هل البرتقال المُعلَّب صحيّ؟
يُعتبر كوب طويل من عصير البرتقال رمز الانتعاش بحد ذاته، فهو غني بالفيتامين C ويشع حيوية وإنعاشاً، فضلاً عن أنه يشكل جزءاً من فطور متوازن. لكن مشروب الفطور التقليدي هذا مهدد اليوم. لماذا؟ {ذي أتلانتك} جاءت بالإجابة.
تراجعت مبيعات عصير البرتقال التجاري إلى أدنى مستوياتها خلال 15 فصلاً، وفق صحيفة {وول ستريت جورنال} وإدارة الحمضيات في فلوريدا في الولايات المتحدة الأميركية. تواجه هذه الصناعة منافسة متنامية من مشروبات الفاكهة الاستوائية ومشروبات الطاقة، في حين أن ادعاءها {خلوها من أي إضافات} صار اليوم موضع شك متزايد.باتت سمعة عصير البرتقال كمشروب صحي وطازج على المحك اليوم. كان في الماضي إكسير الصحة الذي تعلق عليه صناعة كاملة آمالها. فقد روج لفوائده الصحية الخيالية اختصاصيو التغذية، المسوقون، والحكومة الأميركية، الذين ادعوا أنه يشفي العلل كافة، من نقص الفيتامين C إلى الفتور، حتى مرض دم نادر يُدعى الحماض الرئوي.
إليك تجربة تذوق لكل محب لعصير البرتقال يهوى المغامرة والأبحاث التاريخية: اغلِ قليلاً من عصير البرتقال وضعه في عبوة واتركه على الرف بضعة أسابيع. هذا ما كان يدعوه معظم الناس عصير برتقال في عشرينيات القرن الماضي. فبدل عصير البرتقال المعصور الطازج، اعتاد الأميركيون التمتع بما صارت آخر تقنيات الحفظ تقدمه اليوم: العصير المعلب الذي يُغلى بإفراط. ولا عجب في أنه افتقر إلى نكهة وطعم مميزين.في تلك الفترة، كان معظم الناس يفضل تناول البرتقال بدل شرب عصيره. وكانت القهوة مشروب الصباح التقليدي. لكن استهلاك البرتقال بأشكاله كافة تحوّل إلى جزء أكثر أهمية من النظام الغذائي الصحي بسبب جهود المعلنين وعالم كيمياء حيوية طموح يُدعى إلمر ماككولم. يُظهر كتاب هارفي ليفينشتاينFear of Food: A History of Why We Worry about What We Eat (الخوف من الطعام: تاريخ لمَ نقلق في شأن ما نأكله) أن ماككولم أصبح اختصاصي التغذية غير الرسمي للأمة في مطلع عشرينيات القرن الماضي حين راح يروج لإطالة الحياة وقدرات الفيتامينات الشفائية، وحذر من التأثيرات المميتة للنظام الغذائي القليل الفيتامينات. وقد منحت {موجة الإقبال على الفيتامينات} هذه المنتجين فرصة تسويق مميزة.الحماض الرئويأثار ماككولم موجة من الذعر بسبب حالة غامضة تُدعى الحماض الرئوي: فرط الحموضة في مجرى الدم، ما يُسبب، حسبما يُفترض، التعب والإرهاق. وادعى أن هذا الداء يعود إلى استهلاك اللحم، البيض، والخبز، وهي منتجات عالية الحموضة. لذلك نصح: تناولوا كثيراً من الحمضيات والخس. فهذه الأطعمة تحوَّل، بخلاف ما يظن كثيرون، من عالية الحموضة إلى قلوية في المعدة. ولا عجب في أن يسعى منتجو الحمضيات آنذاك إلى استغلال موجة الخوف الصحية الجديدة هذه.في كتيب {الوعي من الحماض الرئوي} الذي نشرته شركة Sunkist عام 1929، تظهر بوضوح تأثيرات هذا المرض المؤذية، إن لم يُعالج: {تبدو إستيل منهكة، حتى إنها لم تحاول الاستمتاع. لذلك لم تستطع جذب اهتمام الرجال... {الحماض الرئوي}: باتت هذه العبارات على لسان كل الطبيب اليوم}. والعلاج سهل: استهلك البرتقال بأي شكل من الأشكال وكلما أتيحت لك الفرصة. كذلك طمأنت Sunkist القارئ الخائف إلى أن من المستحيل الإفراط في تناول البرتقال. ولكن بحلول عام 1934، بدأ العلماء يصفون الحماض الرئوي بالبدعة وبالمرض النادر الذي لا يتأثر بشرب عصير البرتقال. نتيجة لذلك، أعاد منتجو الحمضيات توجيه جهودهم التسويقية إلى الفيتامين C. وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، حولت الحكومة أيضاً انتباهها إلى الفيتامين C. وهنا بدأت رحلة عصير البرتقال إلى مكانته المميزة على طاولة الفطور.خلال الحرب العالمية الثانية، شجعت وزارة الزراعة الأميركية سكان فلوريدا على القيام بواجبهم الوطني وزيادة إنتاج المنتجات الغذائية، مثل البرتقال. لكن الحكومة سرعان ما أدركت المشكلة الكبيرة التي تواجهها: رفض الجنود الأميركيون بلورات البرتقال الغنية بالفيتامين C في حصص طعامهم لأن مذاقها كريه. ولكن كان على الحكومة أن تسد هذه الحاجة الغذائية وتبعد نقص الفيتامين C باللجوء إلى منتج يحتوي على هذا الفيتامين، يمكن نقله، ويمتاز بمذاق جيد. وبدعم من الحكومة الفيدرالية وإدارة الحمضيات في فلوريدا، بدأت مجموعة من العلماء العمل على تطوير منتج أفضل من عصير البرتقال المعلب باسم العلم والوطن. وفي عام 1948، بعد ثلاث سنوات من انتهاء الحرب ونحو عقد من الأبحاث، وُلد عصير البرتقال المركز المجلد. بصرف النظر عن الحملات الترويجية التي تصور البرتقال على أنه علاج للعلل كافة من العزوبية إلى الرشح العادي، كانت بساتين فلوريدا الخصبة تنتج كمية كبيرة من البرتقال. نتيجة لذلك، بات التشجيع على الإنتاج خلال الحرب يهدد استمرار كامل قطاع البرتقال في فلوريدا. قدّم ابتكار العصير المركز المجلد احتمال استهلاك البرتقال بكميات كبيرة للمرة الأولى. بحلول عام 1949، كانت مصانع معالجة البرتقال في فلوريدا تنتج نحو 10 ملايين غالون من عصير البرتقال المركز الذي رُوّج له بطريقة مخادعة بعض الشيء على أنه {مجلد-طازج}. وهكذا حصل المستهلكون أخيراً على منتج ملائم، {لذيذ}، قليل الكلفة، وغني بالفيتامين C. فراحوا يستهلكونه بكثرة.مُعالجتشير أليسا هاميلتون فيSqueezed: What You Don’t Know About Orange Juice (معصور: ما لا تعرفه عن عصير البرتقال) إلى أنه مع النمو السريع للأطعمة الجاهزة، برز سؤال كبير حول مفهوم ما يُعتبر طعاماً طبيعياً: معالج أم على طبيعته؟ صار الناس يتناولون الأول إلى جانب الثاني من دون أن يفكروا كثيراً في هذه المسألة. ففي خمسينيات القرن الماضي، طوّر علماء الكيمياء أكثر من 400 مادة مضافة جديدة للمساعدة في معالجة الطعام وحفظه (لم يولوا اهتماماً كبيراً بالذوق). لم تكن الأطعمة المعلبة والطعام المسحوق والمنتجات الموسمية والاستوائية المجلدة تتوافر طيلة السنة. نتيجة لذلك، راحت المجلات النسائية تشيد بهذه الأطعمة {الجديدة} وخصائصها العجائبية التي توفر كثيراً من الوقت.ظل عصير البرتقال المركز المجلد مشروب الفطور المفضل حتى منتصف ثمانينيات القرن الماضي، حين اقتربت التكنولوجيا من ري عطش المستهلك بعصير فاكهة يبدو طازجاً مع ابتكار العصير {الجاهز للتقديم} المعاد تركيبه. نتيجة لذلك، سعى المسوقون عندئذٍ إلى تصوير عصير البرتقال على أنه معصور طازج، على غرار إعلان تروبيكانا وأغنيته {اعصر لي كوباً}. وفي التسعينيات، نزل العصير {غير المعد من المنتج المركز} إلى الأسواق وأطاح بكل ما سبقه. وهكذا بدل الفيتامينات في عبوة، صرنا نتمتع بالنقاوة والحيوية في كرتونة.ولكن كما تفصّل هاميلتون في كتابها، يبقى هذا العصير بعيداً كل البعد عن كل ما هو نقي وطازج. يكون معظم عصائر البرتقال التجارية معالجة بإفراط، حتى إنها لا تُشرب لولا النكهات التي تُضاف إليها. وتشكل هذه النكهات الابتكار التكنولوجي الأخير في قطاع يسعى باستمرار إلى محاكاة بساطة عصير البرتقال الطازج. تُستخرج الزيوت والخلاصات من البرتقال، ومن ثم تُباع إلى مصنعي النكهات الذين يعدون نكهات مركبة بعناية تتلاءم مع متطلبات كل شركة. ومن ثم يُخلط العصير، الذي كان يقبع في أماكن التخزين لأكثر من سنة أحياناً، مع هذه النكهات التي تعيد إليه مذاقه ورائحته اللذين يكونان قد زالا بالكامل في تلك المرحلة. وهكذا يصبح العصير جاهزاً لينزل إلى الأسواق.طبيعية بالكامل؟شهدنا في الآونة الأخيرة سلسلة من الدعاوى القضائية ضد إحدى الشركات، بسبب تصنيفها بعض المنتجات {طبيعية بالكامل}. وتعود هذه الدعاوى في جزء منها إلى فضح هاميلتون بعض الممارسات الصناعية. في هذه الأثناء، يخطط المزارعون لتنظيم حملة بغية معالجة المخاوف الصحية بالترويج لشرب زجاجات العصير الأصغر حجماً. تذكر هاميلتون: {يحاول هذا القطاع إعادة إحياء سمعة منتجاته الصحية، رغم أن هذه ليست بالمهمة السهلة. فعصير البرتقال ليس معالجاً بإفراط فحسب، بل يحتوي على كمية كبيرة جداً من السكر، الذي بات الناس يدركون اليوم أنه أحد أكبر العوامل المساهمة في السمنة والداء السكري}. تقر هاميلتون أن عصير البرتقال لا يحتل مكانة مهمة على لائحة أولويات إدارة الأغذية والأدوية الأميركية، إلا أن الحكومة البريطانية تتخذ بعض الخطوات في هذا المجال بالدعوة إلى فرض ضريبة على عصائر الفاكهة وتحذير المستهلكين من أنها تحتوي على كمية من السكر تضاهي ما تتضمنه المشروبات الغازية وإلى أن من الضروري استهلاكها بأقل قدر ممكن. صحيح أن الخوف من الحماض الرئوي بات جزءاً من الماضي، ولكن ما زال كثيرون منا يميلون إلى التفكير في أننا نستطيع العثور على الصحة الجيدة في زجاجة عصير البرتقال، أو أنها أقل ضرراً من عبوة مشروبات غازية. إلا أن فطورك قد لا يكون في النهاية متوازناً بقدر ما تظن.