كونار

نشر في 01-02-2014 | 00:01
آخر تحديث 01-02-2014 | 00:01
No Image Caption
يعيش الإنسان على هذه الأرض منذ قرون عديدة، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنه يعرفها حق المعرفة أو أنه مطلع على جميع أسرارها وخباياها وكائناتها.

قالت: «جدّتي، أنا لا أستطيع فعل ذلك».

ردَّت عليها الجدّة بحزم: «بل تستطيعين يا رُقيّة؛ فأنتِ كبيرة».

شبكت رُقية يديها خلف ظهرها وقالت: «حسنًا سأنظفه. لا أعلم لماذا لدي قناعة بأنه لم يدخل هذا القبو كائن حي منذ قرون».

أشارت الجدة إلى القبو قائلة: «لا تضيِّعي وقتك بالكلام، القبو ينتظرك».

وضعت رُقية كمامة على وجهها بينما كانت تتجه نحو القبو، وبعد أن فتحت بابه قالت: «يا إلهي، ما كُل هذه الأتربة؟!».

التفتت إلى جدتها وأكملت كلامها: «جدتي، سأدخل الآن، وإن لم أخرج فاعلمي أنني مُت؛ ولذلك أريد منك أن تعلمي أنني أحبك كثيرًا».

ثم لوّحت إليها بيدها ونزلت بحذر.

فابتسمت الجدة وقالت: «إنها تشبه إلى حدٍ كبير والدتها الراحلة».

***

ما إن دخلت رُقية القبو حتى خاطبت نفسها: «لن أستغرب إن عثرت على كائنات منقرضة تعيش هنا». وفجأة، قالت: «ما هذا؟».

خطت بضع خطوات نحو لوحة كبيرة مغطاة بالأتربة، وبدأت مسحها بقطعة من القماش. وبعد فترة قصيرة صاحت: «إنها صورة تجمع أبي وأمي! إنها كنز! لقد وجدتُ كنزًا. سأعلق هذه الصورة في غرفتي، لقد اشتقت إليهما كثيرًا جدًا، رحمهما الله».

ثم اتخذت وضعية الدعاء وقالت: «يا رب، ارحمهما واغفر لهما ذنوبهما وارزقهما الجنة، آمين».

ثم مرت في مخيلتها لحظاتها الأخيرة مع والديها.

صاحت رُقية بسعادة: «أمي، أعجبتني كثيرًا حديقة الحيوانات المائية، وأريد زيارتها مرة أخرى».

التفتت إليها أمها الجالسة على المقعد الأمامي في السيارة بجانب والدها وقالت: «سنفعل ذلك. أنا سعيدة لسعادتك».

ابتسمت رُقية وقالت: «شكرًا لك يا أبي. كان يومًا رائعًا، وسأعتبره من الأيام الرائعة والمفضلة عندي. سأسجل هذه الملاحظة على هاتفي المحمول قبل أن أنساها».

أخرجت هاتفها من حقيبتها الوردية، وفتحت التقويم، وكتبت ملاحظة بجانب التاريخ: هذا أحد الأيام السعيدة التي أعيشها مع...

لكن صرخة أمها أوقفتها حين قالت: «انتبه يا عزيزي انتبه...».

ثم علا ضجيج هائل أعقبه صمت... عجز... دماء... موت...

بعد الظلام المفاجئ، عادت الأضواء والألوان شيئًا فشيئًا، فوجدت رُقية نفسها جالسة على بعد مسافة لا بأس بها بعيدًا عن سيارتهم التي كانت تحترق، فاتجهت زاحفة بوهن نحو والديها. نظرت إليهما طويلاً وهما ممددان على الأرض، ثم سألت أحد الرجال الواقفين أمام والديها: «سيدي، متى سيستيقظ والداي من النوم؟».

نظر إليها مليًا بعينين حزينتين جدًا، وخمّن أنها في سن السادسة، ثم قال: «إنا لله وإنا إليه راجعون».

فتساءلت رُقية باستغراب: «ما الذي تقصده؟! ولكن، أين سيارة الإسعاف؟».

أجاب: «ستصل بعد قليل».

وعلى مقربة من رُقية دار حوار بين شابين.

الشاب الأول: «رحمهم الله جميعًا».

رد عليه الشاب الثاني: «إنها معجزة أن تنجو الابنة فقط من هذا الحادث».

الشاب الأول: «مسكينة، إنها وحيدة الآن».

الثاني: «صدقت».

نظرت رُقية إلى جثتي والديها واندفعت إليهما قائلة: «أمي، أبي... اسيقظا، وأخبرا الجميع أنني لست وحيدة؛ فأنتما معي. هيا، أخبراهما بذلك أرجوكما».

انهمرت الدموع من عينيها بلا انقطاع وهي تعانق والديها: «كان ينبغي أن يكون هذا اليوم سعيدًا جدًا... لا تتركاني...».

وبعد بكاء هستيري استسلمت لنوم عميق جدًا، مع أمنية واحدة فقط... ألا تستيقظ...

***

عطست رُقية وقالت: «أنا قادرة على تنظيف هذا القبو وحدي. ستكون جدتي سعيدة جدًا بهذا الإنجاز الأسطوري؛ فمعجزة المعجزات أن تقوم فتاة مثلي بالتنظيف».

تقدمت رُقية من مجموعة من الجرار والفوانيس القديمة، وابتسمت تلقائيًا لنفسها: «ها قد شارفت على الانتهاء من التنظيف. ستفرح جدتي كثيرًا».

وبعد أن فرغت من نفض الأتربة عن الجرار، أخذت تمسح الفوانيس بهمّة ونشاط.

ولكن، فجأةً حدث شيء لم تستوعبه جيدًا؛ فقد تصاعد دخان كثيف من الفانوس الذي كانت تقوم بمسحه، فألقته على الأرض بسرعة، وتراجعت نحو الحائط، وعيناها لا تفارقان الدخان الذي أخذ ينتشر في الغرفة. ثم بدأت مساحة الدخان تضيق وتتجمع في مكان واحد لتُشكلِّ طيفًا غير واضح المعالم.

بعد دقائق، صاحت رُقية: «هل يمكن أن تكون المارد الذي سمعت عنه في القصص القديمة، والذي يظهر ليقول: شبيك لبيك عبدك بين إيديك ويلبي لي طلباتي كلها من دون استثناء؟».

قابل الطيف كلامها بالصمت.

فأكملت كلامها: لم أكن أظن أنني محظوظة. ولكن، يبدو أنني كذلك الآن. آآه، ما الذي سأطلبه منك يا ترى؟ لدي الكثير من الأمنيات التي تنتظر من ينتشلها من الخيال إلى الواقع. هيا، أريد قصرًا كبيرًا لي ولجدتي».

لمعت عينا الطيف ذات اللون الأحمر القاني، ثم ارتسمت ابتسامة سخرية على وجهه.

قالت رُقية: «لن أوقّع على شيء».

عندئذ قال الجني: «إذًا، سيفقد أقرب شخص إليك حياته».

تذكرت رُقية جدتها ثم صاحت: «لا... لن أسمح لك بإيذاء جدتي».

ثم وضعت يدها على فمها.

قال الجني بخبث: «إذًا، جدتك هي الشخص الأقرب إليك. لن يكون لحمها لذيذًا، لذا سأكتفي بتحويلها إلى حساء؛ فأنا أشعر بالجوع بعد مضي كل تلك الفترة».

قالت رُقية: «توقف عن هذا الهراء. حسنًا... سأقوم بما تطلبه».

ابتسم الجني وهمس: «هذا جيد. كوني مطيعة من البداية... هيا، وقّعي على هذا العقد الذي يلزمك بالعمل خادمة لدي».

مددت رُقية يدها، وأخذت القلم والورقة من الجني وقالت: «ما هذه اللعنة الغريبة؟ إنني لا أفهم شيئًا منها!».

قال: «ما من داعٍ لكي تفهمي شيئًا. وقّعي وأريحيني؛ فأنا متعب».

وقعت رُقية، فاختطف الجني الورقة منها بسرعة ثم قال: «ينص العقد على أنك ملزمة بالعمل خادمة لدي لسنة كاملة».

صاحت رقية: «ماذا؟! سنة كاملة؟! لقد ظننت أن المدة لن تتجاوز الأسبوع! لقد خدعتني أيها الماكر».

قال: «لم أخدع أحدًا؛ فأنتِ لم تسأليني عن المدة التي ستعملين فيها لدي. ولكن كل هذا غير مهم أيتها الخادمة. سأعود بعد يومين لاصطحبك معي إلى قصري. كوني جاهزة، وإلى اللقاء قريبًا».

تلاشى الجني من أمام رُقية المذهولة تمامًا، ففركت عينيها وقالت: «أظن أنني تخيلت كل ذلك. يا للسخرية! لقد تخيلت أنني كنت أتحدث إلى جني مجنون. ها قد أنهيت التنظيف».

خرجت رُقية من القبو وهي ترسم على شفتيها ابتسامة: «جدتي، لقد أنهيت التنظيف».

قالت الجدة: «أحسنتِ يا ابنتي. اذهبي الآن واستحمي، أما أنا فسأنتظرك إلى طاولة العشاء».

***

شربت رُقية بعض الماء ثم قالت: «جدتي، لقد تخيلت أنني رأيت جنيًا في القبو وتحدثت إليه».

ضحكت الجدة وقالت: «إنّ خيالك خصب يا ابنتي».

ضحكت رُقية أيضًا وفكرت: «لكن ما تخيّلته... ما تخيّلته اليوم بالذات بدا لي واقعيًا جدًا».

استلقت رُقية على سريرها مشغولة البال وفكرت: إذا بقيت أفكّر في ذلك الجني فسأفقد عقلي بالتأكيد.

كل شيء سيتضح بعد يومين. يجب أن أنام جيدًا الآن.

لكنها سمعت صوت موسيقى صاخبة تصدح أمام غرفتها فصاحت: «ما هذا الإزعاج!؟».

اتجهت إلى النافذة وفتحتها، فوجدت شابًا يجلس على سور المنزل وبجواره جهاز تسجيل ضخم.

قالت له: «أوقف عمل هذا الجهاز المزعج حالاً».

فأشار الشاب بيده بما معناه أنه لا يستطيع سماع ما تقوله.

فصاحت بأعلى صوتها: «توقف عن إزعاجنا بهذه الموسيقى الصاخبة، و»انقلع» من هنا».

أوقف الشاب عمل جهاز التسجيل ثم قال: «حسنًا، ما الذي تريدينه؟».

قالت: «أريد أن تبتعد من هنا».

فأخرج مشطًا من جيبه، وقام بتسريح شعره الأسود الحريري الجميل، ثم أعاده إلى جيبه قائلاً: «لا يفترض بكِ مخاطبة سيدك بهذه الطريقة».

قالت: «ماذا تقول؟!».

عندئذ، أخرج الشاب ورقة مذيّلةً بتوقيعها في الأسفل وقال: «هذا العقد يجعل منكِ خادمة لي لسنة كاملة؛ هل نسيت ذلك بهذه السرعة؟».

ماذا؟ هذا لا يُعقل! إذًا، فالجني الذي رأيته في القبو لم يكن من ابتكار خيالي. ولكنك قلت لي إنك ستعود بعد يومين من الآن!

مللت في قصري، ففكرت في تغيير موعد عملك لدي. هيا، تعالي معي إلى أرضي.

ما من شك في أنك تهذي!

لا، إنني لا أهذي. ما رأيك بشكلي البشري ألست وسيمًا؟

أنت مجرد جني مغترّ بنفسه.

رأيكِ لا يهمني، وهو في آخر قائمة اهتماماتي، وذلك طبعًا إن كان موجودًا في القائمة أصلاً.

لا داعي لإضاعة المزيد من الوقت.

وقف وتمتم بكلمات غريبة وطلاسم غير مفهومة فامتلأت غرفة رُقية بالدخان الذي حملها إلى الخارج عبر النافذة؛ نحو الجني الذي تقدم باتجاه الدخان، فابتلعه الدخان كما ابتلع رُقية من قبله. وطبعًا، لم ينسَ أخذ جهاز التسجيل الضخم معه.

***

هبطت رُقية أمام بوابة قصر كبير مُهيب، ووقف الجني بجانبها وابتسامة فخر لا تفارق محياه. أشار إلى القصر قائلاً: {هذا هو قصري. لقد أعجبك أليس كذلك؟ لقد أعجبك كثيرًا لدرجة عجزك عن الكلام أو إبداء أي إعجاب}.

قالت وهي تتأمل القصر: {أوافقك تمامًا على أن هذا القصر كبير وجميل. ولكن الذي عقد لساني هو تساؤلي... كيف تريد مني تنظيف مكان ضخم كهذا!؟ أنت مجنون، أليس كذلك؟ أرجوك يا سيّدي الجني، ألغِ ذلك العقد وسأكون ممتنة لك طوال حياتي}.

تجاهل الجني كلامها، وأكمل طريقه نحو القصر. وبعد أن اجتازا البوابة، انبهرت رُقية تمامًا حين رأت ذاك العدد الكبير من الأزدهار الملونة والمختلفة التي تتمايل على أنغام موسيقى قادمة من المجهول. كان لمعان بعض الزهور يخطف الأبصار والألباب، فيما الفراشات المزركشة والمتوهجة تحلّق في كل مكان. أمّا رائحة المكان فكانت عطرة وزكية جدًا. لفتت انتباه رُقية ألوان الأعشاب التي لم تقتصر على اللون الأخضر فقط، بل كانت تشمل جميع الألوان على اختلاف درجاتها. أما الأشجار فكانت تبتسم في وجه الزائر وكأنها ترحب به.

علَّق الجني: {أظن أنكِ انسحرت تمامًا. أليس ما أقوله صحيحًا؟}.

{بلى، هذه الحديقة رائعة جدًا}.

قال الجني مبتسمًا: {أنا سعيد لإعجابك بها؛ لأنك ستبدأين منذ الغد بالاهتمام بها وريّها}.

صاحت رُقية: {ماذا؟؟}.

تقدّم الجني بكل رضى ودخل قصره، تتبعه رُقية مع عبارات اعتراض لا تنتهي. كانت أرض القصر مغطاة بالرخام الذي سلب لب رُقية تمامًا.

التفت الجني إلى رُقية قائلاً: {أنتِ الآن لستِ على أرض البشر بل الجن. لقد عبرنا معًا الحاجز الذي  يفصل بين عالمينا. كل شخص سترينه منذ اليوم سيكون جنيًا؛ سواء أكان طفلاً أو امرأة أو شيخًا. ستعملين في قصري لسنة كاملة طبعًا؛ هذا ما جاء في العقد الذي وقعته أنتِ بكل سعادة}.

قاطعته: {بكل سعادة!}.

ابتسم وأكمل كلامه قائلاً: {ستنظفين هذا القصر، وستطبخين لي الطعام، كما ستقومين بالاعتناء بحديقتي النادرة. وأخيرًا، ستحكين لي قصة قبل النوم يوميًا}.

back to top