هل حلف شمال الأطلسي مستعد لمواجهة روسيا؟

نشر في 05-08-2014 | 00:01
آخر تحديث 05-08-2014 | 00:01
 تشارلز كروفورد تملك لجنة الدفاع في مجلس العموم- التي يرأسها روري ستيوارت وتضم نواباً يتقنون المسائل الدفاعية- بعض الآراء الحازمة لتقولها عن مدى استعداد حلف شمال الأطلسي (ناتو) للمواجهة مع روسيا: لا يبدو حلف شمال الأطلسي مستعداً جيداً لمواجهة خطر روسي يهدد إحدى دوله الأعضاء، فيصعب عليه التصدي لاعتداء روسي غير تقليدي يقوم على مناورات غير منتظمة ("الحرب الغامضة") هدفها تفادي بلوغ عتبة رد حلف شمال الأطلسي.

علاوة على ذلك، تحدد هذه اللجنة ثغرات في قدرة حلف شمال الأطلسي على توقع هجوم مماثل وبناه القيادية والتوجيهية، كذلك تطرح مخاوف بشأن الاستعداد العام لالتزام بالمادة الخامسة الأساسية في هذا الحلف ("تعتبر أي هجوم ضد إحدى الدول الأعضاء أو عدد منها في أوروبا أو أميركا الشمالية هجوماً ضدها كلها"). ودعت إلى تأمل جاد وذكي في قدرات المملكة المتحدة وحلف شمال الأطلسي على التعاطي مع التهديدات الأمنية في أوروبا، وخصوصاً الحروب غير المنتظمة والهجمات عبر الإنترنت.

ما من سبب يدعونا إلى الاعتقاد أن تقييم اللجنة واقتراحاتها خاطئة أو مبالغ فيها أو غير حكيمة، إذاً، ما المشكلة؟

بعد انتهاء الحرب الباردة قبل نحو 25 سنة، كان من المبرر أن تستخلص حكومات حلف شمال الأطلسي أن التهديدات العسكرية والعقائدية التي تواجهها أوروبا الغربية بسبب الاتحاد السوفياتي السابق قد انتفت، ففي مطلع تسعينيات القرن الماضي، اعتُبرت روسيا شريكاً دبلوماسياً جديداً في الحفاظ على أمن أوروبا وغيرها من الدول، مع أنها لم تكن دوماً شريكاً متحمساً يُعتمد عليه: عملتُ بين عامَي 1992 و1998 بفاعلية وبشكل لصيق مع زملاء دبلوماسيين روس في مجموعة الاتصال المعنية بمشكلة يوغوسلافيا.

نتيجة لذلك، خُفضت تدريجياً أصول دول حلف شمال الأطلسي العسكرية والاستخباراتية والدبلوماسية بمختلف أشكالها وأحجامها، علماً أن هذه الأصول كانت تشدد تركيزها سابقاً على موسكو ونواياها، أو حُوّلت إلى مشاكل أخرى بدا واضحاً أنها ملحة (مثل الإسلام السياسي المتطرف وغيره من التهديدات الإرهابية التي برزت عقب كارثة الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 ومن ثم حربي العراق وأفغانستان). بالإضافة إلى ذلك، شملت "مكاسب السلام" الأوسع تعزيز جهود المملكة المتحدة الخاصة بالتنمية الدولية خلال عهدي بلير وبراون على حساب العمل الدبلوماسي، فحصلت إدارة التنمية الدولية على مبالغ طائلة من المال لا مبرر لها، في حين خُفض عدد الملحقين بالسفارات والمسؤولين الدفاعيين في أوروبا أو خُفضت مكانتهم.  ولكن منذ تولي فلاديمير بوتين السلطة، ما انفك الإنفاق الدفاعي في روسيا يرتفع ويتسارع بلا هوادة، ولا شك أن الإنفاق الدفاعي الروسي ما زال أقل بكثير من مجموع ما تنفقه الولايات المتحدة، ولن يقترب من هذا المستوى في العقود المقبلة، هذا إن لم نقل مطلقاً. لا تستطيع روسيا بكل بساطة تكبُّد كلفة عالية إلى هذا الحد. فتتصرف بتهور اليوم بتخصيصها كماً من المال منافياً للمنطق لميزانياتها العسكرية، نظراً إلى بنيتها الصحية والاجتماعية المريعة، لكن روسيا باتت راهناً الدولة الأكثر إنفاقاً في مجال الدفاع في أوروبا، وهذا جلي.

عندما نلاحظ هذا الوضع المستجد ونقيم قدرة حلف شمال الأطلسي على مواجهة "المخاطر الروسية"، علينا أولاً أن نحدد ماهية هذه المخاطر وإلامَ ستؤول.

شملت المعاناة الوجودية التي واجهتها روسيا مع تفكك الاتحاد السوفياتي اضطرار 20 مليوناً ينتمون إلى الإثنية الروسية إلى العيش في دول أخرى (خصوصاً أوكرانيا، وكازاخستان، وروسيا البيضاء)، كذلك يقيم نحو مليون ناطق باللغة الروسية في إستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، ودول تشملها المادة الخامسة. وتعتمد سياسة روسيا تجاه أوكرانيا اليوم في جزء منها على القلق من أن يُرغَم ملايين آخرون من الأوكرانيين الناطقين بالروسية على الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي رغماً عنهم: لا أحد غير روسيا يدافع عن الروس المقيمين خارج الحدود الروسية. من الصعب تخيل وضع قررت فيه موسكو أن الهجوم العسكري الشامل على وسط أوروبا يشكّل فكرة ناجحة ومثمرة، ولكن ما القول في أمر أكثر ارتباطاً بحجة تؤكد "مصالح روسيا المشروعة"؟

لنتأمل في مثال نارفا، بلدة تاريخية معظم سكانها ناطقون بالروسية في شرق إستونيا تبعد نحو ساعتين بالسيارة عن سانت بطرسبرغ، أخفقَتْ عام 1991 محاولة محلية غير متقنة للانضمام إلى روسيا من خلال إعلان قيام "جمهورية بريناروفية"، ولكن ما العمل إذا أدت مطالبات متجددة بالاستقلال الذاتي إلى ظهور مجموعات مدججة بالسلاح تنادي بـ"الدفاع الذاتي" وترفض أي نوع من الحكم من تالين؟ وماذا إذا عبَر الجنود الروس ذات ليلة الحدود وادعوا أن نارفا أصبحت روسية؟ ماذا إن عرقل هجوم شامل عبر الإنترنت من مكان ما في سيبيريا محاولات الرد الإستونية وعطل كل ما يحتاج إلى الطاقة الكهربائية؟ في الوقت عينه، تغزو وسائل الإعلام الغربية عناصرُ يتقاضون المال من روسيا ويروحون يرددون أن هذه غلطة الغرب.

يكون حلف شمال الأطلسي قد تعرض لغزو مباشر، لكنه في النهاية غزو محدود، وهل تكترث أي دولة أخرى في حلف شمال الأطلسي بما إذا كانت بلدة صغيرة سكانها ناطقون بالروسية قد ضُمت إلى روسيا، أو يهتمون كفاية على الأقل ليخاطروا بمواجهة صراع أكثر شمولية؟

شدد الجواب عن كل هذه الأسئلة سابقاً (خصوصاً في موسكو) على أن من الأفضل تفادي اتخاذ خطوات مماثلة، فلا داعي للمخاطرة، إذ تتمتع روسيا اليوم بأراضٍ مترامية تبلغ مساحتها 17 مليون كيلومتر مربع تقريباً تمتد عبر إحدى عشرة منطقة زمنية من فنلندا إلى ألاسكا، ولا شك أن هذه مساحة كبيرة يصعب ضبطها والتحكم فيها، فلمَ ترغب روسيا في توسيعها؟ علاوة على ذلك، لا تستطيع روسيا أن تكون قوية من دون الانضمام إلى الاقتصاد العالمي، كشريك عادي على الأقل، وإذا كان الالتزام بالقواعد والواجبات التي ترافق الاقتصادي العصري تفرض عدم المساس بالحدود الدولية، فقد تبدو هذه في نظر موسكو صفقة جيدة لبضعة عقود في حين تحاول روسيا اللحاق بالركب العالمي بعد كارثة الشيوعية.

استخلص حلف شمال الأطلسي بدوره أن من الممكن خفض الجهود الدفاعية أو تخصيصها لمكان آخر، إن كانت روسيا ستتصرف بعقلانية، بالإضافة إلى ذلك بدا هذا الحلف مقتنعاً بأنه لا أحد عاقل في موسكو قد يرغب في استخدام القوة للمساس بالحدود مع أوروبا، خصوصاً أن ذلك يعني نسف التسوية السياسية والأخلاقية لما بعد الحرب الباردة التي عادت بالفائدة على الجميع، ولكن عندما بدأنا نشهد ذلك فعلاً، نشأ السؤال: ما السبيل إلى وقف الانحدار السريع والعودة إلى جنون ثلاثينيات القرن الماضي؟

لربما تتبدل حسابات موسكو، وتتبدل بسرعة أكبر مما يدركه حلف شمال الأطلسي، لربما يشعر فلاديمير بوتين بالاستياء بسبب الإخفاقات في أوكرانيا ويعتبر العقوبات الاقتصادية المتزايدة على روسيا (ومكافأة الواحد والخمسين مليار دولار الكبيرة ضد روسيا في محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي) إشارة إلى أنها بتصرفها بعدائية أكبر ما عادت ستواجه الخسائر الكبيرة ذاتها كما في السابق. لربما يستغل الرئيس الروسي أوكرانيا ليختبر أشكالاً جديدة من الصراع في ما بعد المرحلة العصرية، أشكالاً تتيح له اكتساب مناطق جديدة بأساليب يمكن إنكارها تشمل، إذا دعت الحاجة، زعزعة توازن حكومات دول حلف شمال الأطلسي باعتماد ألعاب حرب عبر الإنترنت من الصعب تتبعها أو تحديد معالمها، علاوة على ذلك، ما العمل إذا قرر بوتين أيضاً التخلي عن معاهدات أساسية للحد من انتشار الأسلحة؟

من الصعوبة بمكان الإجابة عن كل هذه الأسئلة بطريقة مدروسة وحازمة (أو حتى تحليلها بعقلانية، نظراً إلى تراجع قدرة الحكومة البريطانية التحليلية والدبلوماسية مع تعاقب الحكومات الأخيرة)، فتستلزم هذه العملية تحديد ما يريد فلاديمير بوتين تحقيقه شخصياً وطريقة تقييمه كلفة السياسات البديلة ومكاسبها، علاوة على ذلك، تتطلب هذه الخطوة الاستعداد لمواجهة موسكو، التي على غرار مجانين الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) الذين يدمرون العراق ويسارعون إلى عرض ما يرتكبونه من جرائم حرب على موقع يوتيوب، تبدو عاقدة العزم على نحو غريب على الفوز بكل ما يُتاح لها. لكن هذا يمثل مجالاً نفسياً غير مدروسة في شؤون العالم المعاصر، ورغم ذلك لا يخشى فلاديمير بوتين خوضه.

يذكّرني كل هذا برسم الكاريكاتير الشهير لثوربر في مجلة "نيويوركر" في ثلاثينيات القرن الماضي: من هتلر هذا؟ وماذا يريد؟

* التلغراف

back to top