للغربة أنواع

نشر في 05-07-2014
آخر تحديث 05-07-2014 | 00:01
 د. نجوى الشافعي لا يقتصر تعريف الغربة على وجود الإنسان على أرض غير وطنه وابتعاده عن الأهل والأصحاب والشجن لفراقهم والحنين الدائم إليهم، ولكن للغربة أنواع كثيرة وإن تصدرتها غربة المكان، فارتباط الإنسان بمكان مولده والأرض التي نما وترعرع عليها إحساس فطري تغذيه الأيام بمرورها على نفس البقعة من أرض الخليقة، وتغذيه الأحداث وما تحمله من الألم والأمل، ويدعمه الأهل والأصدقاء والأحباء وما يمثلونه من دراما حياتية يومية تحيط بالإنسان.

 كل ذلك يجمعه كل منا في صندوق سحري أعلى الجسم يسمى العقل أودعه الله أدق أسراره؛ ذاكرة مطيعة إذا استرجع منها الإنسان ما يريد في أي وقت فلا تبخل عليه بشريط حي يبعث إحساسا دافئا بالحنين والرغبة في رؤية المكان والأفراد؛ مما يعزز الانتماء والارتباط بأرض معينة وأناس بعينهم، ولكن ترى ما بال غربة الزمان وغربة الأهل والأوطان؛ ألا يشعر البعض بالغربة وسط أصدقائه وأقاربه حين يغيبون عنه بمشاعرهم ومشاركتهم إياه أفراحه وأحزانه؟ وحين ينشغل كل منهم بنفسه عن الآخرين فلا يتذكر بعضهم بعضا الإ قليلا؟

 وحينها يعتصر ألم الغربة قلب الإنسان رغم ما يحيط به من الأهل والصحاب، ألا تشعر الزوجة بالغربة عن زوجها إن هو اختلف عنها اختلافا بيناً في الرؤى والاهتمامات وانشغل بعمله وماله بعيداً عنها لا يجمعهما إلا الواجبات الزوجية؟ ألم تنف بعض الأوطان أبناءها وهم بداخلها فتقف أمام آمالهم وأحلامهم في إقامة بلد ينعم بالحرية والعدالة والمساواة وتصادر حريتهم في أقل التوقعات سوءاً وترفع درجة معاناتهم وربما آلامهم فيشعر الإنسان ساعتها بغربته الشديدة عن بلده ومجتمعه؟

أما عن غربة الزمان فتلك أشد وأقسى؛ وهي أن تشعر أنك لا تنتمي إلى زمانك الحالي الذي تعيش فيه وإنما ترتبط بزمان آخر بعيد مختلف في معطياته عن ذلك الذي يحيط بك: فبينما يمكنك التعامل مع غربة المكان بالعودة بين الحين والآخر إلى ذلك الذي تشتاق وتحن إليه وطنا وأهلا وأصحابا لا يمكن التعامل مع غربة الزمان إلا بالهروب منه؛ من الواقع المحيط بك والذي يفرض عليك قيما وسلوكا ومبادئ تختلف عما تؤمن وتعتنق اختلافا كبيراً والابتعاد عن سلوكيات يرفضها عقلك وينكرها قلبك؛ واقع أليم لا تستطيع التعايش مع سلبياته وما يسببه من جروح والآم نفسية... ثقافة العصر غريبة وسهولة الاتصال جعلت من العالم قرية صغيرة يتبادل أبناؤها كل شيء رديئه قبل جيده؛ أدناه قبل آعلاه؛ ما يحطم ويدمر أكثر مما يبني أو يعلي، تشعر كثيراً كأنما الأرض ومن عليها إنما يتسارعون إلى قدر محتوم يمتلئ بالكراهية والحروب والأنانية والافتتان بالذات، وكأنهم يحققون نبوءة الملائكة حين أخبرهم المولى عز وجل بأنه "جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ". سبحان الله العظيم.

back to top