توتة توتة وما فرغتش الحدوتة

نشر في 19-11-2013
آخر تحديث 19-11-2013 | 13:01
 باسم يوسف تمتاز القصص الخيالية بأنها تنتهي نهايات سعيدة مرضية لجميع الأشخاص، ففي النهاية نقول لأطفالنا "توتة توتة فرغت الحدوتة"، و"عاشوا في تبات ونبات وخلفوا صبيان وبنات".

هكذا تنتهي كل القصص السعيدة من أول الجمال النائم إلى سنووايت والأقزام السبعة.

لكن الحقيقة أن معظم قصص الأطفال كتبها مؤلفوها بطرق أكثر واقعية وسوداوية، فالصراع بين الخير والشر في هذه القصص أعمق بكثير من مجرد قبلة حالمة على شفاه أميرة تستيقظ بعدها من نومها المسحور، وأكثر تعقيداً من سبعة أقزام يتراقصون حول سنووايت وعريسها في مشهد النهاية.

لكن على مدى العقود الماضية تمت إعادة إنتاج هذه القصص لتكون أكثر جمالاً وسعادة، وأقل تعقيداً ليتقبلها الأطفال وآباؤهم.

لا يحدث ذلك في قصص الأطفال فقط ولكن أيضاً حين تسترجع الأمم تاريخها، أو بمعنى أدق إعادة كتابة تاريخها، فإذا كانت هذه الأمة واثقة من نفسها ولا تجد حرجاً في الاعتراف بأخطاء الماضي تجد أن تعاملها مع التاريخ "شيك جداً"، فالأخطاء موجودة أمامك، ولا شيء يمكن اعتباره مقدساً، بل تشجع هذه الدول طلابها في المدارس على كتابة آرائهم ونقدهم في "الثوابت" التاريخية لهذه الأمة.

"ثوابت"؟ أنت قلت ثوابت؟

أنا آسف، فكلمة ثوابت خاصة حين تقرن بأحداث التاريخ موجودة فقط في عالمنا العربي والإسلامي السعيد، فالتاريخ عندنا ملفوف في كفن ومقفول عليه في تابوت ومدفون في الأرض تحت طن من التراب، والويل كل الويل لمن يحاول إعادة النظر أو إعادة القراءة في هذه الثوابت.

المؤرخ الدكتور يوسف زيدان تحمّل هجوماً شديداً، ليس فقط بسبب رواية عزازيل، بل لأنه حاول أن يتخذ المنهج العلمي وسيلة لإعادة قراءة تاريخنا، وذلك بحكم عمله كمؤسس لقسم ومتحف الوثائق والمخطوطات في مكتبة الإسكندرية.

وقد رصد الدكتور زيدان في كتابه "متاهات الوهم" العديد من المغالطات التاريخية، منها مثلاً هذه القصة العظيمة التي درسناها في المدرسة عن أن مصر حمت العالم من غزو التتار، وأنها أوقفت الجيوش الجرارة التي اجتاحت آسيا الصغرى وبغداد والشام، ولكن ما لا نعرفه أن الجيش الأصلي بقيادة هولاكو، الذي يقدر عدده بمئة وعشرين ألف جندي، بعد أن دمّر بغداد، عاد إلى بلاد المغول بسبب صراعات مع قبائل منافسة، حيث انهزم هولاكو هناك على يد "بركة خان"، وأن ما تبقى من المغول لمواجهة الجيش المصري في عين جالوت هو جزء صغير لا يزيد على ثمانية عشر ألف جندي.

ولكن لا بأس، يمكنك أن تكذّب الوثائق والمؤرخين ويوسف زيدان، وتصدق فيلم "وإسلاماه".

من الثوابت التي تربينا عليها أيضاً جمال وقوة وعظمة الخلافة الإسلامية.

 والحقيقة أنه لا أحد يستطيع أن ينكر أثر الدولة الإسلامية في التاريخ وما أضافته إلى التراث البشري.

ولكن ما يستفزك أن يأتي من احترفوا التكفير والتضييق على خلق الله ليغسلوا عقول الشباب، فيحاولون أن يقنعوهم أن هوان الأمة الإسلامية الآن سببه أننا ابتعدنا عن الدين، وأن الحل لاستعادة العزة والكرامة و"أستاذية العالم" أن نحيي الخلافة الإسلامية لنتبوأ مكاننا بين الأمم.

الغريب أن أصحاب هذه الدعاوى لا يتفاخرون أمامك فقط بالإمبراطورية المترامية الأطراف التي قامت عليها الخلافة الإسلامية، ولكنهم أيضاً يذكرونك بمآثر علماء العرب والمسلمين، ويصرون على ربط الإسلام كدين ودولة بالتقدم العلمي في ذلك الوقت، لذلك يجب أن نحيي الخلافة لنستطيع أن ننافس الغرب الفاجر البعيد عن الدين، وتوتة توتة دي قصة الخلافة.

لكن هذه ليست قصة لسنووايت وزواجها السعيد، بل هذه قصة سنووايت بعد ما اتجوزت وخلفت ورفعت على جوزها دعوى نفقة وردحوا لبعض في المحاكم.

فالقشرة الخارجية البراقة للخلافة الإسلامية كراع للعلوم والفنون (زي مبارك كده)، هي قشرة هشة وكاذبة.

فمعظم العلماء المسلمين تم تكفيرهم وإصدار فتاوى بحقهم بإخراجهم من الملة.

ربما نتذكر مشهد نور الشريف وهو يلقي بتحد أحد كتبه في النار، مجسداً ابن رشد الذي اضطهد لأفكاره الفلسفية، وذلك في فيلم المصير، لكن قول يا سيدي إنه فيلسوف وعايز الحرق لأفكاره الفلسفية التي يمكن أن يعتبرها البعض معادية للدين، لكن ماذا عن ابن سينا وهو العلامة في الطب، والخوارزمي، وجابر بن حيان، وابن المقفع، والجاحظ، والرازي، والكندي، وابن الهيثم، وأبوالعلاء المعري حتى ابن بطوطة؟، كل هؤلاء كانوا علماء نوابغ في الطب والهندسة والرياضة والشعر والأدب وغيرها من مجالات الفنون.

أليس هؤلاء من نفاخر بهم الأمم ونقول إنهم نتاج الحضارة الإسلامية؟، ولذلك يجب أن نبدأ الآن في تطبيق الشريعة لنعيد مجد الخلافة.

ولكنهم لا يقولون لك إن كل هؤلاء تم تكفيرهم وحبسهم، بل قتل بعضهم باستخدام نفس الحل السحري "تطبيق الشريعة" وتحت ظل الخلافة.

هناك قصص رهيبة متعلقة بهؤلاء العلماء لا يتسع مقال واحد لسردها، ولكن وقائع التكفير واتهامات الزندقة، بل التعذيب والقتل تعطيك صورة مختلفة تماماً عن نهاية "التبات والنبات المتوقعة في النهاية".

الخلافة الإسلامية لها مكانتها في التاريخ، ولا يستطيع أحد أن يحط من قدرها ولا من إسهاماتها في تاريخ الإنسانية، ولكن أن يأتي بعض الناس ويربط بين الإسلام كرسالة روحية وبين الخلافة كإمبراطورية براجماتية فيها ما فيها من أخطاء بشرية، ثم يأتي إليك بكل ثقة ليقول إن الشريعة والخلافة هما الحل، بل يستخدم نفس العلماء الذين تعذبوا في ظلهما كدليل على صحة حجتهم، فهذا هو التدليس بعينه.

إن الذاكرة الانتقائية للإسلاميين تضعني دائماً في حيرة، فهم يروجون لدخول الدين في السياسة، ويتجاهلون المآسي التي نتجت عن ذلك، فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاتلوا بل قُتل أهل بيته وهم كانوا أقرب الناس إلى مصدر النبوة، فلم ينفعهم علمهم ولا ورعهم، وأكثر الناس صلاة وسجوداً كانوا خوارج فتنوا الناس في دينهم، وقتلوا علي بن أبي طالب، ووقف على رأسه مكبراً

عبدالرحمن بن ملجم وهو يتفاخر بـ"إنما الحكم لله".

مثلما هناك قصص نفخر بها في تراثنا الإسلامي كحضارة أثرت في العالم، هناك أيضاً العديد من القصص والحوادث التي لا نستطيع أن نتجاهلها، والتي تدل على بعد الكثير من الخلفاء عن جوهر الدين وعلى أن أكثر الناس ضرراً بمبادئ الدين كانوا هم أكثرهم ورعاً، وأن أكثر من يتظاهر بالورع وتمسكه بالدين الآن ينادي برجوع زمن كفر العلماء وإخراجهم من الملة ولكنه يتجاهل ذلك، ويقوم هؤلاء بمحاولة بيع قصة خيالية مليئة بالتبات والنبات، ليقنعك أن ازدهار العلوم جاء تحت غطاء الخلفاء والمشايخ، في حين أن كل ما يفكرون فيه هو إنتاج نفس النظام التكفيري لتكون أنت ضحيته في النهاية.

التاريخ ليس مقدساً، وأحداثه ملك لنا جميعاً، وجزء كبير من أسباب غيبوبة هذه الأمة عدم قدرة أبنائها على نقد التاريخ وتحليله والتعلم من أخطائنا في السابق، ولذلك فنحن أمة تنفرد بتكرار نفس أخطائها، ثم نندهش لماذا نقبع في قاع التاريخ والجغرافيا والحاضر والمستقبل؟

أعلم أنه سيخرج بعض المتشنجين الذين سيعتبرون هذا الكلام كفراً بـ"الثوابت" ولكنني أعذرهم هذه المرة، فهم أنفسهم من يعتبرون التفكير نقمة والتساؤل ذنباً عظيماً، هم يريدون فقط قصة سعيدة ونظيفة بلا تعقيدات وتنتهي بهذه الكلمات السحرية "توتة توتة وفرغت الحدوتة".

ينشر باتفاق خاص مع «الشروق» المصرية

back to top