ثلاثة محاور للأزمة الأوكرانية

نشر في 05-02-2014
آخر تحديث 05-02-2014 | 00:01
No Image Caption
قدم يانوكوفيتش حتى اليوم تنازلات كبيرة للمتظاهرين: التخلي عن رئيس الوزراء، ودعوة قادة المعارضة للانضمام إلى الحكومة، والتخلي عن القوانين المناهضة للتظاهر... سنرى قريباً ما إذا كانت هذه الخطوات ستُهدئ الاضطرابات أو تؤججها.
 Seumas Milne شهدنا وضعاً مماثلاً من قبل، فخلال الأشهر القليلة الماضية، تناولت شتى وسائل الإعلام التظاهرات في شوارع أوكرانيا وفق سيناريو محدد بدقة، فها هم أنصار الديمقراطية يناضلون ضد حكومة مستبدة، فيُطالب المتظاهرون بحق أن يكونوا جزءاً من الاتحاد الأوروبي، لكن الرئيس الروسي عرقل فرصة تمتعهم بالحرية والازدهار.

سمعنا هذه القصة مرات عدة بشكل أو بآخر، خصوصا خلال الثورة البرتقالية الأوكرانية التي دعمها الغرب قبل نحو عقد من الزمن، لكنها لا تحمل سوى صلة بسيطة بالواقع، فعلى غرار مصر السنة الماضية، فاز الرئيس، الذي يريد المتظاهرون إرغامه على التنحي، في انتخابات اعتبرها المراقبون الدوليون نزيهة، فضلاً عن أن كثيرين ممن نزلوا إلى الشوارع لا يعلقون أهمية كبيرة على الديمقراطية.

لن تكتشف من معظم التقارير الإخبارية أن القوميين اليمينيين المتطرفين والفاشيين يؤدون دوراً كبيراً في التظاهرات والاعتداءات على المباني الحكومية، فمن بين أحزاب المعارضة الثلاثة التي تقود هذه الحملة حزب "سفوبودا" اليميني المتطرف المعادي للسامية، الذي يدعي قائده أوليغ تيانيبوك أن "المافيا اليهودية في موسكو" تتحكم في أوكرانيا، لكن السيناتور الأميركي جون ماكين سُر بمشاركته المنبر ذاته في كييف الشهر الماضي. يسيطر هذا الحزب اليوم على مدينة لفيف، وقد قاد مسيرة من 15 ألف شخص حملوا مشاعل في مطلع هذا الشهر، إحياء لذكرى القائد الأوكراني الفاشي ستيبان بانديرا، الذي قاتلت قواته إلى جانب النازيين في الحرب العالمية الثانية وشاركت في قتل اليهود.

إذاً، في الأسبوع الذي اختير فيه يوم تحرير الجيش الأحمر لمعسكر "أوشفيتز" يوماً لإحياء ذكرى المحرقة النازية، كان القادة الغربيون يهللون في شوارع أوكرانيا لداعمي مَن ساهموا في تنفيذ هذه الإبادة، لكن حزب "سفوبودا" هُمش اليوم في التظاهرات من مجموعات أكثر تطرفاً، مثل حركة "القطاع اليميني" التي تُطالب "بثورة قومية" وتهدد "بحرب ميليشيات طويلة".

يبدو أن هذه الحركات لا تأبه كثيرا بالاتحاد الأوروبي، الذي كان يحض أوكرانيا على توقيع اتفاق شراكة، مقدماً القروض مقابل التقشف كجزء من حملة تقودها ألمانيا لفتح أوكرانيا أمام الشركات الغربية. فقد اشتعلت هذه التظاهرات بسبب تخلي فيكتور يانوكوفيتش عن خيار الاتحاد الأوروبي، علماً أن بوتين عرض على أوكرانيا بعد ذلك عملية إنقاذ بقيمة 15 مليار دولار.

لكن الأوكرانيين منقسمون بشكل حاد بشأن الاندماج الأوروبي والتظاهرات على حد سواء، ويظهر هذا الانقسام على طول المحور الفاصل بين الجنوب والشرق الناطقَين عموماً باللغة الروسية (حيث ما زال الحزب الشيوعي يتمتع بدعم كبير) وأوكرانيا الغربية الوطنية بطبيعتها، فالصناعة في الشرق تعتمد على الأسواق الروسية، وقد تسحقها منافسة الاتحاد الأوروبي.

يحاول الغرب استغلال هذا الانقسام التاريخي في قلب أوكرانيا بهدف الحد من النفوذ الروسي منذ تسعينيات القرن الماضي، خصوصاً مع المحاولة المكثفة لضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي. حتى إن قادة الثورة البرتقالية شُجعوا على إرسال جنود أوكرانيين إلى العراق وأفغانستان كحافز إضافي.

اصطدم توسع حلف شمال الأطلسي شرقاً بالحرب الجورجية عام 2008 وانتخاب يانوكوفيش لاحقاً على أساس برنامج يشدد على عدم الانحياز، لكن أي شكوك حول ارتباط جهود الاتحاد الأوروبي لاستمالة أوكرانيا ارتباطاً وثيقاً بالاستراتيجية العسكرية الغربية تبددت أخيراً مع إعلان الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، أندريس فوغ راسموسن، أن الاتفاق الذي لم يُنجَز مع أوكرانيا كان سيشكل "دعماً كبيراً للأمن الأوروبي-الأطلسي". ولا شك أن هذا يبرر تشدد جون كيري ووليام هيغ في إدانتهما العنف السياسي الأوكراني (الذي أدى إلى مقتل عديدين)، معربين في الوقت عينه عن ضبط نفس مدروس بشأن مقتل آلاف المتظاهرين في مصر منذ الانقلاب الأخير.

لا يعني ذلك أن يانوكوفيتش سياسي تقدمي، فقد حظي بدعم كامل من الأقلية الثرية التي سيطرت على الموارد وخصخصت الشركات عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، ممولة في الوقت عينه سياسيي المعارضة والمتظاهرين، ويمكن إرجاع مشاكل الرئيس الأوكراني إلى أن هذه الأقلية سئمت تقديم الخدمات إلى مجموعة عليا تُعرف بـ"العائلة".

دفع الغضب من هذا الفساد وانعدام المساواة البشعين، وركود الاقتصاد الأوكراني، والفقر الكثير من المواطنين الأوكرانيين العاديين، إلى الانضمام إلى التظاهرات، فضلاً عن الاستياء من عنف رجال الشرطة. على غرار روسيا، رزحت أوكرانيا تحت صدمة نيوليبرالية وعملية خصخصة ضخمة تلتا الحقبة السوفياتية. نتيجة لذلك، ضاع أكثر من نصف مدخول أوكرانيا الوطني في غضون خمس سنوات، ولم يتعافَ بالكامل بعد.

علاوة على ذلك، لا تقدم المعارضة الرئيسة وقادة التظاهرات أي بديل حقيقي، ولا تشكل بالتأكيد تحديا للأقلية الثرية التي تُحكِم قبضتها على أوكرانيا. في المقابل، قدم يانوكوفيتش حتى اليوم تنازلات كبيرة للمتظاهرين: التخلي عن رئيس الوزراء، ودعوة قادة المعارضة إلى الانضمام إلى الحكومة، والتخلي عن القوانين المناهضة للتظاهر التي سنها في مطلع هذا الشهر.

سنرى قريباً ما إذا كانت هذه الخطوات ستُهدئ الاضطرابات أو تؤججها، لكن خطر انتشار الصراع (حذر القادة السياسيون البارزون من حرب أهلية) ما زال كبيراً، وثمة خطوات أخرى يمكن اتخاذها لنزع فتيل هذه الأزمة: إنشاء حكومة ائتلافية شاملة، وإجراء استفتاء حول العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، والانتقال من نظام رئاسي إلى برلماني، واستقلال إقليمي أكبر.

لن تقتصر أسباب تفكك أوكرانيا على الشأن الأوكراني، فبالإضافة إلى بروز تحدي الصين للهيمنة الأميركية في شرق آسيا، يُحتمل أن يجذب هذا الانقسام الأوكراني قوى خارجية ويؤدي إلى صدام استراتيجي، لكن الأوكرانيين وحدهم يستطيعون التغلب على هذه الأزمة، في حين أن استمرار التدخل الخارجي سيكون بالغ الخطورة، ومفاقما التدهور الحالي.

back to top