تتعلم بسرعة في غزة

نشر في 07-08-2014
آخر تحديث 07-08-2014 | 00:01
 ذي تيليغراف ظننت أن الطائرات بدون طيار القاتلة صامتةٌ وغير مرئية، إلى أن أحصيت سبعة من هذه الأشياء الفضية وهي تحوم في سماء الصيف الصافية فوق رأسي، كانت تئز كما لو أنها سرب نحل غاضب... إذا كنت تظن أن لكل البنادق الصوت ذاته وأن الانفجارات متشابهة فلا شك أنك ستتعلم الكثير من سيمفونية الحرب المتواصلة في غزة، فسرعان ما تتمكن من التمييز بين دوي قذائف السفن الحربية القوي والمتقطع وأصوات راجمات الصواريخ العميقة والمنتظمة. ستدرك أن أفلام هوليوود مخطئة وأن القذائف لا تصفر حين تسقط، وأنك نادراً ما ترى أو تسمع الطائرة الحربية التي تدمر المبنى في الشارع المجاور، فتظن بادئ الأمر أن هذا الانفجار الذي يهز كيانك وسحابة الدخان الأسود الصغيرة التي تليه أتيا من حيث لا تدري، ولكن بعد أن تمضي بضعة أيام في غزة، لا تعود الأمور الخارجة عن المألوف تفاجئك، فتتناول الطعام في الخارج على أصوات دوي الانفجارات، وسرعان ما تتعلم أن تتجاهل معظم أصوات الانفجارات القوية، تماماً كما يعتاد مَن يقطن قرب شارع دائم الحركة أصوات السيارات. ولكن ماذا لو كان كل انفجار مدوياً؟ حدث ذلك حين تعرضت مدينة غزة لقصف متواصل مدوٍّ يصمّ الآذان ويعصر القلب ويهز الجدران من منتصف الليل حتى الخامسة والنصف صباحاً، فخلال تلك الساعات أدركتُ ما عانته مدينة لندن على الأرجح خلال القصف النازي.

لكن الأهم أنك تتعلم أن الصراع في غزة مختلف من حيث الأساس، فهو أكثر حدة وقتلاً للنفوس وأكثر خطورة للإنسان العادي، مقارنةً بأي صراع آخر حول العالم. لمَ؟ أولاً لأن غزة تشكّل الدليل الأول على مقولة "يمكنك الهرب، لكنك لا تستطيع الاختباء"، ففي حروب أخرى احتميتُ، ويسارع المدنيون الذين يجدون نفسهم وسط معركة إلى حمل ما يستطيعون والانتقال، فيرحلون إلى مكان آمن، مسافرين بعيداً عن مناطق الخطر. في شهر يناير الماضي كنت في جنوب السودان مع بداية الحرب الأهلية في ذلك البلد، وعندما تعرضت بلدة بور للحصار والقصف عبَرَ معظم الناس إلى ضفة النيل الأبيض البعيدة، حيث أقاموا مخيماً كبيراً للاجئين.

كانت هذه الرحلة خطرة والظروف التي واجهوها مريعة، لكنهم شعروا على الأقل بالأمان حين وصلوا إلى وجهتهم، فمع بلوغ اللاجئين الضفة الغربية من النهر، كانت أصوات المدفعية البعيدة وحدها تذكرهم بالمخاطر التي هربوا منها. لكنّ الـ1.8 مليون شخص المقيمين في غزة لا يملكون خياراً مماثلاً، فلا يتعدى طول عالمهم الخمسة والعشرين ميلاً، وعرضه السبعة أميال كحد أقصى، وقد تعرضت كل بقعة في هذه المساحة الصغيرة للهجوم، فبسبب الحصار الجزئي الذي تفرضه إسرائيل ومصر على هذا القطاع، لا يستطيع أهل غزة الرحيل، إذاً، لا مجال أمامهم للهرب، وأفضل ما تستطيع العائلات فعله الاحتماء في أقرب منشأة تابعة للأمم المتحدة (تكون مدرسة عادةً)، معللين النفس بالخير. خلال الاثني عشر يوماً التي قضيتها في غزة كان عدد مَن تهجروا إلى هذه المنشآت يزداد بلا هوادة، وعندما وصلت إلى هذا القطاع كان نحو 30 ألف لاجئ يقيمون في منشآت تابعة للأمم المتحدة، ولكن بحلول يوم الجمعة كان العدد قد ارتفع إلى 240 ألفاً، أي نحو 13% من مجموع سكان القطاع، هذا إذا لم نأخذ في الاعتبار مئات الأشخاص الذين ينامون في العراء خارج مستشفى الشفاء في مدينة غزة، وعشرات الآلاف الذين انتقلوا للعيش في منازل أقاربهم. لنتأمل في واقع آخر: لم يتجاوز نحو نصف سكان غزة الثامنة عشرة من عمرهم؛ لذلك من المستحيل خوض قتال في هذا القطاع من دون تشويه، وقتل، وتهجير، وتعذيب أعداد كبيرة من الأولاد، فلا تُشنّ هذه الحملة في صحراء خالية أو جبال أو سهول مهجورة (انسوا حرب العراق أو أفغانستان). تدور رحى هذه الحرب في أزقة ضيقة مليئة بالأطفال والعائلات.

لذلك عندما ترسل إسرائيل جنودها ودباباتها إلى غزة علينا أن نفهم ما يعنيه ذلك، أولاً، يتلقى سكان المناطق المستهدفة إنذاراً بالرحيل عبر بريد صوتي أو رسالة نصية أو أوراق ترمى من السماء، فصادف أنني وصلت قبل بضع ساعات من بدء الغزو البري، وكان نحو مئة ألف شخص من سكان بيت حانون وبيت لاهيا الواقعتين وسط خط التقدم، الذي نوت إسرائيل اعتماده، يتلقون تحذيرات مماثلة. تعلن إسرائيل أن سلامة الناس من أولوياتها: فلا يستطيع جنودها محاربة "حماس" من دون قتل المزيد من المدنيين إلا بإفراغ المناطق من قاطنيها، تقدّم هذه التحذيرات أيضاً تطمينات واضحة تؤكد أن بإمكان الجميع العودة عند انتهاء العملية. لا أشكك في جدية الحجة الإسرائيلية وأتفهم المعضلة التي يواجهها قادتها في ساحة القتال، لكني أود تقديم ثلاث ملاحظات فحسب:

أولاً، يشمل أمر الإخلاء اليوم الجميع داخل المنطقة العازلة التي تسيطر عليها إسرائيل والتي تمتد على مسافة ميلين على طول حدود غزة الشمالية والشرقية. نتيجة لذلك، تعادل المنطقة التي أُخليت نحو 44% من مساحة كامل القطاع، ما يعني أن نحو نصف غزة أخلي عمداً، وإن مؤقتاً، من قاطنيه.

ثانياً، برهنت الأحداث الحقيقة المرة: ما من مكان آمن، فقد استهدفت القوات الإسرائيلية مرتَين مدارس تابعة للأمم المتحدة تضم مهجرين: ففي جباليا يوم الأربعاء الماضي قتل الإسرائيليون ما لا يقل عن 16 شخصاً، بينهم أولاد كانوا نياماً.

ثالثاً، إذا نفذت إسرائيل تهديدها ووسعت العملية البرية وأرسلت جنودها ودباباتها إلى عمق غزة فسيُضطر المزيد من الفلسطينيين إلى ترك منازلهم. لنفترض أن إسرائيل قررت توسيع المنطقة الخاضعة للسيطرة العسكرية من 44% إلى 50%، مثلاً، أو 60%، فسيشكل عندئذٍ كل شارع أو حي تدخله القوات الإسرائيلية آلافاً إضافية من اللاجئين.

إلى أين سيذهبون؟ باتت كل مدرسة تابعة للأمم المتحدة مكتظة باللاجئين، أما النظام غير المتقن المتبع لإيواء اللاجئين فأضحى، وفق المتحدث المحلي باسم الأمم المتحدة كريس غانيس، "منهكاً" و"يكاد ينهار".

لا تنخدع: إذا واصلت إسرائيل تصعيدها هذه العملية، فسيُرغم شعب غزة على التجمع والاحتشاد في جيوب أكثر تقلصاً وقذارةً يفترض أنها آمنة.

ولكن ما القضية التي قد تبرر معاناة مماثلة؟ يوصلنا هذا إلى السبب الثاني الذي يميز مأساة غزة عن مثيلاتها. حتى وفق معايير تصنيف الحروب المختلفة عبر العصور تُعتبر هذه المعركة عبثية بكل معنى الكلمة.

لا تقاتل إسرائيل من جهتها بهدف تدمير حركة حماس أو حل المشكلة الإنسانية والأمنية التي تمثلها غزة، كلا، تهدف من حملتها هذه إلى معاقبة هذه الحركة الإسلامية المتطرفة بسبب إطلاقها الصواريخ على المدن الإسرائيلية، وتدمير الأنفاق، وتأخير اللحظة (ركزوا على كلمة "تأخير") التي تستأنف فيها حماس إطلاق الصواريخ. إذاً، غاية هذا الصراع ليست النصر، بل تحقيق تقدّم تكتيكي في حملة تتوقع إسرائيل تكرارها مرات عدة إلى أجل غير مسمى. وماذا عن "حماس"؟ لا تسعى من خلال الصواريخ التي تطلقها إلى حل مشكلة، بل تحقيق عزاء نفسي، فخلال تناولي الطعام في أحد المنازل الفلسطينية الأسبوع الماضي، طغت أصوات مرور صواريخ "حماس" بجانبنا مؤقتاً على دوي المدفعية الإسرائيلية، فارتفعت في الشارع أصوات التهليل والتصفير ابتهاجاً، فتساءلتُ عن سبب هذه الفرحة، ألم تكن الصواريخ السبب الأول وراء هذه الكارثة في غزة؟

قيل لي إنني لا أفهم، لا تجرؤ الدول العربية على رمي إسرائيل بطابة كرة مضرب، لكن غزة الصغيرة، الفقيرة، والمحاصرة تستطيع إطلاق مئة صاروخ يومياً، لا بأس إن كانت "القبة الحديدية" الإسرائيلية تحد من الضرر الذي تسببه، يبقى الأهم واقع أنها تُطلق في الأساس.

لا بد من أن أشير إلى أن مضيفيّ رفضوا وجهة النظر هذه، فالفلسطينيون يعيشون كابوساً متحلّين بالكثير من الشجاعة والصمود، فرغم حرمانهم وخوفهم يرحبون بالزوار بحفاوة وكرم، لكنهم يجدون أنفسهم عالقين في دوامة من العذاب، دوامة لا تبدو نهايتها وشيكة.

* ديفيد بلير

back to top