجميع الأديان والثقافات والأعراق، ووفرت دور العبادة لهم.

المسيحيون الكويتيون

*تقطن في الكويت أقلية مسيحية محلية مشكلة من الفئات ذات الدخل المرتفع، والتي يغلب عليها الطابع التجاري. عدد المسيحيين الوطنيين في الكويت يبلغ حوالي 200 شخص تقريباً، ويحملون الجنسية الكويتية. ويتحدر 50 منهم من تركيا والعراق، وقد عاشوا منذ أكثر من 100 سنة، وتم استيعابهم في المجتمع الكويتي، ويتحدثون العربية باللهجة الكويتية.

البقية، أو ما يقرب من 150 شخصاً، وصلوا في الفترة الأخيرة من عام 1940، معظمهم من الفلسطينيين الذين خرجوا من فلسطين بعد عام 1948، فضلا عن وجود عدد قليل من العائلات التي تعود أصولها إلى لبنان وسورية. هذه المجموعة الأخيرة لهجتها وثقافتها لاتزالان أكثرقرباً إلى الثقافة الشامية من الكويتية، إضافة إلى احتفاظهم بالمأكولات الشاميّة. وذلك على عكس المجموعة الأولى التي تبنت الثقافة الكويتيّة بشكل كليّ. أغلبية المسيحيين في الكويت تنتمي إلى 12 أسرة كبيرة، أبرزها أسرة شماس (أصلها من تركيا)، وشحيبر (أصلها من فلسطين). ويعتبر عمانويل غريب، وهو قس كويتي وراعي الكنيسة الإنجيلية الوطنية في الكويت أول قس خليجي في العالم.

والكويت هي إحدى دول مجلس التعاون الخليجي إلى جانب البحرين وقطر وعمان التي لديها سكان محليون مسيحيون*

(المعلومات من ويكيبديا).

شحيبر والرحلات الإنسانية

لطالما كان دور الكويت مهماً في توزيع المساعدات الإنسانية للمنكوبين في العالم من خلال جمعية الهلال الأحمر الكويتي، ولكن هذه المساعدات تتم من خلال سلاح النقل الجوي، وكان شحيبر طياراً حربياً، ويمتلك خبرة تجعله مؤهلا للقيام بهذه الرحلات التي لا يستطيع الطيار التجاري القيام بها، ويرجع ذلك لأن هذه المساعدات تنقل من خلال مطارات صغيرة ومتواضعة، وفي بلدان الأوضاع الأمنية بها خطرة وغير مستقرة، وشهدت رحلة عمل شحيبر الكثير من هذه الرحلات، واجه خلالها ظروفاً مناخية وأمنية صعبة، ولأن الكويت كانت من الدول السباقة دوماً في تقديم المساعدات كانت هذه الرحلات تتم باستمرار.

عرف شحيبر بشجاعته وحبه للمجازفة، لذا فقد كان قسم النقل الجوي العسكري المكان المناسب لشخص مثله.

حنا أباً وزوجاً

في جلسة حميمية مع أسرة الراحل، كان الحديث عن حنا شحيبر ممزوجاً بألم الفقد وكثير من الذكريات الجميلة، كان الأب الحنون لأبنائه وهم ثلاثة عماد ورنا ورانيا، كان يرعاهم حتى عمر كبير وكأنهم أطفال، كان حريصاً على توفير جميع احتياجاتهم، حتى إن كان على حسابه، وكان الزوج الحنون الذي يصر على تحمّل مسؤولية المنزل كاملة، مدللا زوجته السيدة سهيلة شحيبر، التي شعرت بالضياع بعد رحيله.

وفي أواخر الثمانينيات تقاعد شحيبر وكان يبلغ من العمر 47 عاما، برغبة منه بعد 30 سنة من الطيران، وسافر بعدها مع أسرته إلى بريطانيا وعاشوا فيها عشرين عاما.

نشاط وحيوية

وعن حياته الخاصة تحكي إحدى بناته «كان الوالد يصحو كل يوم في الرابعة فجراً للتأكد أن سيارته مليئة بالوقود، وان لم تكن كذلك يذهب بنفسه لملء الخزان، وكانت ابنته الكبرى رنا تعمل في مطار هيثرو آنذاك، فكان يصحو فجراً ويقود السيارة إلى المطار لمدة ساعة ذهاباً وأخرى إياباً لتوصيل ابنته والاطمئنان على سلامتها، وبعد ذلك يعود ليمارس اشغاله». وأضافت: «كان الزوج الذي تحمل مسؤولية كل شيء في البيت، من التصليح وتوفير المستلزمات اليومية، ولم تكن الزوجة تحمل هم أي شيء في وجوده، فكان الأب والزوج الذي يحتوي أسرته الصغيرة ويلبي لها جميع ما تريد».

تزوج في عام 1962 من السيدة سهيلة بشارة وكان الزواج في كنيسة الأحمدي بحضور الشيخ عبدالله الجابر.

أما عن الذكريات فتقول زوجته: «لطالما حلمت أن يكون زوجي طيارا، وحين تحققت أمنيتي تأكدت أن الله يحبني لأنه رزقني هذا الشخص الرائع».

وأضافت: «إن من فرط عشقه للطيران في أكثر من مرة كان يختفي أثناء رحلاتهم السياحية وكنت أعلم أنه من قام بعملية الهبوط للطائرة، فكان لديه الأسلوب الذي يجعل من حوله يقتنعون بوجهة نظره»، مستذكرة انه «في مرة كانوا برحلة عبر الخطوط الجوية الباكستانية وقاموا هم بعملية هبوط الطائرة، وقام بهذا أكثر في أكثر من رحلة، وكانت تعلم متى يقوم هو بالطيران، لأنه طيار ماهر يقوم بهذه العملية بكل رشاقة».

تقليد اللجهات

وتقول إنه «في إحدى المرات دخل على كبينة الطيارين وكانوا يستغرقون في نومهم واضعين الطائرة على وضع (أوتوبايلوت) فكتب في هذه الرحلة تقريراً عنهم»، كما كان يعشق المطبخ الإيطالي، وكان لديه العديد من الهوايات، أظرفها حبه لتقليد اللهجات، وعشقه للرياضة لاسيما المائية، وكان يحب استخدام اللاسلكي، لم يكن يجيد الطبخ، ويتحدث الفرنسية والإيطالية والإنكليزية، بالإضافة للعربية بطلاقة، ويحرص على رشاقته ويمارس لعبة الاسكواش بشكل منتظم، كان هو الروح لكل تجمع اجتماعي، وكان عنيدا، ووجوده ينثر البهجة في أي مكان.

يحكي عماد ابنه البكر أن من فرط حب ابيه للطيران كان يحلم هو أيضاً أن يصبح طياراً ولكن أباه وقف ضد هذه الرغبة خوفاً عليه لكونه الابن الوحيد، ولكن الأب حنا شحيبر كان يحلم أن تصبح ابنته رنا الطيارة الكويتية الأولى ولكنها لم تكن ترغب في ذلك.

يقول عماد إن أباه كان صديقا وأخا وأبا صارما يشد ويرخي، وكان حنونا وكريما، ويحاول أن يساعد بأي طريقة ممكنة، كان الأب الذي يحلم به أي ابن، مستذكراً موقفا طريفا حدث حين كان 14 عمره وكان أبوه هو الطيار طلب منه أن يجلس مكان مساعد الطيار الذي ذهب للصلاة، ويقول إن الطائرة تحلق فوق 93 ألف قدم، وكان الجو جميلا، وحين حدثت مطبات جوية قال لي «أعتقد أنك استفدت من جلوسك في هذا المقعد، ولكن حان وقت رحيلك».

قصص وذكريات

درس عماد في مدرسة داخلية في كمبريدج ببريطانيا، لأن الأب استفاد الكثير من دراسته في مدارس داخلية، وأراد لابنه أن يكون رجلاً بمعنى الكلمة، وفي كل مرة يزور فيها بريطانيا ولو يوماً واحداً كان يحرص على زيارة ابنه الوحيد.

رحل حنا شحيبر عن الحياة، ولكن بقيت قصصه وذكرياته ماثلة في حياة جميع من عرفه، كنت أتمنى لو أني التقيته لأعبّر له عن فخري به، ولكن في ذكرى وفاته لا نملك إلا أن نشعل شمعة لإحياء ذكراه، فلترقد روحك بسلام.

back to top