الروائي الصيني يو هوا: عشت على مقربةٍ من الموت محاطاً بالغرابة والعبثية

نشر في 18-01-2015 | 00:02
آخر تحديث 18-01-2015 | 00:02
ذاعت شهرة يو هوا في عام 1994 مع صدور فيلم To Live (أن تحيا) من إخراج زهانغ ييمو والمقتبس من روايته بالعنوان عينه. دفع الفيلم الحكومة الصينية إلى منع المخرج المرشح للأوسكار من العمل عامين.
منح ذلك يو هوا شهرةً استغلها إيجاباً من خلال كتاباته اللاذعة البارعة حول عبثيّة الحياة في بلدٍ تواكب فيه الشيوعية الحداثة، وذلك عبر مجموعة مقالات حملت عنوان China In Ten Words (الصين بعشر كلمات)، وكتاباته في «نيويورك تايمز» ورواياته الرائعة على غرار Brothers (الإخوة).
يتمحور عمله الأخير The 7th Day (اليوم السابع) حول قدرة الإنسان على الخير. في هذه الرواية الصغيرة ولكن الكبيرة بمعانيها، يجوب {يانغ في} (شخصية الرواية)، الذي انتقل للتو إلى رحمة الله تعالى، عالم الأحياء الأموات باحثاً عن ماضيه، ملتقياً أشخاصاً يروون له قصص حبٍ وتضحيات في مدينةٍ مدمّرة.
في حوارٍ مع موقع {غودريدز}، يتحدث الكاتب المقيم في بيجينغ عن الواقعية في وجه العبثية، والنشوء في جوار مستودع جثث، والبحث عن مواد للقراءة في ظل الثورة الثقافية.
قلت سابقاً إن كتاباتك تواكب التغيير الحاصل في بلدك. كيف تعبّر روايتك The 7th Day عن هذا التغيير؟ هل تعتبرها مرآةً للصين اليوم؟

أردت أن تعكس رواية  The 7th Dayواقع الصين اليوم. تمحورت رواية Brothers حول الحقبة الممتدة بين الثورة الثقافية والحاضر. لكن مع انتهائها شعرت بالحاجة إلى كتابة المزيد حول الموضوع، فأنتجت China In Ten Words.  بعدها أردت الابتعاد عن الثورة الثقافية فكتبت The 7th Day ، وهي رواية قصيرة ولكن عميقة، تركّز على عبثية واقع الصين خلال الأعوام الـعشرين الماضية. اخترت فكرة عالم الأحياء الأموات الذي يكون عادةً مكاناً مخيفاً ولكنه في روايتي مكانٌ رائع الجمال. هو أقرب إلى اليوتوبيا شبه الكاملة، كالنبع الصيني الأسطوري المحاط بشجر الخوخ، مع بعض الفروقات. يلقي الأموات نظرة ثاقبة إلى الصين اليوم فتبرز بشاعة واقعها بالمقارنة مع جمال العالم الآخر. لا تتعدى الرواية الـ224 صفحة، لكنها برأيي عملٌ طموح.

من الأصعب دوماً تغطية أكثر من زاوية في الرواية، إذ غالباً ما لا يكون حجم الرواية هو العائق. شهدت الصين تحولات منذ نشرك لكتابك الأول، أيّ التطوّرات فضّلت تسليط الضوء عليها، ولماذا؟ وكيف عكست كتاباتك هذه التطوّرات؟

أنا كاتبٌ واقعي، وإن كانت رواياتي عبثية فذلك لأنها تصف عبثية واقعنا. يناهز عمري الخمسة والخمسين. وعندما أعود بذاكرتي إلى الماضي أدرك أنني طالما عشت محاطاً بالغرابة والعبثية. سيطرت العبثية على الثورة الثقافية وهي على تزايدٍ اليوم. ولكن عندما تصبح خبزك اليومي، تكف عن ملاحظتها وتصبح شيئاً طبيعياً. خلال الثورة الثقافية غطت صور ماو تسي تونغ الجدران كلّها، وحتى جدران المراحيض، ولم يستغرب أحدٌ ذلك. واليوم كما في حينها، اعتدنا الغرابة في حياتنا اليومية ولم نعد نكترث لها. لا ينفك المجتمع الصيني يتغيّر بسرعةٍ وغرابةٍ. ودوري ككاتبٍ واقعي هو أن أبقى منتبهاً إلى هذه التغيرات. إذا زرتَ الصين كسائحٍ قد تلاحظ في الفنادق إشارة «ممنوع التدخين» وإلى جانبها منفضة. أود الكتابة عن هذه المنفضة المجاورة لإشارة «ممنوع التدخين».

في روايتك Brothers شخصية {بالدي لي} المعروف باختلاس النظر إلى النساء في المراحيض العامة، وكان والده يقوم بالأمر عينه وقد لاقى حتفه عندما تعثّر واقعاً في بالوعةٍ وهو يمارس فعلته هذه. أما في هذه الرواية فوالدة «يانغ في» تنجبه في مرحاض قطار. هل هذه الحادثة تذكيرٌ حاذقٌ بالرواية السابقة؟

لم تخطر لي الفكرة بينما كنت أكتب القصة، ولكن بعدما ذكرتَ الموضوع نبّهتني إلى إمكانية وجود صلةٍ خفيةٍ بين الروايتين. الكتابة أشبه بعملية اكتشاف لامتناهية والقراءة كذلك ولكن على نطاقٍ أوسع. بوسع كثير من القراء اكتشاف أمور مختلفة في الكتاب نفسه. يذكرني ذلك بسؤالٍ يطرح على طلّاب الجامعات خلال امتحان الدخول حول روايتيى On The Road At 18 (على الطريق في الثامنة عشرة)، إذ يطلب منهم تحليلها. غالباً ما يعطي الطلبة جواباً خاطئاً ويؤثر ذلك سلباً على نتائجهم. عندما بحثت عبر الإنترنت عن أفضل جواب، أُعجبت جداً بالتحليل الذي وجدته، لأدرك بعد حين أن جوابي نفسه كان ليكون خاطئاً.

نشأت بجوار مستودع للجثث. هل فكرت بالموت في طفولتك؟ هل كنت تعتبره المحطة الأخيرة في حياتنا أو مجرد خطوة نحو حياةٍ أبدية؟

كان والداي طبيبين وكنا نعيش في مجمعٍ استشفائي بجوار المستودع. في طفولتي غالباً ما كنت استيقظ ليلاً أو في الصباح الباكر على بكاء أهالي ميتٍ ونحيبهم. عشت على مقربةٍ من الموت فاعتبرته جاري. لم أكن أرى الموتى النائمين في المستودع. كان الموت بالنسبة إليّ غرفةً اسمنتية بسيطة ونظيفة يتعالى منها نحيب المفجوعين. خلال الصيف، كنت أهرب من الحر بغياب المكيف فأنام في المستودع البارد. في طفولتي، كنت اعتبره واحة استراحةٍ غامضةٍ ننطلق منها إلى عالمٍ آخر.

كيف أثّرت هذه الرؤيا على عالم The 7th Day؟

غالباً ما تروي القصص الانتقال من الحياة إلى الموت، وتأخذ روايتي منحى معاكساً. لا شكّ في أن طفولتي أثرت عليّ كوني عشت بمحاذاة المستودع، فصرت أعتبر أن الموت ليس نهاية الحياة بل مجرد نقطة تحوّل. إنها مجرّد مرحلة من مراحل الحياة تصل الأرواح إلى هذا المكان تعبة ومرهقة فتنام، لتدخل مرحلة جديدة لاحقاً.

أخبرنا عن بدايات هذه الرواية. هل انطلقت من فكرة الحياة بعد الموت أو من رغبتك في نقل وقائع يومية من الصين تسلب حياة أشخاص عاديين؟

فكرت طويلاً بهذا المشروع. ذات يومٍ، تخيلت رجلاً يموت فيتصل به مكتب دفن الموتى لحثّه على الإسراع في المجيء، كونه تأخر على مراسم إحراق جثته. أدركت حينها أن الفكرة قد ولدت. أول 7 أيام بعد الوفاة، في التقليد الصيني، مرحلة تجوب فيها روح الميت الأماكن التي ألفها خلال حياته. وهكذا تجوب شخصيتي الميتة الأماكن الأقرب إلى قلبها. ثم ولدت فكرة عالم الأحياء الأموات. عالمٌ يلجأ إليه المهمّشون من مجتمعٍ غير عادلٍ. لأن إمكاناتهم المادية لا تسمح لهم بشراء قبرٍ، يأتون إلى هذا المكان الجميل حيث يتساوون جميعاً. هكذا بدأت بالكتابة. تسهل الكتابة عندما يمكنني تخيل البداية والأحداث والنهاية. وذلك أشبه بإطلاق النار. فعندما تكون النية جاهزة يسهل فعل ذلك.

يجوب «يانغ في» عالم الأحياء الأموات برفقة كل من لم يكن عنده مقبرة. يقول» في العالم الثاني ما من أحدٍ يبكينا فبتنا نرثي أنفسنا». عبر روايتك نشعر أننا جميعاً محكومون أحياناً بالوحدة، بينما الروابط الإنسانية سهلة التوطيد بمجرد بحثنا عنها. ما رأيك؟

«يانغ في» وحيد إسوةً بالأرواح التي تخلّى الجميع عنها في عالم الأحياء الأموات. باجتماعها في مكانٍ واحد، باتت ترى مأساتها في الآخرين، فما عادت تشعر بالوحدة أو ببؤس الحال. وثمة  مثلٌ صينيٌ يعتبر أنّ المفجوعين يتعاطفون مع بعضهم بعضاً، فيسمح لهم ذلك بالانتقال من عدم المعرفة إلى أعمق الصداقات.

العلاقة التي تجمع «يانغ في» بوالده مؤثرة جداً. لا أريد فضح الأحداث، ولكن يمكنني ذكر أنّ والده وجده قرب سكة الحديد ورباه مضحياً بسعادته الشخصية في سبيله.

عندما كتبت عن الرابط بين {يانغ في} ووالده بكيت، أولاً لأنني اعتبرت علاقتهما مؤثرة جداً، وثانياً لأن الحياة قاسية، فيزيد ذلك من أهمية العلاقات الإنسانية. أردت الكتابة عن الخير. حتى لو كانت شخصيات الكتاب قد انتحرت بطريقةٍ أو بأخرى، لم تتخلَّ أيّ منها عن قدرتها على الحب والتضحية. ينطبق الأمر على «يانغ في» ووالده، على «الفتاة-الفأرة» وصديقها وعلى الموجودين كلّهم في ذلك العالم.

 

بمن تأثرت كتابياً؟ تذكرنا الرواية بكتابات بورخيس وكالفينو وحتى بأفلام انجمار برغمان.

أنا معجبٌ بهم فعلاً. ولكني تأثرت كذلك بكافكا وكواباتا وفولكنر واللائحة تطول. أدرك وجود بعض التأثيرات عليّ وسأكتشف المزيد منها تباعاً. وقد أعبر في هذه الدنيا وارحل غير مدركٍ لتأثيراتٍ أخرى رافقتني في كتاباتي. كتبت مرةً أن تأثير كاتبٍ على كاتبٍ آخر هو كتأثير الشمس على الشجرة، فالشجرة بحاجة إلى نور الشمس كي تنمو ولكنها تنمو وفق طبيعتها الخاصة وليس بحسب طبيعة الشمس.

يتعطش مزيد من الناس إلى اكتساب معلومات حول الصين وتطول لائحة المنشورات الخيالية وغير الخيالية حول هذا الموضوع. برأيك، ما الذي تقدمه لهم القصص الخيالية ولا يجدونه في القصص الحقيقية؟

سؤالك يسعدني. آمل في تزايد المنشورات الخيالية والواقعية حول الصين. عبر قراءة الكتب الواقعية، يمكننا فهم بعض أوجه الصين التاريخية وبعض حقائقها. أما القصص الخيالية فتعرّف القارئ إلى الأبعاد العاطفية للحياة في الصين، وهذا أيضاً بعدٌ بالغ الأهمية. أظن أن التوفيق بين النوعين من الكتابات قد يكون أفضل طريقة للتعرف إلى الصين.

يبدو وكأن ثمة فجوة جيليّة في الأدب الصيني: جيلك الذي يحاول التركيز على التاريخ الحديث وإعادة إحياء حركة العودة إلى الجذور، والجيل الجديد الذي يحبّذ الروايات السريعة النمط والمنشورات الرقمية. ما رأيك بالأدب الصيني اليوم؟

الأدب الصيني اليوم غنيٌ بأنواعه وأنا أقدر جداً هذا الغنى. لست مخولاً تقييم أعمال الجيل الجديد، ولكن أود قول شيءٍ واحدٍ في هذا الموضوع: سواء كان العمل يركز على شخصٍ أو مجموعة، يجب أن يستهدف القلب والعواطف وليس العقل والغرائز الجسدية فحسب. إنّ اكتشاف الأسرار العاطفية برأيي أكثر جاذبيةً من التركيز على الجنس.

هل لديك أي طقوسٍ كتابية؟ فطور لا تستغني عنه، أو تمرين ضروري أو قلم مفضل؟

حياتي ليست منظمة: لا أتناول الفطور عينه كل يوم، ولست ملتزماً بأي برنامجٍ رياضي. منذ بدأت استعمال الحاسوب في العام 1993 استغنيت عن القلم.

ماذا تقرأ حالياً؟

أقرأ أقدم مجموعةٍ للأساطير الصينية وهي مجموعةٌ مميزةٌ غنيةٌ بالخيال.

رقابة

عندما يواجه القرّاء والكتّاب الرقابة، يصبح النقد والهجاء السياسي أكثر إثارةً. كانت ثمة مخاوف من عدم نشر  The 7th Dayفي الصين. يصعب على القارئ الأميركي أن يفهم سبب الانزعاج من الكتاب. لِم خشي البعض أن يتمّ حظره؟ وماذا يعني السماح بنشره كما كُتب؟

فوجئ بعض القراء في الصين في السماح بنشر الكتاب، وأعتقد أن نبرة الكتاب النقدية هي وراء رد الفعل هذا. أنا أيضاً خشيت مواجهة المصاعب بعد انتهائي من كتابة الرواية. الصين تعج بدور النشر، ورفض بعضها نشره ولكنني في نهاية المطاف وجدت صاحب دارٍ شجاعاً قَبِل القيام بذلك. مر عامٌ على إصدار الكتاب ولم يتم منعه بعد. أعرف انني محظوظ ولا يسعني أن أضيف شيئاً هنا.

 الكاتب قارئ قبل أن يصبح كاتباً. نشأت في ظل الثورة الثقافية. كيف وجدتَ ما تقرأه؟ وماذا قرأت؟

 خلال الكتابة يضطلع المؤلف بدورين: دور الكاتب الذي يسمح للقصة بالتقدّم، ودور القارئ الذي يحدد اتجاه الأحداث وأبعادها. خلال الثورة الثقافية، مُنِعَت الكتب الأدبية كلها في الصين باعتبارها {أعشاباً سامّة}. تداول الشعب بعض الكتب خلسةً ولكن غالباً ما كان ينقصها صفحاتٌ في البداية والنهاية فكل ما قرأته كان ناقصاً، لا بداية ولا نهاية له. وكنت أتحمل عدم معرفتي لكيفية بداية قصة ما، ولكن إطلاعي على نهايتها كان يدفع بي إلى الجنون. كان الحل الوحيد أن أتخيل النهايات بنفسي، وتبين أن ذلك الأمر كان مفيداً جداً فقد مرّن مخيلتي منذ الصغر.

في الثمانينيات كنت موظفاً لدى المكتب الثقافي. ماذا يكتب كاتبٌ تحت رقابة الدولة؟

عندما بدأت العمل لدى المركز الثقافي المحلي، في العام 1983، كانت مهمتي إصدار ملخصٍ أدبيٍ سنوي ويعاونني في ذلك زميلان. بعد عامٍ توقفت المجلة عن النشر بسبب افتقارها إلى التمويل وبات عملي يقتصرُ على البقاء في المنزل والكتابة وفق مزاجي. وكانت الصين قد بدأت لتوها إصلاحاتها الاقتصادية. وكان البعض في تلك الحقبة يقوم بأعمالٍ شاقة والآخرون بأعمالٍ مريحة، ولكن الجميع كان يتقاضى الأجر نفسه. تغيّر الوضع الآن. وعندما زرت ضيعتي العام الماضي علمت أنّ موظفي المركز الثقافي باتوا ملزمين باحترام دوام العمل.

بمَ تنصح الكتاب الجدد خاصةً الذين يخافون الرقابة؟

لا تفكروا بالرقابة وأنتم تكتبون بل فكروا فيها بعد الانتهاء من الكتابة.

back to top