ماذا يريد فلاديمير بوتين من أوكرانيا؟

نشر في 18-04-2014
آخر تحديث 18-04-2014 | 00:01
إذا تجاهل القادة الأوكرانيون عمليات الاستفزاز وتركوا مدناً مثل سلوفيانسك بين أيدي أعدائهم، فستخسر الحكومة المركزية عندئذٍ سيطرتها على الشرق تدريجاً، وسينفذ رجال مقنعون الاحتلال تلو الآخر.
 ذي تيليغراف متى لا يُعتبر الغزو غزواً؟ لم تعبُر أي دبابات روسية حدود أوكرانيا الشرقية، ولا نرى أي وحدات مشاة خاصة تنشر الخراب في بقايا ما بعد المرحلة الصناعية في حوض دونيتس، رغم ذلك، نجح الكرملين في السيطرة فعلياً على عدد من المدن داخل هذه الدولة المجاورة.

تكشف هذه العملية المريبة في شرق أوكرانيا الكثير عن طباع الرئيس فلاديمير بوتين، ولا شك أن عميل الاستخبارات السوفياتية السابق هذا يعتبر توجيه الأمر بتنفيذ غزو عسكري تقليدي (ما يشبه عملية بارباروسا إنما بالاتجاه المعاكس) خطوة بدهية جداً. فبينما كانت قيادة حلف شمال الأطلسي (الناتو) تعبّر عن مخاوفها من وجود نحو 35 ألف جندي روسي إلى 40 ألفاً على الحدود مع أوكرانيا، اختار بوتين طريقة أقل وضوحاً للهيمنة على جيرانه.

اتضح أن التقويض من الداخل، لا الاعتداء من الخارج، يشكّل تقنية بوتين المفضلة للتحكم في مجرى الأحداث في أوكرانيا، صحيح أننا لم نستبعد بعد تنفيذه غزواً شاملاً، لكن الكرملين اختار، في الوقت الراهن على الأقل، شن حرب مبهمة يمكن إنكارها.

بدأت المرحلة الأولى من هذه العملية قبل 10 أيام، حين احتل رجال مسلحون مباني حكومية في خركيف ولوهانسك ودونيتسك، عواصم المناطق الثلاث الشرقية الأوكرانية التي تضم أقلية روسية  كبيرة. وفي يومَي السبت والأحد الماضيين، شهدت هذه الحملة تصعيداً مفاجئاً، ففي غضون 24 ساعة، احتل المسلحون مراكز الشرطة ومكاتب رسمية أخرى في ست مدن في منطقة دونيتسك.

تدفعنا طريقة العمل هذه إلى إجراء بعض المقارنات مع مصير القرم، التي وقعت تحت السيطرة الروسية الفعلية في غضون أيام قليلة في شهر فبراير، فكما حدث في القرم، لوّح مَن قادوا هذه الاعتداءات بالأعلام الروسية من المباني التي احتلوها، أما هدفهم، فكان المطالبة باستقلال ذاتي تام عن المناطق المجاورة في بلدهم أو اتحاد صريح مع روسيا.

نتيجة لذلك، قارن وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ صراحةً هذه التطورات بأحداث القرم، مشيراً إلى أن "القوى" الناشطة في شرق أوكرانيا "تتصرف بالطريقة عينها كما القوات الروسية في القرم"، وأضاف هيغ أن كل هذا أدى إلى "انتهاك فادح، متعمّد، ومدروس لاستقلال أوكرانيا وسيادتها".

إذاً، هل يسلك شرق أوكرانيا الدرب ذاته كما القرم ويتحوّل إلى منطقة إضافية من روسيا أم أن بوتين يلعب لعبة أقل وضوحاً؟ لا ينكر أحد أن بوتين نجح في تحقيق هدفه الأول: إغراق حكومة ما بعد الثورة في أوكرانيا في معضلة مستحيلة. فإذا واجه قادة البلد الجدد هذا التحدي ونشروا جيشهم بهدف استعادة المدن والمباني الحكومية المحتلة، فقد يلقى عدد من الروس حتفهم، وهكذا يحظى بوتين بعذر لتنفيذ غزو شامل. يبث التلفزيون الروسي ساعة بعد ساعة دعاية كاذبة عن أن أوكرانيا تواجه حرباً أهلية، وأن ثورة فبراير أوصلت "الفاشيين" و"المتطرفين" إلى الحكم، ولا شك أن بوتين سيزعم أن أي حادث دموي يشكّل دليلاً على ذلك، وإذا قرر الرئيس الروسي الغزو، فسيصوّر هذا الاعتداء على أنه السبيل الوحيد إلى تهدئة الفوضى، آملاً أن ننسى الدور الذي أداه في التسبب بهذه الفوضى.

ولكن إذا تجاهل القادة الأوكرانيون عمليات الاستفزاز هذه وتركوا مدناً مثل سلوفيانسك بين أيدي أعدائهم، فستخسر الحكومة المركزية عندئذٍ سيطرتها على الشرق تدريجاً. وسينفذ رجال مقنعون الاحتلال تلو الآخر، صحيح أن الخريطة قد لا تتبدل، إلا أن الحدود بين روسيا وأوكرانيا ستصبح مبهمةً، فيما يمضي الكرملين قدماً في ضم مناطق كبيرة من جارته، منتقلاً من مبنى إلى آخر ومن مدينة إلى أخرى.

حسمت الحكومة في كييف رأيها من الناحية النظرية، فيوم الأحد الماضي، أمهل الرئيس الانتقالي الأوكراني أولكسندر تورتشينوف الرجال المسلحين حتى يوم الاثنين لمغادرة كل المباني العامة، وإلا فسيواجهون "عملية مناهضة للإرهاب"، لكن هذه المهلة انقضت من دون أن نرى أي هجوم، ما يشير إلى أن تورتشينوف وزملاءه ما زالوا يتخبطون وسط هذه المعضلة.

من المؤكد أن هذا لم يخيّب أمل بوتين، فقد حرص على ترك مخرج لخصومه: يمكنهم الخروج من مأزقهم المؤلم هذا إن نفذوا ما يمليه عليهم بدقة.

سبق أن عبّرت روسيا عن أهدافها في أوكرانيا: يريد الكرملين أن تضع هذه الدولة دستوراً جديداً يمنح استقلالاً ذاتياً كاملاً للمناطق الشرقية. بالإضافة إلى ذلك، تطالب روسيا أن تضمن هذه التسوية الجديدة وقوف أوكرانيا على الحياد، أو بكلمات أخرى رفضها الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي أو الاتحاد الأوروبي بشكل نهائي. وإذا تأملنا في هذه المسألتين معاً، نلاحظ أن هذه التسوية القاسية تؤكد بقاء أوكرانيا بشكل راسخ داخل مدار موسكو.

مع مناورات الأيام الماضية، يأمل بوتين أن يكون قد اكتسب النفوذ الكافي لإرغام القادة الأوكرانيين على الانصياع لمشيئته. يوضح الدكتور ألكس برافدا، خبير متخصص في الشؤون الروسية في كلية سانت أنتوني في أكسفورد: "ثمة تفسران محتملان لهذه التطورات: فإما تشكّل جزءاً من استراتيجية طويلة الأمد لتفكيك أوكرانيا أو أنها سلسلة من الخطوات التكتيكية التي تهدف إلى تعزيز السيطرة على كييف. لكني أميل إلى التفسير الثاني".

لكن مناورات بوتين هذه لا تخلو من المخاطر. أولاً، قد يختار القادة الأوكرانيون الشق الأول من هذه المعضلة ويواجهون القوة بالقوة، وإذا حاولوا استعادة مدينة بالقوة، قاتلين بعض الروس خلال ذلك، فقد يجد بوتين نفسه مرغماً على الغزو، سواء كان ذلك جزءاً من خطه أو لا. يذكر الدكتور برافدا: "سيشكّل وقوع أكثر من خمس إلى عشر ضحايا وضعاً حرجاً بالنسبة إليه. يحاول بوتين نشر حالة من الفوضى حيث يتمتع بالنفوذ، إلا أن هذا عالي المخاطر".

علاوة على ذلك، قد لا يتصرف الناس في شرق أوكرانيا وفق ما يأمله بوتين، فإذا كان هذا الرئيس الروسي يرغب في إطلاق موجة كبيرة من الكره الشعبي ضد الثوار في كييف، فلم ينجح في ذلك بعد. فقد اقتصر عدد المتورطين مباشرةً في عمليات الاحتلال هذه على بضع مئات من الناس، الذين تلقوا الدعم من حشود متواضعة نسبياً من المتظاهرين.

بخلاف القرم، يشكّل المنتمون إلى الإثنية الروسية أقلية في شرق أوكرانيا، مع أنه هذه الأقلية كبيرة نسبياً، فتبلغ 38% في منطقة دونيتسك، رغم ذلك، تشير استطلاعات الرأي أن دعم الانضمام إلى روسيا يشكّل قضية بالنسبة إلى أقلية منهم. فقد دعم أكثر من 83% من الناخبين في دونيتسك استقلال أوكرانيا في الاستفتاء الذي أُجري مع انهيار الاتحاد السوفياتي في ديسمبر عام 1991؛ لذلك لا يبدو واضحاً أن بوتين يعمل بما يتوافق مع الرأي الشعبي. وإذا نفذ الغزو، فقد يشن سكان شرق أوكرانيا حرباً داخلية معادية له وراء الخطوط الفاصلة، حتى لو حقق بوتين انتصاراً عسكرياً تقليدياً.

رغم ذلك، يبقى سؤال أكثر أهمية: ما هي بالتحديد أهداف بوتين الطويلة الأمد؟ في الخطاب الذي أعلن فيه عودة القرم إلى روسيا الشهر الماضي، ندد بوتين بالمظالم التي فرضتها تسوية ما بعد الحرب الباردة على بلده في تلك اللحظة من الضعف المفرط، وتعهد أمام ذلك الحضور المتحمّس بعكس تلك المظالم وإعادة بناء عظمة روسيا.

من الواضح أن طموحه هذا يشمل ضم القرم. ولكن هل يتطلب أيضاً إعادة رسم خريطة شرق أوكرانيا لضم المزيد من المناطق الناطقة بالروسية إلى روسيا؟ وماذا عن دول البلطيق، التي تشكّل كلها دولاً أعضاء في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، في حين أنها تضم أقليات روسية كبيرة؟

إذا أراد بوتين تغيير العالم الذي وُلد مع انتصار الغرب في الحرب الباردة، فأين تنتهي مهمة هذه بالتحديد؟

ربما يقتصر اهتمامه على القلب السلافي للاتحاد السوفياتي السابق، خصوصاً روسيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء، أو من الممكن أيضاً أن بوتين نفسه لا يعرف الجواب عن هذا السؤال. لكن مصير شرق أوكرانيا خلال الأسابيع المقبلة سيساهم في الكشف عن المدى الذي يبدو بوتين مستعداً لبلوغه ليحقق طموحه الكبير هذا ويعيد بناء عظمة روسيا.

* ديفيد بلير

back to top