كُلُّنا نُخلَق علماء لكنّنا ننسى

نشر في 17-11-2013 | 00:01
آخر تحديث 17-11-2013 | 00:01
توضح عالمة النفس أليسون غوبنيك لمَ يملك الأطفال مقدرة أكبر على تعلّم الأمور الجديدة، مقارنة بالبالغين، فيكتشفون مختلف الأمور بسهولة ويحفظونها.
حتى وقت ليس ببعيد، اعتبر كل من العلماء والكتّاب والفلاسفة على حد سواء أن الأطفال أعلى بقليل من بالغين بدائيين. ومن خلال الحب والعناية، يتحوّل الأطفال إلى مفكرين مستقلين، مثلنا. كانت أدمغتهم تُشبّه بكمبيوترات جديدة علينا أن نحمّل البرامج تدريجًا.

ولكن خلال العقود القليلة الماضية، توضح أليسون غوبنيك من جامعة كاليفورنيا ببيركلي أن العلم قلب وجهة النظر هذه رأسًا على عقب. فلا تختلف أدمغة الأطفال في بنيتها عن أدمغة البالغين، بل تعمل بطريقة تجعلهم أكثر قدرة من البالغين على تعلّم أمور جديدة أيضًا. بكلمات أخرى، يبدو أن الأطفال مصممون خصوصًا لاكتشاف شتى الأمور وتعلمها. لذلك يُعتبر الأطفال علماء صغارًا... على الأقل إلى أن يستبدلوا عادات الاستكشاف تلك بمرور الوقت بأنماط تفكير أقل مرونة.

توضح غوبنيك: {يملك الأولاد الكثير من الوصلات العصبية التي تتشكل والكثير من المشابك في قيد التطور، مقارنة بالبالغين. لذلك يتمتع الإنسان في بداية حياته بدماغ مصمم للتعلّم، دماغ مرن وطيّع جدًّا يتفاعل مع كثير من التجارب. ولكن فيما نتقدّم في السن، يتحوّل دماغنا إلى آلة قوية متينة مصممة لتنجز الأمور على أكمل وجه، إلا أنها تفتقر إلى تلك المرونة والمهارة في تعلّم أمور جديدة}.

أبحاث وتطوير

غوبنيك رائدة مشهورة عالمية في مجال دراسة نمو الأطفال. فكانت أول مَن اقترح أن عقول الأطفال قد تساعدنا في فهم المسائل النفسية العميقة. وقد وضعت أكثر من مئة مقال نُشرت في الصحف، فضلاً عن كتب عدة، من بينها The Scientist in the Crib (العالِم في المهد) وThe Philosophical Baby (الطفل الفيلسوف). كذلك حصدت مشاركتها في TED talks عام 2011 مليون مشاهدة.

تذكر غوبنيك: {يشبه الأطفال والأولاد قسم الأبحاث والتطوير بالنسبة إلى الجنس البشري. أما البالغون، فيشكلون قسم الإنتاج والتسوق}. يعني ذلك أن الأطفال يجيدون التفكير علميًّا بطرق كثيرة (كما أظهر عدد من التجارب)، بخلاف البالغين.

على سبيل المثال، يصعب على معظم البالغين فهم الإحصاءات والاحتمالات. لذلك من اللافت أن الأولاد الصغار يجيدون حلّ المسائل، معتمدين على فهم فطري للاحتمالات.

لنتأمل في دراسة عن مهارات الأطفال الإحصائية أعدتها عالمة النفس تامار كوشنر وزملاؤها. فقد طلبوا من أطفال يبلغون من العمر 20 شهرًا مراقبة عالِمة، تُخرج إما بطات مطاطية صفراء أو ضفادع مطاطية خضراء من علبة بلاستيكية شفافة. احتوت العلبة أحيانًا على بط بمعظمها أو ضفادع بمعظمها. نتيجة لذلك، إذا أخرجت العالِمة خمسة ضفادع متتالية من علبة مليئة بالبط، مثلاً، يعني ذلك أنها تقوم بأمر مستبعد إحصائيًّا، أمر تقوم به عمدًا.

أدرك الأطفال هذا الواقع أيضًا: عندما حان دورهم لاختيار ضفدع أو بطة من العلبة ليعطوها للعالِمة كي تلعب بها، انتقوا خيارًا مستبعدًا إحصائيًّا عندما قامت هي بأمر مماثل. فإذا أخرجت ضفدعًا من علبة البط، كان الأطفال أكثر ميلاً إلى اختيار ضفدع أيضًا. ولكن في الحالات التي لم تقم فيها العالِمة بخطوة مستبعدة، مخرجةً مثلاً البط من علبة البط، كان خيار الأطفال أقل وضوحًا. فقد استنتجوا على الأرجح أن العالِمة لا تأبه لنوع الحيوانات الذي تحصل عليه، بما أن خيارها لم يكن مستبعدًا. بكلمات أخرى، يستطيع الأطفال، وإن بلغوا من العمر 20 شهرًا فقط، أن يدركوا أن العالِمة، بمخالفتها الاحتمالات، كانت تختار ما تفضله من الألعاب.

تكتب غوبنيك في مجلة Science: {يستخدم الأولاد إلى حدّ مفاجئ البيانات ليصوغوا الفرضيات والنظريات ويختبروها بالطريقة عينها التي يتبعها العلماء. يكتشف العلماء العالَم بطرق ثلاث: يحللون الأنماط الإحصائية الظاهرة في البيانات، يجرون التجارب، ويتعلمون من البيانات وأفكار العلماء الآخرين. وتُظهر الدراسات الأخيرة أن الأولاد يتعلمون بهذه الطرق أيضًا}.

مثل العلماء

يوافق معظم الأهل الذين يعانون أسئلة أولادهم التي لا تتوقف، والتي تبدأ معظمها بكلمة «لماذا»، على فكرة أن الأولاد يتصرفون مثل العلماء. حتى الأطفال يعبثون باللعب إلى أن يكتشفوا ما تقوم به وكيف تعمل. ومن خلال هذا النوع من اللعب الاستكشافي يكتشف الأولاد العلاقات المعتادة، ويفهمون كيف يسير العالَم، تمامًا مثل العلماء.

علاوة على ذلك، قد تساهم وجهة النظر الجديدة هذه عن كيفية استخدام الأطفال دماغهم في توضيح لغز محيّر في عملية التطور: مقارنة بمعظم الحيوانات الأخرى، يولد صغار الإنسان ضعفاء جدًّا ويُضطرون إلى الاعتماد على أهلهم فترة طويلة. لذلك يُعتبر الأطفال استثمارًا كبيرًا: يحتكرون قلبنا، مالنا، ووقتنا. وذهب علماء الأحياء أحيانًا إلى حدّ القول إن فترة النضوج الطويلة هذه تعكس ما نحتاج إليه لتطوير دماغ قوي مثل دماغنا. فبخلاف الأعضاء الأخرى، يتبدّل الدماغ مع التجارب: يجب أن نتفاعل أحدنا مع الآخر ومع البيئة كي ينمو دماغنا بطريقة سليمة. وهذا ما يفعله الأطفال بالتحديد.

لعلم غوبنيك أيضًا تداعيات كبيرة على طريقة تفاعلنا مع أولادنا. فإن كانت أدمغتنا تحتاج إلى التفاعل الاجتماعي واختبار البيئة المحيطة بنا لتنمو بشكل سليم، تُعتبر إذًا كل لحظة نتجاهل فيها أطفالنا أو نتركهم يجلسون بخمول أمام شاشة لحظةً ضائعة. نتيجة لذلك، يساهم الجلوس مطوّلاً أمام شاشة التلفزيون والتفاعل الاجتماعي المحدود في توضيح الفجوة بين أولاد الطبقتين المنخفضة والمتوسطة الدخل. فقد أظهرت دراسة حديثة أن أطفال العائلات الفقيرة يميلون قبل دخولهم المدرسة إلى تمضية أوقات أطول أمام شاشة التلفزيون، مقارنة بأطفال العائلات الثرية.

ضرورة التفاعل

نصحت الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال أخيرًا بمنع الأولاد تحت سن الثانية من مشاهدة التلفزيون أو أي أجهزة إلكترونية أخرى مزودة بشاشة. إذًا، ما انعكاس هذا كله على الكم الهائل من التطبيقات والألعاب المخصصة للأطفال؟ تجيب غوبنيك: {يتعلم الأولاد الكثير من التفاعل مع الناس حولهم. ويُعتبر الأولاد شديدي التأثر بهذه الأنواع من التفاعل}، ما يعني {أن أي شيء يمنع الأولاد والأطفال من التفاعل مع الأناس المحيطين بهم يسيء إلى تعلّمهم}.

لكنها تضيف: {اللافت في الجيل الجديد من الأجهزة... أنها تتفاعل بطريقة افتقرت إليها الأجهزة في الماضي}.

لا شك في أن كل هذا ينعكس على طريقة تربيتنا أولادنا. ولكن ماذا يمكننا، نحن البالغين، تعلمه منهم لنحسّن أذهاننا؟

توضح غوبنيك أننا مع التقدم في السن نفقد مرونتنا المعرفية وميلنا إلى الاستكشاف، وهذا أمر يجب أن نتذكره لئلا تسيطر الصلابة على تفكيرنا. تذكر غوبنيك أن أدمغة الأطفال {تشبه خارطة باريس القديمة مع كثير من التعرجات والشوارع الصغيرة المتداخلة}. لكن هذه الشوارع تتحوّل إلى جادات واسعة مع مرحلة البلوغ: أكثر فاعلية إنما أقل مرونة.

خلاصة القول، ما من بديل للاستكشاف غير المحدود بالقواعد والتوقعات في عملية التوصل إلى حلول مبتكرة لمشاكلنا. فكبالغين، قد يكون الاستكشاف كافياً لتعيد أدمغتنا إلى حالتها الأكثر مرونة وديناميكية خلال مرحلة الطفولة. ولكن لا تُعتبر كل فكرة نطوّرها جيدة. وكبالغين، نبقى مسؤولين عن عملية الإنتاج والتسويق الخاصة بجنسنا، ولكن نحتاج، على الأرجح، إلى التفكير كأطفال من حين إلى آخر لنكتشف الاحتمالات المتاحة أمامنا.

back to top