جنّة على الأرض
عيد ميلاد جمال
لا تزال وحشة الحياة تلازمني، تأبى أن تحضنني، أو أن تأويني، أو أن تضمّني بين ذراعيها وتحميني. تتجاهلني هذه الدنيا وتتجاهل حاجاتي. تتغاضى عن حنيني إلى أيّام تبدو في ذاكرتي أكثر رأفة، وإلى بصمات زمن لم تكن يوماً بهذه القسوة. تعوّدت مفاجآتها وجنونها، تعوّدت أعطياتها وضرباتها، ولكنّني ما زلت أشعر ببرودتها، وكأنّني من عالم آخر ومن دنيا ثانية، وكأنّ هذه الحياة أرض للغربة مهما عشت فيها وتمسّكت بترابها واستنشقت هواءها.تجود عليّ بلا حدود من جهة، وتخطف ما ومن يحمل قيمة في حياتي من الجهة الأخرى. تعطيني أحياناً بلا حساب، وأحياناً تأخذ منّي من دون مقابل. تجرفني في مجرى زمانها، ذلك الزمن المحدود الذي اعتدت رؤيته قصيراً مثلما اعتدت الخوف من نهايته. حوّرته هي بساديّتها المعهودة وشكّلته بأنياب «الاختراقات العلميّة»، وأردته طويلاً قاسياً بلا نهاية ملموسة للعقل أو واضحة المعالم للقلب. نهاية كانت دوماً قريبةً قُرب الساعات، أضحت اليوم بعيدة بُعد الخيال.لم ترأف بي دقّات الزمن وهي تطنّ في أذنيَّ اليوم بين نغمات أنشودة حفل عيد الميلاد أخي جمال وومضات ضوء شموع كعكة عيد الميلاد، التي كانت تعود بالمشهد نفسه كلّ عام منذ زمن طويل. صورة جمال أمامي في جسده الواهن أصرّت على تذكيري بأنّ الوقت يمضي سريعاً. اجتمعت الوجوه المضاءة لعائلته من أبنائه وأحفاده خلفها، بينما جلس هو عند منتصف الطاولة خلف الكعكة، بوجهه الملائكي الذي بدا أكثر بياضاً اليوم مع انسحاب الحياة من جسده. كان يبتسم فرحاً بغناء الجميع احتفالاً به.رفعوا أصواتهم معاً يردّدون، «سنة حلوة يا جميل... سنة حلوة يا جميل.. سنة حلوة يا جميل.. سنة حلوة، سنة حلوة.. سنة حلوة يا جميل».رفعت من نبرة صوتي عند آخر الأغنية وأنا أبدّل كلمة «جميل» باسمه «جمال». ابتسمت له عند التقاء نظرنا. صفّقت بحرارة مع انتهاء اللحن واقتربت منه. حضنته وقبّلت رأسه وهمست: «كل سنة وأنت سالم حبيبي»، بالرّغم من معرفتي أنّ أيّامه باتت معدوده وأنّ موعد رحيله قد اقترب.لم أقل له، «عقبال المائة سنة»، لأنّه كان قد أتمّها اليوم، ولأنّ تلك الأمنية فقدت معناها في وقت لم تعد المائة عام طموحاً لعمر إنسان العصر. كدت أقول له، «عقبال الألف سنة»، ولكنّي تداركت نفسي لأنّي أعرف أنّه تحمّل صعوبات الشيخوخة بصبر عظيم ويتطلّع اليوم إلى الرحيل.كان لديه ولدان، ثلاثة أحفاد، وحفيدة من الجيل الثالث هي الأصغر عمراً بيننا. كلّهم حضروا الحفل الذي نظّمته، إلاّ زوجته السابقة جيهان التي كانت قد هجرته قبل خمس عشرة سنة بعد أن استرجعت حيويّتها وشبابها.تركته لأبنائه يقبّلونه وانشغلت بتقطيع كعكة عيد الميلاد. طلبت من زوجي زيد مساعدتي في توزيعها عليهم.كانت هنالك غصّة في قلبي لإدراكي أنّ رحيل جمال بات قريباً. شعرت بوقعها أقوى اليوم من تلك التي أصابتني حين افترقت عن أمّي وأبي في الماضي، فذلك الفراق لم يكن من الممكن تجنّبه كما هو فراقي عن جمال اليوم.عندما رحلت والدتي عن هذه الدنيا بعد صراع مريرٍ مع مرض الألزهايمر في ربيع 2022 م لم نكن نملك الحيلة أمام توغّل ذلك المرض وجبروته. وعندما خطف الموت والدي بذبحةٍ صدريّةٍ في صيف عام 2026م لم تكن البشريّة تملك حلولاً لضعف الأوردة الدمويّة وترهّلها مع الزمن. أمّا اليوم، في عيد جمال المئوي، في الثامن من حزيران من عام 2091م، فإنّ العلاج السحري لعلامات الزمن أصبح في متناول الجميع على شكل حبّةٍ صغيرةٍ صفراء اللون، تعيد الحيويّة لخلايا الجسد وتحمينا من الشيخوخة ومصاعبها وويلاتها.ظهور تلك الحبة قبل عشرين عاماً كان إنجازاً بشرياً مبهراً. لم يكن ظهورها مفاجئاً تماماً لنا، لأنّها جاءت امتداداً للتسارع المطّرد للعلم في مجال التكنولوجيا الحيويّة، وتطوّر علاجات أمراض الشيخوخة واختزالها في حبّة صفراء تحمل الآلاف من رابوطات النانو المجهّزة بأحدث الوسائل العلميّة لتعزيز الجهاز المناعي للإنسان، ومدّة بما يلازم لإبقاء خلايا الجسد في أفضل حالاتها.حربي اليوم مع مرض جمال لم تكن حرب معرفةٍ أو قدراتٍ علميّة، بل هي حرب مبادئ وقيم وأفكار. لا يقف بيني وبين حمايته والتمسّك به إلى جانبي في هذه الدنيا سوى أفكاره وأحلامه الخاصّة بالمضيّ قدماً، بما يراه حياةً طبيعيّةً من شيخوخةٍ وآلام وذبولٍ إلى الموت والراحة والحريّة والسعادة في الدار الآخرة التي يؤمن بها ويتشوّق إليها.شعرت بدموعي تتساقط، فآثرت الانسحاب والانزواء في المطبخ كي لا أعكّر عليهم فرحة عيد الميلاد. حملت بعض الصحون وشغلت نفسي بغسلها.عندما عدت، كانوا جميعاً جالسين بهدوء، يشاهدون مجموعة صورٍ من الماضي جمعها خالد، الابن البكر لجمال، وحضّرها لهذه المناسبة.أوّل صورة عرضها خالد كانت لجمال وجيهان داخل السيّارة الليموزين التي أقلّتهما ليلة عرسهما في آب من عام 2015م.تظهر بعض معالم السيّارة من الداخل، ويظهر العروسان في أحضان بعضهما بعضاً. جمال مع ضحكةٍ خبيثةٍ على وجهه وهو يشدّ بساعده على رقبة جيهان بطريقة كوميديّة تخفي عن الناظر المشاعر الحقيقيّة خلف المسكة: حبٌّ شديدٌ أمّ غلّ! في المقابل تظهر جيهان وهي تبدو مخنوقةً في الصورة، تجاهد في رسم ابتسامةٍ على وجهها أمام المصوّر من دون أن تبيّن إن كانت سعيدةً بخفّة دم جمال أم لا.جمال يبدو شديد الوسامة في بدلة عرسه بغمّازاته الظاهرة وشعره الأسود المكتمل، في حين تظهر بصمة المهرّج على معالم جيهان التي كانت، كعادتها، قد بالغت في ماكياجها ليلة عرسها.الغريب في الأمر أنّه مع عودة شبابها إليها، إلاّ أنّها لا تشبه نفسها اليوم في تلك الصورة من شبابها الأوّل.تنهّد جمال مع رؤيته للصورة. سحب نفساً عميقاً وردّد بصوتٍ يكاد يسمع بيت الشعر المشهور لأبي العتاهيّة، «ألا ليت الشباب يعود يوماً، فأخبره بما فعل المشيب».وأنا كدت أنقضّ عليه وأعاود تذكيره بأن شبابه حاضر للعودة إن هو أراد، ولكنّي آثرت الصمت. أنقذته أصغر حفيدة له من مداخلتي حين قالت بدلع، «وأنا آخر ثمرات ذلك الحبّ».انفجر الجميع ضاحكاً من تبدّل الصورة إلى صورة ثانية، نقلتنا إلى صيف 2052م.كنّا أنا وزيد، وجمال وجيهان، وخالد وزوجته ميرا نحيط بالصبّوحة على المسرح الجنوبي لمهرجان جرش.كانت الصبّوحة، كما تعوّدناها، تلبس فستاناً عملاقاً مرصّعاً بكمٍّ هائلٍ من الأحجار ومطرّزاً بخيوطٍ من الذهب شديدة البهرجة واللمعان. شعرها الذّهبي بدا ضخماً جدًّا، أعطاها هالة ذكّرتني بآلهة الشمس.مع أنّنا، أنا وجيهان، كنّا نصغرها عمراً بفارقٍ كبيرٍ، إلاّ أنّنا ظهرنا أكبر من الصبّوحة التي سبقتنا باسترجاع شبابها في وقتٍ كانت تلك العمليّات ما زالت معقّدة وباهظة الثمن. لكن حتى ونحن في عمر الثامنة والخمسين، فها هي جيهان تظهر بمساحيق وجه تفوق تلك التي على وجه الفنّانة!علّقت زوجة خالد على الصورة ضاحكة، «قال الصبّوحة تمرُّ بحالة اكتئاب بعد طلاقها الأخير على ذمّة مجلّة سيّدتي».بدّل خالد الصورة.لا أدري لماذا اختار هذه، ولكنّه نقلنا إلى مشهدٍ من شباط عام 2072م.صورة مفزعة أظهر فيها أنا وزيد محنييّ الظهر، صغيري الحجم، مع شعرٍ خفيفٍ يغطّي رأسينا وترهّلات جلدٍ تملأ وجهينا. يرتكز زيد على عكّازه، بينما أحمل أنا كأس ماء في يدي اليسرى وحبّه الشباب الدائم الصفراء في اليمنى كآلهة تسقيه أوّل قطرات ماء الحياة.أذكر أنّها كانت فرحة لا توصف ذلك اليوم الذي أمسكنا فيه أوّل تلك الحبّات الصفراء. كان غيرنا قد سبقنا باسترجاع شبابه، وكنّا نتحرّق شوقاً لخوض تلك التجربة شخصيّاً بعد أن أنهكتنا الشيخوخة.لكنّي، وإلى اليوم، ما زلت أقف عاجزةً عن فهم الأثر السحري لتلك الحبّة التي أعادت إلينا شبابنا في غضون أشهرٍ معدودة. كأنّها أيقظتني وقتها من حلمٍ صعبٍ وأحيت في داخلي حاسّة الشعور بالحياة التي كنت قد نسيت وجودها مع تراكم علامات الدهر.أتذكّر بوضوح الأيّام الأولى لعودة القوّة إلى بدني والتي كانت تماماً مثل ما كانت أيّام مراهقتي. بتُّ أزداد حجماً وألقاً وأنوثةً كلّ يوم. وكما حمل التحوّل الأوّل من بروز صدري التدريجي وطول قامتي شعوراً بالفخر، حمل التحوّل الثاني اشتياقاً وفرحاً ورغبةً عارمةً في الحياة والتمتّع بجسدي وجسد زوجي.تبدّلت الصورة مرّة أخرى، وانتقلنا إلى كانون الأوّل من عام 2080م.ظهرت صورة لنا أنا وجمال في غرفة الخدّاج للمواليد الجدد يوم ولادة آخر حفيدة لجمال. كان الفرق صارخاً بين شكلي في هذه الصورة والصورة التي عرضت قبلها، وكذلك كان هنالك فرق كبير بين شكل جمال في الصورة السابقة على المدرّج الروماني مع الصبّوحة وهذه الصورة.ابتسامة كبيرة ظهرت على وجه جمال وهو يحمل حفيدته بين يديه المرتجفتين، في حين وقفت أنا إلى جانبه أسنده خشية أن تسقط بين يديه.علّقت حفيدته مازحةً، «مين هالبيبي الحلو؟».ضمّتها والدتها إلى صدرها وقالت، «مين غيرك يا حبيبتي؟».ابتسمت الحفيدة وقالت مقارنة نفسها بالصبّوحة، «وهيك منكون شفنا الإنسان الأكبر عمراً، والإنسان الأصغر عمراً حالياً على كوكب الأرض».أما الصورة الأخيرة التي عرضها خالد فكانت هي الأجمل. تركت الأثر الأكبر في نفسي تلك الليلة.كان مشهداً قديماً من آذار من عام 1992م. جمال كان طفلاً عمره أقلّ من سنة يخطو أولى خطواته. ساقاه وفخذاه منتفخة كمصارع السومو، وفمه ومريالته ملطّخان بكمّية هائلة من الشوكولاتة.ظهرت أميّ خلفه في الصورة، تحيطه بذراعيها، متأهّبة للإمساك به كي لا يقع.«آخخخخخ» نطق قلبي.كم كنت جميلةً يا أميّ! كم كنت جميلة ًفي صباك... وكم كنت سعيدةً في تلك الصورة! كلّك حيويةٌ ونشاطٌ وقوّةٌ وحبّ.كم هو ظالم ذلك القدر الذي سحبك منّا من دون أن يعطيك خيار البقاء!!