الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك: نحتاج أوروبا أكثر من أي وقت مضى

نشر في 10-04-2015 | 00:02
آخر تحديث 10-04-2015 | 00:02
No Image Caption
لا يحب سلافوي جيجك أن يُدعى بروفيسوراً. ويخبر ضاحكاً أنه يتلفت من حوله ليرى البروفيسور عندما يناديه الناس بهذا اللقب. ولا شك في ذلك لأنه قلما درّس في الجامعات. ولكن من إنتاجه الغزير من الكتب، المقالات، المنشورات، والأعمدة، أصبح لدى جيجك (65 سنة) تأثير فكري عالمي. كذلك جعلته محاضراته وندواته حول العالم أحد أشهر المفكرين المعاصرين وواضعي النظريات الثقافية في العالم.

رغم تأثيره الواسع هذا، من الصعب أن تحدد بدقة موقفه الفلسفي والسياسي. ولد في العاصمة السلوفينية ليوبليانا حيث لا يزال يعيش حتى اليوم، وكان عضواً في الحزب الشيوعي إلى أن تركه عام 1988. واجه جيجك علاقات مضطربة مع قنوات الحزب الرسمية لأن أفكاره لم تُعتبر ماركسية تقليدية بما فيه الكفاية، فضلاً عن أنه لم يُمنح لقب «بروفيسور فخري» في إحدى جامعات بلده. لكنه تمكَّن من الذهاب إلى جامعة في باريس بين عامَي 1981 و1985، فدرس التحليل النفسي لجاك لاكان. وقبيل تفكك يوغوسلافيا عام 1990، ترشح عن الحزب الديمقراطي الليبرالي السلوفيني لمنصب رئيس سلوفينيا، رغم موقفه الناقض بشدة لليبرالية السياسية، لأنه يعتبرها ناقصة.

يركز فكر جيجك المتوجه نحو المثالية الألمانية ونحو هيغل وماركس على تطوير الإنسان المستقل وعلى خضوعه لقيود الهويات والعقائد الدائمة التبدل. من أميركا اللاتينية إلى آسيا، يُقدر لانتقاده الرأسمالية العالمية وبصفته رجل فكر يمثل حركة المعارضة اليسارية. وقد دفعته صدمة الاعتداءات الإرهابية في باريس أخيراً إلى كتابة مقال فلسفي مثير للجدل بشأن الإسلام والتحديث. في هذا العمل، تناول الشرخ بين التسامح في العالم الغربي والكره المتشدد الذي تعرب عنه الأصولية الإسلامية تجاه الليبرالية الغربية، كما يزعم. لذلك يدعو الغرب إلى الإصرار على إرث التنور وقيمه العالمية. ويؤكد أن سيادة الشعب الحقيقية لا تكون ممكنة إلا من خلال تجديد اليسار. «شبيغل» أجرت معه المقابلة التالية.

أظهرت الأزمات المالية والاقتصادية مدى هشاشة نظام السوق الحرة. وقد أخذت على عاتقك مهمة تفحص تناقضات الرأسمالية المعاصرة. هل تتوقع ثورة جديدة؟

كلا للأسف.

لكن تود حدوث ثورة، أليس كذلك؟ أما زلت شيوعياً؟

يعتبرني كثيرون ماركسياً مجنوناً ينتظر نهاية العالم. قد أكون غريب الأطوار، إلا أني لست مجنوناً. ما زلت متمسكاً بالشيوعية في ظل غياب ما هو أفضل وبسبب يأسي من الأوضاع في أوروبا. قبل ستة أشهر، سافرت إلى كوريا الجنوبية لأدلي بخطبات بشأن أزمة الرأسمالية العالمية... الكلام المعتاد. لكن الحضور بدأوا يضحكون وقالوا: عمَّ تتحدث؟ أنظر إلينا (الصين، كوريا الجنوبية، سنغافورة، وفيتنام)، فنحن نبلي حسناً اقتصادياً. إذاً، مَن الذي يواجه الأزمة اليوم؟ أنتم في أوروبا الغربية أو بالأحرى في أجزاء محددة من أوروبا الغربية، توخياً للدقة.

لكن الوضع ليس بهذه البساطة.

رغم ذلك، يحمل هذا الكلام شيئاً من الحقيقة. لمَ نشعر نحن الأوروبيين أن وضعنا المؤسف يشكل أزمة بكل معنى الكلمة؟ أعتقد أن ما نشعر به لا يتلخَّص بقول نعم أو لا للرأسمالية، بل يرتبط بمستقبل الديمقراطية الغربية. يتشكل أمر مخيف في الأفق، وقد بلغتنا الرياح الأولى التي تسبق العاصفة.

تقول إن الأزمة الاقتصادية قد تؤدي إلى أزمة سياسية.

لا تبشر الصين، سنغافورة، والهند، أو دول أقرب إلينا مثل تركيا، بمستقبل واعد. أعتقد أن الرأسمالية العصرية تسير في اتجاه تعمل فيه بشكل أفضل من دون الديمقراطية الكاملة النمو. ولا شك في أن بروز ما يُدعى الرأسمالية مع القيم الآسيوية خلال السنوات العشر الماضية يثير على الأقل الشكوك والأسئلة: ماذا لو كانت الرأسمالية المستبدة في النموذج الصيني إشارة إلى أن الديمقراطية الليبرالية كما نعرفها ما عادت تشكل شرطاً أو قوة دافعة للنمو الاقتصادي، بل باتت تعترض طريقه؟

لا تهدف الديمقراطية إلى تمهيد الطريق أمام الرأسمالية، بل إلى مواجهة مخاطر الرأسمالية الكامنة، وهذا ما يجعل الديمقراطية حالة فريدة لا بديل لها.

ولكن ليكون هذا صحيحاً، يجب ألا تقتصر على مبدأ الانتخابات الحرة. فمن الممكن أن تقود حرية الاختيار المجتمع في أي اتجاه ممكن. ومن هذا المنطلق أنا يساري. لطالما سأل لينين ساخراً: الحرية، نعم، ولكن لمن؟ ولماذا؟

تشكِّل حرية تقرير المصير، والأهم من ذلك، حرية التعبير والرأي جزءاً منها.

هذا ممتاز! لكنني لست ستالينياً يسخر من الحريات المدنية ويؤكد أن حدود الحزب هي الحرية الحقيقة الفعلية الوحيدة. في المجالات الشخصية والخاصة، تنمو حرية الاختيار، حتى في الصين. وأشير بذلك إلى الحرية الجنسية، حرية السفر، حرية التجارة، وحرية تكديس الثروات. لكني أتساءل عما إذا كان هذا كافياً وعما إذا كان هذا النوع من حرية الاختيار الشخصية مجرد شرك. فالمكاسب التي نحققها في مجال الحرية الشخصية تخفي ما نخسره من حرية اجتماعية. تنهار دول الرعاية التقليدية. وما عدنا نرى الوجهة التي تسير إليها العملية الاجتماعية وفي أي نوع من المجتمعات نود أن نعيش. لذلك من الضروري أن نعيد تحديد حقل الخيارات التي يمكننا أن نعيش ضمن إطارها حرياتنا الفردية.

بكلمات أخرى، تفتقد مناظرة نظامية أوسع. شهدنا مناظرة مماثلة خلال ثورات الطلاب في فرنسا عام 1968، إلا أنها لم تؤدِ إلى نتائج حقيقية، باستثناء تحقيق بعض المكاسب في مجال الحريات المدنية الليبرالية. وفي تناقض واضح مع الرغبة في الحرية الفردية، ألا يكمن الإغراء التوتاليتاري في حشد الرغبة الجماعية في تخطي النظام القائم؟

انتهى القرن العشرين. ولا يستطيع النظام التوتاليتاري الاستمرار على الأمد الطويل. إذا أردنا أن نحافظ على صورتنا في الغرب، فعلينا إعادة النظر في مسائل بالغة الأهمية ترتبط بتوسع الحريات الديمقراطية وعملية الإعتاق الذاتي. وهنا يكمن الخطر الأكبر الذي تواجهه أوروبا. أنا يساري يؤيد المركزية الأوروبية. درجت العادة أخيراً في الأوساط اليسارية انتقاد المركزية الأوروبية باسم التعددية الثقافية. لكني مقتنع بأننا نحتاج إلى أوروبا أكثر من أي وقت مضى. تخيل فقط عالماً من دون أوروبا. سيتبقى لك قطبان: الولايات المتحدة الأميركية بليبراليتها الجديدة العنيفة وما يُدعى الرأسمالية الآسيوية ببنيتها السياسية المستبدة. وبينهما سنجد روسيا بقيادة بوتين بطموحاته التوسعية. وهكذا تخسر الجزء الأكثر أهمية من إرث أوروبا، حيث تؤدي الديمقراطية والحرية إلى عمل جماعي لا تكون المساواة والإنصاف من دونه ممكنتين.

هذا هو إرث التنوير: الانتقال من عدم النضوج المتعمد إلى تحديد المصير المستقل.

هذا صحيح! لا أوافق يورغن خابرماس في أفكاره كلها، مع أننا صديقان عزيزان. لكني أؤيده بالكامل في هذه النقطة. علينا اليوم أكثر من أي وقت مضى أن نتمسك بثبات بمشروع التنوير الأوروبي هذا، لأنه الوحيد الذي سيتيح لنا تغيير حدود ما يبدو ممكناً وقابلاً للتنفيذ.

أولا يعني هذا الهدف أن علينا ألا نتوقع الكثير من الديمقراطية الليبرالية؟

نعم، علينا أن نتخطى الديمقراطية الليبرالية. تعمل الديمقراطية العادية كالآتي: تبدو غالبية الناخبين راضية حيال حرية الاختيار المزعومة. لكنها في الواقع تقوم بما يُطلب منها. يُقال إن خيار الألمان الأفضل عند تحديد شكل الحكومة يبقى ائتلافاً كبيراً. ولكن خوفاً من اتخاذ قرارات رائدة تؤدي حقاً إلى تبدلات جذرية، يدعي الناس أن القرارات تُحسم تلقائياً بالاستناد إلى الظروف والقيود العملية والأحوال المحددة مسبقاً. ولكن عليك أحياناً أن تبدل المعنى برمته بدل أن تكتفي بتحليل المسائل بمهارة وتبنيها. لا تسير عملية تطوير الإرادة العامة، وفق روسو، بهذه الطريقة. تبقى عملية تطوير الإرادة فردية وخاصة وبعيدة كل البعد عن السياسة. وتشكل هذه بيئة ممتازة للرأسمالية لأن الحرية الديمقراطية الليبرالية والمتعة الفردية تدفع الناس نحو تحقيق أهدافها يتحويلهم إلى مدمنين على العمل.

ما البديل في رأيك؟

ما من مجال للعودة إلى الشيوعية. وكانت الستالينية إلى حد ما أسوأ من الفاشية، وخصوصاً اعتبار المثال الشيوعي الأعلى أن التنوير يؤدي في النهاية إلى تحرير الشعوب نفسها. ولكن هنا تكمن أيضاً مأساة الخطاب الشيوعي. لا تزال الستالينية لغزاً بالنسبة إلي. ولم تتضمن الفاشية أي طموحات بشأن التنوير، بل اكتفت بالسعي إلى الحفاظ على الحداثة بأساليب إجرامية. ولا يبدو أن هتلر كان إلى حد ما متطرفاً أو عنيفاً كفاية.

ماذا؟ أنت لست جاداً بكلامك هذا، أليس كذلك؟

ما أحاول قوله أن الفاشية شكلت رد فعلاً تجاه سخافة البرجوازية ورضاها الذاتي، إلا أنها ظلَّت أسيرة أفق المجتمع البرجوازي، وواصلت الرضا الذاتي نفسها. أوافق والتر بنجامين رأيه عن أن بروز الفاشية بحد ذاته يُعتبر إحدى نتائج ثورة فاشلة. إذاً، يمثل نجاح الفاشية فشل اليسار، ويبرهن أن احتمال الثورة كان قائماً، إلا أن اليسار لم يحسن استغلاله.

ما هو الوضع الحالي لقيم الليبرالية الأساسية: الحرية، المساواة، والإنصاف؟ هل الديمقراطية الليبرالية قوية كفاية لتحمي نفسها من الهجمات غير الليبرالية؟

أشك في أن تتمكَّن من الصمود أمام التحديات. يقترب النظام الرأسمالي العالمي من نقطة الصفر الخطرة. أما فرسانها الأربعة الذين يمثلون النهاية، فهم الكارثة المناخية، النتائج الواضحة للأبحاث الجينية الحيوية، غياب الضوابط الذاتية للأسواق المالية، وتنامي عدد الناس الذين  يهمشون. وكلما ازدادت الأسواق عولمة، نمت قوات الفصل الاجتماعي.

أدرك المعنيون المخاطر وناقشوها بشكل موسع. رغم ذلك، هل تظن أننا ننحدر بسرعة نحو الهاوية؟

لا يعني غياب البديل الواضح أن علينا البقاء على حالنا. فإن استمر النظام القائم في التوسع، فقد يتجه على الأرجح نحو الانفجار والانهيار على ذاته. لذلك تبقى الخطوة الوحيدة التي تستطيع إنقاذ الديمقراطية الليبرالية تجديد اليسار. وإن فوت اليساريون هذه الفرصة، فسينمو خطر الفاشية أو على الأقل الأنظمة الاستبدادية الجديدة.

يمكننا أن نلاحظ هذه الميول اليوم، من الأصولية الدينية إلى الشعبوية اليمينية والقومية العدائية.

هذا صحيح. ولا يمكن أن يقتصر الرد على ردود الفعل اليسارية المعتادة من التسامح إلى التفاهم. كلا، فمع خطوات مماثلة، تقوض الليبرالية ذاتها تدريجاً. نملك حق رسم الحدود. نشعر بذنب كبير في أوروبا، وينبع تسامحنا المتعدد الثقافات من تلاقي ضمير معذب مع عقدة ذنب قد تدفع أوروبا نحو الهلاك. يُعتبر الجمود الخطر الأكبر الذي يهدد أوروبا، فضلاً عن انسحابها إلى ثقافة لامبالاة ونسبية عامة. أنا حازم في هذه المسألة. فلا يمكن دعم الحرية من دون مقدار محدود من الحزم. لا أريد التشكيك في المسائل أو طرح الأسئلة باستمرار. ترتكز الدوغماتية الليبرالية على ما دعاه هيغل المادة الطبيعية. ولهذا السبب أعارض أيضاً كل شكل من أشكال الصوابية السياسية، التي تحاول التحكم في أمر يجب أن يشكل جزءاً لا يتجزأ من مادتنا الطبيعية من خلال عمليات حظر اجتماعية وقانونية.

هل تملك كل ثقافة حداً أقصى يقف عنده التسامح؟

ثمة مسألة من المستحيل تحملها، كما ذكر جاك لاكان. ما قد يحدث إن عمدت مجلة ما إلى السخرية علانية من المحرقة النازية؟ وماذا عن الدعابات التي نصنفها ضمن خانة التمييز الجنسي أو العرقي؟ ترتكز اللبيرالية اليسارية أو الليبرالية عموماً على السخرية، إلا أن الفاكهة القاسية تميل إلى السير في الاتجاه المعاكس: نحو الحساسية المفرطة تجاه استسلام الآخرين. كما تعرف، تشكل الدعابات الفاضحة اختباراً جيداً لعتبة التحمل بين مجموعات ثقافية عدة، لذلك أحبها.

أميل إلى سؤالك: هل أنت جاد؟

في يوغوسلافيا سابقاً، كانت لكل جمهورية في هذه المجموعات دعابات عن شعوب الجمهوريات الأخرى. ومن دون تبادلات فاضحة مماثلة، لا نملك أي احتكاك حقيقي أحدنا مع الآخر، ويقتصر التعاطي بيننا على الاحترام البارد.

لا أؤمن كثيراً بفاعلية اختبارات مماثلة.

لا شك في أن لها حدوداً. فقد تتحوَّل إلى مشكلة متفجرة إن كانت المجموعتان الإثنيتان أو الدينيتان تعيشان في منطقة واحدة، مع أنهما تملكان طرق عيش متناقضة لا يمكن التوفيق بينها. نتيجة لذلك، قد يُعتبر هذا الانتقاد الواضح لدينهما أو طرق حياتهما هجوماً على هويتهما بحد ذاتها.

ألا تشكل هذه بالتحديد ميلاً إلى الانفجار يعكس تصريحاً بات واسع الانتشار في المرحلة الأخيرة عن أن الإسلام يشكل أيضاً جزءاً من أوروبا؟

لا يشكل التسامح حلاً في هذه المسألة. ما نحتاج إليه هو ما يسميه الألمان Leitkultur أو ثقافة أسمى رائدة لضبط طرق تفاعل الثقافات الفرعية. فلا تعود التعددية الثقافية، مع كل ما تشمله من احترام متبادل لحساسيات الآخر، فاعلة عندما نبلغ مرحلة «فقدان القدرة على التحمل» هذه. يعتبر المسلم الملتزم أن من المستحيل تقبل صورنا «المجدفة» ودعابتنا التي تقلل من الاحترام وتشكل جزءاً من حريتنا. لكن الغرب، بممارساته الليبرالية، يعتبر أيضاً أنه يعجز عن تحمل الزواج بالإكراه أو عزل المرأة المعتمدين في حياة بعض المسلمين. ولهذا السبب أقول أنا اليساري إن علينا ابتكار ثقافتنا الرائدة الخاصة.

ما قد تكون هذه؟ وما الشكل الذي قد تأخذه هذه الثقافة الرائدة؟ نرى أحياناً مَن يشككون حتى في التطبيق العالمي لحقوق الإنسان باسم الاختلافات الثقافية.

تقوم الثقافة الأوروبية الرائدة على كونية التنوير الذي يستطيع الفرد ضمن إطاره أن يرى نفسه من خلال هذه الكونية. ويعني ذلك أن تنجح في التخلي عن خصائصك وأن تتجاهل مواقفك الاجتماعية، الدينية، والإثنية الخاصة. فلا يكفي أن نتحمل أحدنا الآخر، بل من الضروري أيضاً أن نتمكَّن من التعبير عن هويتنا الثقافية كأمر طارئ، كأمر عابر، أو كأمر من الممكن تغييره.

لكن الفرد الكوني قيمة مجردة لا وجود لها في الواقع. ففي الحياة العادية، ينتمي كل منا إلى مجموعة أو مجتمع.

يشكل الفرد الكوني واقعاً ملموساً في حياتنا. فبالإضافة إلى التفاح، الإجاص، والعنب، يجب تخصيص مكان للفاكهة كلها. أحب جمال هذه الفكرة الأفلاطونية. ينتمي الناس إلى مجموعة محددة، لكنهم يشكلون في الوقت عينه جزءاً من بعد كوني. فلا أبقى على حالي طوال مراحل حياتي، ورغم ذلك، أظل أنا نفسي. ولا يُعتبر المجتمع أيضاً مغلقاً. فيستطيع الإنسان ترك مجتمع ما والانضمام إلى آخر. وهكذا تتكوَّن هويتنا من هويات عدة يمكنها التوافق معاً بنجاح وبشكل متوازٍ.

ما تأثير ذلك في السياسة؟

قال زعيم الثورة الإيرانية الخميني ذات مرة: لا نخشى نحن المسلمين الأسلحة الغربية أو الإمبريالية الاقتصادية، بل نخاف الفساد الأخلاقي في الغرب. ويتجلى الشكل المتطرف من هذه المقاومة من خلال {داعش} أو حتى {بوكو حرام}. يا لها من ظاهرة غريبة! حركة اجتماعية وسياسية هدفها الرئيس إبقاء المرأة أمية ومكتفية بمكانتها.

هل تشكل المتعة الفردية غير المضبوطة الوسيلة الوحيدة التي نملكها لنعارض أصولية مماثلة؟

كلا، لسببين. أولاً، لا يشكل الدين خصمنا الفعلي. أعلن زيفكو كوستي، كاهن قومي كاثوليكي كرواتي، الكاثوليكية رمزاً يُظهر أن الناس غير مستعدين للتخلي عن قوميتهم وإرثهم الثقافي: {الكرواتية الكاملة}. يوضح هذا التصريح أن المسألة لم تعد ترتبط بالإيمان وصحته، بل بمشروع سياسي-ثقافي. يشكل الدين هنا مجرد أداة أو إشارة إلى هويتنا الجماعية. تقوم هذه المسألة على عدد الأشخاص الذين يسيطر عليهم طرف ما ومقدار هيمنة {فريقنا}. ولهذا السبب مال كوستي إلى اقتباس أقوال شيوعي إيطالي ادعى: {أنا كاثوليكي علماني}. ولهذا السبب عينه، أشار القاتل الجماعي النرويجي أندريس بريفيك، الذي لا يُعتبر متديناً جداً، إلى الإرث المسيحي كأساس للهوية الأوروبية. أما السبب الثاني الذي يُعتبر أكثر أهمية، فهو واقع أن حرية الاختيار الفردية غير المضبوط تلائم اليوم خير ملائمة الرأسمالية، وخصوصاً أن اختراق العملية الاجتماعية والاقتصادية العالمية يزداد صعوبة تدريجياً. وهكذا تشكل المتعة الفردية والأصولية قوتين تحفز إحداهما الأخرى. ولا يمكننا أن نحارب الأصولية بفاعلية إلا من خلال مشروع جماعي جديد يقوم على التغيير الجذري. ولا دخل للمتعة التافهة في خطوة مماثلة.

ولكن مَن يحدد ما العابر وما هو الأساسي؟ فبالنسبة إلى بعض المسلمين، يشكل الحجاب مسألة أساسية، لا عابرة.

هنا تكمن المشكلة المتفجرة. فعلى الفتاة أو المرأة أن تقرر هي بنفسها. وكي تتمكن من القيام بأمر مماثل، يجب أن تتحرر من ضغوط العائلة والمجتمع. وهنا يأتي دور الاعتاق العنيف: فما من سبيل إلى الاستقلال إلا من خلال التخلي عن الجذور وفصل الإنسان ذاته عن الضغوط التي يمارسها عليه المجتمع ليطبعه بطابعه. ولهذا أعتبر مالكوم أكس أحد أبطالي. يشير {أكس} إلى التخلي عن الجذور. فلم يندفع إلى البحث عن جذوره الأفريقية. على العكس، رأى في ذلك فرصة لبلوغ مستوى جديد من الحرية الكونية.

هل ترحب بهذا العنف؟

أتقبل هذا العنف لأنه يمثل ثمن الأرجحية الحقيقية وتحرير الذات. يقوم التقدم في الديمقراطية الغربية على الاستمرار في توسيع نطاق الكونية، وبذلك تنويع حرية الاختيار بين القرارات الطارئة. لكن الأرجحية لا تعني التفاهة. فغالبية إنجازاتنا الجماعية الأكثر قيمة كانت طارئة. فقد جاءت من حيث لا ندري وشكلت انفصالاً عن هوياتنا الأساسية.

هل تعتبر العمل المتواصل لتوسيع مساحة الحرية العامة مهمة المفكرين أمثالك؟ يذكرنا هذا بالمجتمع المفتوح لكارل بوبر أكثر منه بثورة البروليتاريا لماركس.

كلا، كل شيء إلا بوبر. من هذا المنطلق، لا أزال ماركسياً لأن المهم في رأيي يبقى بنية الحرية القائمة على المؤسسات. يتولى الخبراء (أو الأغبياء في المعنى الأصلي للكلمة) مهمة العثور على حلول لمشاكل محددة. أما المفكر، فيصبّ اهتمامه كله على طرح الأسئلة بأسلوب جديد والتفكير في الظروف الاجتماعية للحريات المدنية الشخصية القائمة. يميز كانط في مقاله {ماهية التنوير} بين الاستخدام الخاص والعام للمنطق. ويُعتبر هذا ملائماً لأيامنا اليوم أكثر مما كانه في الماضي. يعتبر كانط أن الاستخدام العام للمنطق يعني التفكير الحر بعيداً عن أي ضغوط سياسية أو دينية، في حين أن استخدام المنطقة في خدمة الدولة يصبح خاصاً. يقوم صراعنا اليوم، وهو يشمل ويكيليكس، على إبقاء المساحة العامة حية.

كيف يمكننا أن نطور التعاضد المحرر بين مجموعات مختلفة ثقافياً؟

جوابي هو: النضال. من الواضح أن الكونية الفارغة ليست كافية. من الضروري ألا نتغلب على صراع الثقافات من خلال مشاعر الإنسانية العالمية، بل من خلال التعاضد الكامل مع مَن يناضلون داخل كل ثقافة. يجب أن يرافق نضالنا في سبيل الإعتاق المعركة ضد النظام الطبقي في الهند ومقاومة العمال في الصين. تعتمد المسائل كافة على خطوة مماثلة: الحرب لأجل الفلسطينيين وضد معاداة السامية، ويكيليكس، وفرقة «بوسي رايوت، ذلك كله يشكل جزءاً من الصراع عينه. ومن دون هذه الخطوة، قد يكون أفضل لنا أن نقتل أنفسنا، وحسب.

back to top