اتفاق جنيف فرصة إيران الأخيرة
تبقى النتيجة الأسوأ بالنسبة إلى إسرائيل والولايات المتحدة والدول العربية السنّية، التي تخشى طموحات الدولة الإيرانية الشيعية الإقليمية، تطوير الجمهورية الإسلامية أسلحة نووية.
رغم كل التحذيرات والتأكيدات الخطيرة التي أطلقها منتقدو الرئيس الأميركي باراك أوباما، لا يعلم أحد يقينا ما إذا كانت حكومة إيران الجديدة تسعى لتطوير أسلحة نووية. ولكن بفضل الصفقة التي عُقدت في جنيف أخيراً، صار بإمكاننا على الأرجح التأكد من ذلك خلال الأشهر الستة المقبلة.يهدف هذا الاتفاق إلى اختبار استعداد إيران إلى الحد من برنامجها النووي مقابل حصولها على مخرج من عزلتها الاقتصادية والسياسية المتنامية. وتُعتبر هذه على الأرجح فرصة طهران الأخيرة لتفادي ضربة عسكرية أميركية أو إسرائيلية غايتها تدمير منشآتها النووية.صحيح أن نطاق هذه الصفقة يبدو متواضعاً، إلا أنها تحمل مخاطر واضحة، فقد يضعف تخفيف العقوبات الاقتصادية اليوم استعداد المجتمع الدولي لفرض العقوبات الصارمة على إيران حتى أجل غير مسمى، وإذا نجحت هذه الصفقة، فستكتسب إيران مقداراً من الشرعية الدولية من دون أن تُضطر إلى التخفيف من قمعها الداخلي القاسي، ودعمها الإرهاب، وسلوكها العدائي تجاه إسرائيل.رغم ذلك، تبقى النتيجة الأسوأ بالنسبة إلى إسرائيل والولايات المتحدة والدول العربية السنّية، التي تخشى طموحات الدولة الإيرانية الشيعية الإقليمية، تطوير الجمهورية الإسلامية أسلحة نووية. ويحاول الرئيس أوباما ووزير خارجيته جون كيري تفادي هذه الكارثة الاستراتيجية من دون اللجوء إلى الحرب.لعل المسؤول الأقل ثقة بالرئيس الأميركي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي وصف هذه الصفقة بـ"السيئة والخطيرة". فيعتبر نتنياهو أن هذا الاتفاق يؤكد الشكوك المتنامية حول أن أوباما لن يلجأ مطلقا إلى الخيار الوحيد (القوة) الذي قد يلغي خطر إيران النووي، مع أن الرئيس تعهد مراراً بأن يبقي هذا الخيار مطروحا "على الطاولة". فهذه الصفقة تعطي إيران حصانة من أي ضربة عسكرية إسرائيلية طوال ستة أشهر.على نحو مماثل، يبدو المحافظون مقتنعين بأن الملالي تفوقوا على أوباما، فهم يشتكون من أن الاتفاق لا يفرض على طهران وقف كل عمليات التخصيب كشرط للتخفيف من العقوبات. هذا صحيح، إلا أن هذا اتفاق مؤقت يبطئ برنامج إيران النووي مدة ستة أشهر يُفترض خلالها التوصل إلى حل شامل، لكن الجمهوريين، بتطبيقهم المنطق المتصلب عينه الذي قاد إلى معضلة تعطيل الحكومة، يعتقدون على ما يبدو أن أي حل غير استسلام إيران الفوري بدون أي قيد أو شروط يُشكل عملية استرضاء وتهدئة. في المقابل، لا يعرب بعض الديمقراطيين الواسعي النفوذ أيضاً عن حماسة كبيرة تجاه صفقة جنيف، فقد أعلن السيناتوران تشاك شومر وروبرت منديز، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، مواصلة السعي لفرض عقوبات جديدة على إيران في مطلق الأحوال، ولكن بدل زيادة الضغط على إيران، ستنقل هذه الخطوة على الأرجح مسؤولية العناد والتصلب عن كاهل إيران لتلقيها على واشنطن، ما قد يعزز جرأة المتشددين الإيرانيين الذين يعارضون أي صفقة مع الشيطان الأكبر ويقوض موقف أوباما في المفاوضات. فما الأسباب التي قد تدفع رئيس إيران الجديد العملي نسبيا، حسن روحاني، إلى المخاطرة بالسعي للتوصل إلى حل سلمي للأزمة، في حين أن أوباما عاجز عن الوفاء بالتزاماته؟يكثر الحديث أخيرا في الكونغرس عن تمرير عقوبات لا تدخل حيز التنفيذ إلا بعد ستة أشهر، لكن الكونغرس يقع دوما في خطأ السعي لإدارة كل تفاصيل السياسة الخارجية، خصوصا مفاوضات دقيقة بين أمتين متخاصمتين لم تتحاورا مباشرة منذ عام 1979.علاوة على ذلك، تعكس فكرة أن تكديس العقوبات سيرغم إيران على الاستسلام سوءَ فهم كاملا لأهداف قادتها. لا شك أن العقوبات تسببت بمشقات اقتصادية كبيرة، وأن روحاني يتوق إلى تخفيف هذا الضغط، فطهران بأمس الحاجة إلى المال وإلى العودة إلى بيع نفطها في الأسواق العالمية، لكن إيران عملت أيضا على زيادة عدد أجهزة الطرد المركزي، وعززت عملية التخصيب، واقتربت بوتيرة ثابتة من اكتساب قدرات نووية، مع أن المجتمع الدولي شدد ضغطه الاقتصادي والسياسي. نتيجة لذلك، لن تستسلم الجمهورية الإسلامية، التي لا تعتبر معارضة "الإمبريالية" الأميركية مجرد سياسة بل مبدأ تأسيسي، لمطالب ائتلاف تقوده الولايات المتحدة. لكن هذه الفكرة قد تكون محاولة لعرقلة صيغة تحفظ ماء الوجه وتقر فيها الولايات المتحدة ومجموعة 5+ 1 ضمناً "بحق إيران بالتخصيب" مقابل تفكيك طهران على نحو أكيد ومُثبت قدراتها على تخصيب اليورانيوم أو البلوتونيوم إلى نسب تُستعمل لأغراض عسكرية بهدف تطوير سلاح نووي.تبدو الشكوك المحيطة بنوايا إيران منطقية، نظراً إلى سلوك هذه الدولة المخادع خلال العقد الماضي، إلا أن العمل السياسي الماهر لا يعتمد على الخلاصات المباشرة المستمدة من تجارب سابقة، فينجح الخصوم أحياناً، من خلال الابتكار والشجاعة، في اختراق ضباب تكوَّن خلال عقود من انعدام الثقة العميق، ليتوصلوا إلى اتفاق جديد. هذا ما حدث خلال "انفتاح" نيكسون على الصين عام 1972، في كامب ديفيد عام 1979، في محادثات عام 1988 بين ريغان وغورباتشيف، وفي اتفاقيات عيد الفصح عام 1988 التي هدأت أيرلندا الشمالية.يفرض الاتفاق المؤقت على إيران أن تخفف أو تحول اليورانيوم العالي التخصيب إلى مواد لا خوف منها، فضلاً عن وقف عمليات التخصيب فوق نسبة الخمسة في المئة. كذلك ستعلق إيران إنتاج الوقود لمفاعل الماء الثقيل في آراك، الذي قد يمنح إيران مساراً ثانياً لتطوير قنبلة بإنتاج البلوتونيوم. في المقابل، يقدم الائتلاف تخفيفا للعقوبات الاقتصادية بقيمة 7 مليارات دولار.تؤخر هذه الصفقة، في حدها الأدنى، قدرة إيران على تطوير أسلحة نووية، وإذا حالفنا الحظ، فستمهد الطريق أمام مفاوضات فاعلة وعملية بناء ثقة متواصلة، ما قد يؤدي إلى إنجازات أكبر في الأشهر الستة المقبلة، أما إذا تعثر هذا الاتفاق، فسنعلم يقينا أن إيران ليست جادة، وأنها تحاول التلاعب مجدداً بمجتمع دولي منقسم وساذج.في مطلق الأحوال، سيصبح خيار الولايات المتحدة أكثر وضوحاً.