الشاعر رشيد المومني: الشعر المغربي يعوزه المواكبة النقدية

نشر في 19-08-2014 | 00:01
آخر تحديث 19-08-2014 | 00:01
No Image Caption
الشاعر رشيد المومني أحد الأسماء المتفردة في المشهد الشعري المغربي الحديث ينتمي إلى جيل السبعينيات الأدبي وهو جيل تميز بتحديثه للقصيدة المغربية وإعادة تأسيسها على أرضية مغايرة للأجيال السابقة، خاصة جيل الستينيات، تأسيس تعزز بالانفتاح على المدونة الشعرية العالمية، إلى جانب تفاعله وتقاطعه مع النماذج المتقدمة في مدونة الشعر العربي الحديث.

كيف ترى كشاعر مسارك الأدبي؟       

 

أجدني على ضوء هذا السؤال منقاداً إلى إغراء أناني، كي يتأمل بنرجسيته المعهودة صورته المرتعشة في قلب ماء كتابته، بمعنى أنني سأشرع في تعميق تلك الهاوية المتسعة بيني وبين ظلال الآخر/ الآخرين، حتى تزداد حقيقة أو وهم مغايرتي تضخماً، لا أدري، ما دام الأمر يتعلق بوصف مسار شعرية هي شعريتي أنا، والذي هو بالتأكيد، مسار جسد لغوي مصاب بلعنة شعرية يقظاته المضاعفة، تلك التي تلغي أي حلم محتمل بالاطمئنان إلى ما يحدث هناك، سواء داخل عتمات الكتابة، أو داخل عتمات التاريخ. أقول ما أقول، من دون أن أنشغل بهذا السؤال الذي قد يؤدي حضوره إلى إفساد ملامح الصورة في ماء ما أكتب، ما يكتبه الشعراء عموماً، ما دامت الكتابة أساساً موكولة لمعاول الهدم، إذ إن يتعلق المرء بأربعة عقود خلت من الحفر بالحرف في حديد الكتابة الساخن، حديد واحد في جوهره، ومتعدد في تجلياته، الحديد الذي تضعه بعناية فائقة مسوخ الوقت أو ملائكته تحت قدميك، وذلك الذي قد نضعه نحن بمحض إرادتنا، حيث لا خيار لنا سوى أن نكتب أو نفنى، ما دامت الكتابة هي الوجه الآخر للديمومة، أليس كذلك؟    

                      

ما هي هوية هذه العقود الأربعة التي عشت فيها وخلالها تجربة الكتابة الشعرية؟   

أربعة عقود تناسلت فيها الحروب والهدنات بأساليبها الأنيقة والرديئة كافة، أشكال الانتصارات والهزائم، مدارج الأفراح والخيبات داخل النص، كما خارجه. أكثر من أربعة عقود، لم أكف خلالها عن محاولة التساؤل عن دلالة انحيازي الدائم إلى قصيدة النثر منذ مجموعتي الأولى {حينما يورق الجسد 1973 { وحتى الآن حيث أذن الإنصات مختومة بشمع إيقاعات الأزمنة البائدة. كذلك أتساءل عن دلالات مراوحتي بين القصيدة التركيبية ذات الهندسة المتاهية، وبين كتابة قصائد شذرية بالكاد تراها العين المجردة، معنى أن أكون شاعر قضية ما أو شاعر العدم، معنى أن أراوح بين الشعر والتشكيل، حاملاً لوحاتي بحثاً عن جدار منسي أعلقها عليه، معنى أن تترجم قصائدي إلى لغات عدة، من دون أن أُقرأ هنا بما فيه الكفاية، ثم معنى أن أكون في هذا الزمن الكوني المسيج بالنار الإلكترونية، شاعراً مغربياً يكتب بلغة يسمونها لغة الضاد.

في السياق نفسه، هل لك أن تحدثنا عن المشهد الشعري المغربي الراهن؟

أجدني جد متهيب من الخوض في مثل هذه القضايا التي تعودنا على استسهالها من قِبل نسبة كبيرة من المقاربات، بما يسهم في تحجيمها واختزالها إلى مقولات ومعادلات مسكوكة ومغلوطة، ذلك أن أي حديث موضوعي ومسؤول عن خصائص الشعر المغربي الحديث في استمراريته وقطائعه، سيظل مبتوراً ما لم يكن موثقاً بالشواهد والإحالات النصية والمنهجية التي يمكن أن تضيء المشهد، بدل أن يؤدي غيابها إلى مضاعفة حدة تعتيمه والتباسه. تحضرني في هذا السياق نقاشات حادة كثيرة سادت مرحلة السبعينيات حول الموضوع نفسه، إذ مباشرة بعد القراءات الشعرية ولعدد هائل من النصوص التي لا رابطة بينها سوى خير المنصة وإحسان المكروفون، كانت الأحكام المرتجلة تنصب بشكل جزافي وإسقاطي، على أساس إنصات مشكوك في سلامته. والغريب في الأمر أن هذه الأحكام العشوائية، كانت تتحول تدريجياً بفعل تكرارها إلى سلطة نقدية أسهمت بشكل هجين في تكريس مغالطات منهجية، أثرت ولا تزال، في قراءة مكونات المشهد الشعري المغربي، سأؤكد بأن الخوض في هذا السؤال الإشكالي، قد يفضي بنا إلى متاهة الأحكام العامة، والسقوط في شرك إعادة إنتاج الأحكام الهجينة نفسها وإن بصيغ مختلفة، وتلافياً لذلك، هل هو الذي يقتصر اهتمامه على جيل أو تجربة محددة داخل هذا الجيل؟ أم ذاك الذي يقارب الشعر المغربي في شموليته؟ ثم أين تتحقق إمكانية البحث عن هذه القصيدة التي نحن في صددها؟ هل في الدواوين المطبوعة؟ هل في الملاحق الثقافية المنتمية؟ هل في الصحافة المستقلة؟ أم في المجلات المغربية؟ أم نحن أيضاً مطالبون بالبحث عنها في الملاحق والمجلات العربية؟ من دون إغفال مواقع الشعر المتناسلة في الشبكة العنكبوتية، كذلك الأنطلوجيات الصادرة بالعربية وبغيرها من لغات أجنبية؟ أم أننا سوف نقتصر على مقاربة هذه القصيدة من خلال نماذج تمثيلية سيظل باستمرار اختيارها مثار شك وريبة وتساؤل. باختصار شديد ومن منطلق هذا القلق الكبير والمسؤول، سأكتفي بالقول إن المشهد الشعري في المغرب يتميز راهناً بديناميكية قوية، تفتقر إلى مواكبة نقدية مؤهلة لإبراز هويتها وخصوصيتها.

دعنا نعيد طرح السؤال من حيث انتهيت، أي من منطلق الديناميكية، ما المقصود بهذا المفهوم في سياق الحديث عن القصيدة المغربية؟

المقصود بالديناميكية، هو الإطار الجديد الذي أمسى الشعر المغربي يشتغل ضمنه في العقود الأخيرة، بصرف النظر عن انتمائه إلى هذا الجيل الشعري أو ذاك، وهو إطار معزز بأسئلته الصغيرة والكبيرة التي تتميز بتعددها وتنوعها بحثاً عن مشروعية كتابة ما، أسئلة تنسحب على خصوصية المدونة اللغوية للقصيدة، وآلية انفتاحها على مدونات لغوية أخرى جديدة ومغايرة، كذلك تنسحب على محاولة استيعاب الدلالات المتحولة لعنف النص في علاقته بعنف المعيش، أسئلة ذات أبعاد إشكالية من قبيل، هل للقصيدة أن تحمي ذاتها من عنف التحولات المعيشية بتعدد مستوياتها الرمزية والمادية، بممارسة مزيد من الانكفاء والعزلة؟ أم أنها مكرهة على التموضع داخل هذا العنف؟ وبالتالي ما هي طبيعة المسافة التي يمكن أن تحتفظ بها القصيدة بينها وبين عنف الواقع الخارجي؟ أو بتعبير آخر، كيف يمكن أن يتقاطع مسار القول الشعري بمسارات التحولات والرجات الجارية خارجه، بأبعادها السياسية والثقافية والحضارية؟ من دون إغفال سؤال التخلص من الجغرافيا المحكمة الإغلاق، والخصوصية التي كثيراً ما تتحول إلى سجن.

على ضوء هذه الإشارات أين تقف تجربتك الشعرية؟ في مرحلة تشهد عودة الشعر إلى ميادين الثورات العربية؟ وأصبح هناك أمل في رد الاعتبار إلى الشعر والشعراء؟

لقد نفضوا منا الأيدي، ولم يعودوا يأملون من قصائدنا أي طائل، لقد تنصلت القصيدة من مهامها القديمة، وغادرت سلك الوظيفة طواعية بعدما استنفدت طاقاتها كلها في التربية والتعليم والتوجيه والصراخ، لقد أيقنت فجأة بأنها لم تعد مستعدة لتلبية أي من المطالب التي كانت تملى عليها من هنا وهناك، كي تقتنع أخيراً بضرورة التفرغ لحماقاتها الخاصة، فمعذرة، ليس ثمة ما يمكنه تقديمه غير هذا الفراغ الذي لا يليق بتطلعات بالغة الجسامة، لقد أمست القصيدة منشغلة أكثر من أي وقت آخر بمحتملها الخاص، وبالبحث عن صورتها وصوتها اللذين طالما كانا ضائعين في زحام الحياة والموت أيضاً. تحولت القصيدة إلى نداء جد خفيض لا يقبل عليه سوى المجردين من أي قناعات بيداغوجية أو تعليمية أو إديولوجي، وأمست مسكونة بالذهاب إلى تلك المناطق المهجورة، حيث لا أحد ينتظر أحداً. لكم كان طيبا أفلاطون وهو يحاول أن يقنعنا بأهمية الإنصات إلى الموسيقى القديمة وممارسة الرياضة في جمهوريته بحثا ربما عن توازن ما.

ما تقييمك لاتجاه كثير من الشباب المغربي إلى الكتابة باللغة الفرنسية؟ وهل يحدث ذلك ازدواجاً لدى القارئ؟                       

                       

 كانت مسألة التعدد الثقافي تعد في المغرب أو خارجه امتيازاً لا تحظى به سوى النخب الاجتماعية، أما اليوم وعلى ضوء التحولات الحثيثة والمتصارعة التي يعيش العالم على إيقاعها، فقد أمسى التعدد الثقافي واللغوي ضرورة ملحة ليس بالنسبة إلى الخطاب الإبداعي فحسب، ولكن أيضاً بالنسبة إلى الخطاب الثقافي والحضاري، فلم يعد مقيداً بإكراهات البعد الفرنكوفوني أو غيره من أبعاد ضيقة ومغلقة يمكن أن تحرمه من غبطة انتقالات حرة بين أرخبيلات اللغات والحضارات، التي بها تغتني النصوص الإبداعية، ومنها تستمد كونيتها المشروعة، إذ بهذا التلاقح الناضج والعميق أمكن للإبداع المغربي والعربي عموماً أن يفوز بأسماء إبداعية كبيرة، وبنصوص على درجة عالية من البهاء، لا يتسع المقام للخوض فيها.

back to top