لبنان... كان ليغزو الفضاء!

نشر في 22-11-2013 | 00:01
آخر تحديث 22-11-2013 | 00:01
No Image Caption
خلال ستينيات القرن الماضي، تنافست الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي لتحقيق التفوق في الفضاء. لكن هذا السباق ضمّ متبارياً ثالثاً، «الجمعية اللبنانية للصواريخ»، وهي نادٍ علمي في إحدى جامعات لبنان ومحور فيلم عُرض أخيراً. أين أصبح هذا النادي؟ «بي بي سي نيوز» جاءت بالتفاصيل.
«كنت أطمح إلى استكشاف الفضاء، وكان باستطاعة لبنان تحقيق هذا الهدف». قد يبدو تفاخر مانوك مانوكيان هذا بعيد الاحتمال، ولكن قبل 50 سنة، وجد هو ومجموعة من الطلاب أنفسهم من رواد الفضاء في العالم العربي. ورغم ميزانيتهم المحدودة، طوّروا صاروخًا قادرًا على بلوغ أطراف الفضاء.

يضيف مانوكيان: «وهكذا تمكن لبنان الصغير من تحقيق ما عجزت عنه سائر دول العالم العربي. كنا صغاراً في السن، في مطلع عقدنا الثالث. ومع ذلك، حققنا إنجازًا كبيرًا».

بدأ شغف مانوكيان بالفضاء، حين كان صبيًّا صغيرًا، في أربعينيات القرن الماضي، خلال ترعرعه في أريحا في الضفة الغربية. كان مانوكيان شديد التأثر بروايات جول فيرن، لذلك كان يصعد إلى جبل الأربعين القريب ويتأمل السماء في الليل. أما في المدرسة، فكان يحفر صور الصواريخ على طاولته.

حاز مانوكيان شهادة في الرياضيات والفيزياء في جامعة تكساس، قبل أن يعود إلى لبنان ليعمل في مجال التعليم في جامعة هايكازيان الصغيرة وهو في الخامسة والعشرين من عمره. وكي يجذب انتباه الناس، أعاد في شهر نوفمبر 1960 تسمية النادي العلمي «جمعية جامعة هايكازيان للصواريخ».

يخبر مانوكيان: «تفاجأت حين علمت أن عددًا من الطلاب قرروا الانضمام إليها. لم أكن أملك أي تمويل، ولم يكن نشاط مماثل يحظى بدعم يُذكر، لكنني فكرت أنني أستطيع اقتطاع جزء من راتبي الصغير وإقناع زوجتي بأنني أستطيع  شراء ما أحتاج إليه لتجاربي».

كان عليهم أن يبنوا كل ما يحتاجون إليه لهذا المشروع من الصفر. كانت نماذج الصواريخ تُصنع من الكرتون المقوّى وأجزاء من الأنابيب. وكانت تُختبر في مزرعة في أحد الجبال المطلة على بيروت.

يذكر مانوكيان: «حضر طلاب الجامعة لمشاهدة أولى عمليات الإطلاق، ولكن ما إن شغلنا الصاروخ الذي كان يرتكز على منصة بدائية، حتى سقط إلى الوراء وانطلق نحو الجبل وسقط في باحة كنيسة».

طوّر مانوكيان وفريقه المؤلف من سبعة طلاب التصاميم وصارت عمليات إطلاق الصواريخ أكثر تقدّمًا. تولى كل طالب أحد أوجه تصنيع الصاروخ، وبحلول أبريل 1961، صارت الصواريخ التي ابتكروها تصل إلى ارتفاع ألف متر، في حين بلغ الصاروخ التالي ارتفاع ألفي متر، فشاع الخبر وأعرب الجيش اللبناني عن اهتمامه بهذا المشروع، وقدّم لهم خدمات يوسف وهبي، ملازم شاب متخصص في علم المقذوفات.

يتابع مانوكيان: «كذلك أخبرونا أننا بحاجة إلى منطقة آمنة نجري فيها تجاربنا، فأعطونا حقل رماية قديمًا وأمنوا لنا وسائل نقل ضرورية».

أمّن وهبي لهذا الفريق مكونّات من فرنسا والولايات المتحدة، لم يكن باستطاعته الحصول عليها لولا مساعدة وهبي. كذلك طلب من مصنع عسكري السماح للفريق ببناء صواريخ أكثر تطورًا، رغم ذلك، ظلّ مانوكيان يعتبر المشروع علميًّا بحتًا.

يذكر: «حضر مدنيون وعسكريون عمليات الإطلاق التي نفذناها. وقد اعتاد المسؤولون في الجيش السؤال عن المدى الذي قد يبلغه الصاروخ في حال وضعنا هذا الوزن أو ذاك في مقدمته. لكني كنت أسارع إلى القول إن هذا ليس مشروعًا عسكريًّا، بل مشروع مدني يهدف إلى تعليم الطلاب العلوم. هذه كانت مهمتي».

في تلك الفترة، كانت «جمعية جامعة هايكازيان للصواريخ» قد تحوّلت إلى مصدر فخر لكامل الأمة. فدُعي مانوكيان إلى حفل استقبال  أقامه رئيس الجمهورية فؤاد شهاب الذي أخبره بأن وزارة التعليم ستزوّده بتمويل محدود بين عامَي 1962 و1963. فأعيدت تسمية الجمعية «الجمعية اللبنانية للصواريخ». وصار العلم اللبناني شعار برنامج الأرز للصواريخ الذي نفذته.

وهكذا انضم لبنان إلى سباق الفضاء، وإن كان العداء الأكثر بطئًا. يخبر مانوكيان: {أطلقنا صواريخ ثلاثية المراحل. فلم تعد ابتكاراتنا لعبًا، بل صار بإمكانها تخطي الحدود. كذلك بلغت الثرموسفير (الطبقة الرابعة من الغلاف الجوي)}. ويضيف: {تلقيت ذات مرة اتصالاً من مكتب الرئيس لحضنا على الحرص من عدم الاقتراب كثيرًا من قبرص. فقررنا الانتقال قليلاً نحو الجنوب، ما زاد المخاوف لأننا بذلك اقتربنا من إسرائيل}.

أُطلق صاروخ الأرز أربعة عام 1963، وقد حقق نجاحًا كبيرًا، حتى إنه خُصَّ بطابع بريدي. بلغ الصاروخ ارتفاع 145 كيلومترًا، أي على مسافة قريبة جدًّا في الأقمار الاصطناعية في مدار الأرض المنخفض.

خطط مختلفة

لكن ما كان يجهله مانوكيان أن الجيش اللبناني كان يرسم خططًا مختلفة لتلك الجمعية. فقد شكّل لجنة لتقرر كيفية تعديل هذه الصواريخ كي تحمل الأسلحة. وكان يوسف وهبي المخبر الذي نقل لهم كل المعلومات، لكن مانوكيان كان يحلم بنوع آخر من الصواريخ.

يوضح مانوكيان: {في تلك الفترة، كان الأميركيون والسوفيات يرسلون الحيوانات والناس إلى المدار. وكنا ندرّب فأرًا يُدعى ميكي لتحمّل السرعة العالية. وفكرنا في وضعه في رأس أحد الصواريخ}.

يضيف: {طلبت من زوجتي أن تعدّ لي مظلة. فسألتني عن السبب. فأخبرتها عن الفأر ورغبتي في إنزاله بأمان، فرفضت بعناد وقالت: لن ترسل فأرًا إلى الفضاء}.

ولكن مع الفأر أو من دونه، كانت أخبار نادي مانوكيان الصغير تتصدر عناوين الصحف في لبنان. وقد ترافقت كل عملية إطلاق مع إقامة حفلة ضخمة في بيروت. مع تنامي مكاسب مانوكيان، ازداد أيضًا الانتباه غير المرغوب فيه. فاشتبه بأن عملاء أجانب كانوا يراقبون عمله واكتشف أن أحدًا يعبث بأوراقه في المكتب خلال الليل.

كذلك سعت دول عربية أخرى إلى استغلال مهاراته في برامجها العسكرية الخاصة، وتحدث مانوكيان عن عرض خاص قدّمه له بلد عربي لم يذكر اسمه: {عرضوا علي القمر، إذا جاز التعبير، من الناحية المادية وكل الدعم الذي أريد، فضلاً عن منزل أعيش فيه ومختبر أصممه بنفسي. لكني رفضت لأنني أدرك ما ستكون تداعيات خطوة مماثلة. وأنا أعارض بشدة أي عمل عنف مهما يكن}.

ازدادت مخاوف مانوكيان بشأن المنحى الذي قد يتخذه مشروعه. لكن الأحداث التي وقعت في يوليو 1964 فيما كان خارج لبنان (كان يعود من حين إلى آخر إلى الولايات المتحدة لينهي شهادة الماجستير) أقنعته بأن الجمعية باتت خارج سيطرته.

يخبر مانوكيان: {كانت إحدى المواد الدافعة بالغة القوة، وكان من الخطر استعمالها لأن أي احتكاك قد يؤدي إلى الاشتعال. لذلك طلبت من الطلاب ألا يستخدموها. لم يتولَّ أحد الإشراف على العمل أثناء غيابي. وعندما عدت، اكتشفت أن أحد الطلاب قرر استعمالها في أحد الصواريخ}. وخلال عملية الإطلاق، خسر طالب يُدعى هامبار كاراغوزيان إحدى عينيه وتعرضت يداه لحروق بالغة. يتابع: {كان طالب آخر خارج المختبر فهرع إليه وأنقذه، لكنه تعرض لحروق أيضًا. كانت كارثة كبيرة}.

كارثة

كذلك أطلقت {الجمعية اللبنانية للصواريخ} صاروخًا أخيرًا، وكادت هذه العملية تنتهي بكارثة أيضًا. ففي عام 1966، أطلق صاروخ فوق البحر الأبيض المتوسط، علمًا أن المسافة التي كانت تفصله عن قبرص اعتُبرت آمنة. لكن الصاروخ توجه مباشرة نحو سفينة تابعة للبحرية البريطانية كانت تراقب الإطلاق وسقط، وفق مانوكيان، على {بعد أمتار قليلة} منها.

يوضح مانوكيان: {أدركت أن وقت الرحيل قد حان. فكل ما أردته من هذه التجربة تشجيع الطلاب}. تلقى مانوكيان تحذيرًا من بعض الأصدقاء في السفارة الأميركية (“كانوا يعتبرون ملحقين ثقافيين، إلا أننا علمنا أنهم من وكالة الاستخبارات المركزية}) عن أن مواجهة أخرى مع إسرائيل كانت وشيكة. ومع بداية حرب الأيام الستة عام 1967، كان مانوكيان قد عاد إلى الولايات المتحدة، حيث أمضى ما تبقى من حياته الأكاديمية.

أما ذكريات {الجمعية اللبنانية للصواريخ}، فسرعان ما طواها النسيان وضاعت المواد المحفوظة في الأرشيف خلال الحرب الأهلية اللبنانية، كذلك هاجر كثير من الطلاب للعمل في الخارج. ولكن منذ صدور الفيلم الوثائقي الذي يحمل الاسم عينه كما الجمعية، كثر الاهتمام بإنجازات مانوكيان. وهو سعيد اليوم لأن التاريخ لم يغفل الدور الصغير الذي لعبه لبنان في السباق نحو الفضاء.

يقول: {أعتقد أن جمعية الصواريخ شجعت الطلاب على دراسة العلوم. ومن وجهة النظر هذه، أعتبر أنني حققت نجاحًا في ما قمت به. هل كنت أحلم بالوصول إلى القمر؟ بما أنني إنسان واقعي، أعلم أنني لا أستطيع تحقيق المزيد، فلا يملك لبنان التمويل الكافي. ولكن كان بإمكانهم متابعة  الابتكارات العلمية والتجارب الفضائية. كان بإمكانهم إطلاق أقمار اصطناعية إلى المدار. صحيح أن لبنان بلد صغير، ولكن كان بمقدوره تحقيق إنجازات مماثلة}.

back to top