بريطانيا غارقة في حروب أميركا القذرة
عندما أظهر الصحافي اليمني عبدالله حيدر كيفية حدوث عمليات القتل بصورة فعلية- عبر عرض المذبحة الأميركية في «مجالا»- تم الإيقاع به وسجنه في اليمن بتهمة التعاون مع «تنظيم القاعدة»، ثم عُطل إطلاق سراحه عبر تدخل شخصي من أوباما.
قد تظن أن الحرب على الإرهاب قد انحسرت بعد 12 عاماً على إطلاقها من قبل الولايات المتحدة في ضوء تلك النتائج المدمرة التي أفضت إليها، وقد أعطى الرئيس أوباما بالتأكيد ذلك الانطباع عندما أعلن في وقت من العام الجاري أن "هذه الحرب، شأن كل الحروب، يجب أن تنتهي".وفي حقيقة الأمر، فإن الرئيس الذي نال "جائزة نوبل" للسلام كان يسعى إلى مجرد إعادة تعريف لتلك الحرب، وقد وعد بأنه لن تكون هناك بعد الآن "حروب بلا حدود" على الإرهاب، وكان يعني نهاية الحروب البرية والاحتلال، على الرغم من أن الولايات المتحدة لا تزال تجري مفاوضات حول بقاء القوات العسكرية في أفغانستان بعد نهاية السنة المقبلة.لكن الحرب على الإرهاب تتحول وتتسع وتنتشر، وغارات الطائرات من دون طيار، التي تصاعدت في عهد أوباما من باكستان إلى شمال إفريقيا، تعتبر أساسية بالنسبة إلى هذه المرحلة الجديدة.وكما يكشف فيلم "الحروب القذرة" الجديد للصحافي الأميركي جيرمي سكاهيل، فإن الأمر ذاته ينسحب على أعمال القتل على الأرض من قوات خاصة سرية أميركية، وأمراء الحرب بالوكالة والمرتزقة في العديد من الدول. تبدأ تحقيقات ذلك الفيلم بعرض مجزرة راحت ضحيتها أسرة قائد شرطة على يد وحدة سرية تابعة للقيادة السرية المشتركة الأميركية في إقليم غارديز في أفغانستان (زعم الجيش الأميركي أنها كانت حادثة قتل تتعلق بالشرف)، ثم تنتقل تلك التحقيقات عبر هجوم بصاروخ كروز في "المجالا" في اليمن، هو ما أفضى إلى مصرع 46 مدنياً- بمن فيهم 21 طفلاً– واغتيال رجل الدين الأميركي المتشدد ذي الأصول اليمنية أنور العولقي مع ابنه الذي يبلغ السادسة عشرة من العمر، إضافة إلى عمليات اختطاف وقتل نفذها أمراء حرب محليون نيابة عن القيادة المشتركة الأميركية Jsoc ووكالة الاستخبارات المركزية في الصومال.فما قامت بها القوات الأميركية الخاصة- التي كانت تشن 20 غارة في الليلة الواحدة في وقت ما في أفغانستان- يرقى إلى مستوى عمليات قتل سرية، والحقيقة التي لا لبس فيها هي أن تلك القوات تقوم بدور "فرق موت" تغطي سفكها للدماء تحت اسم "عمليات قتل مستهدفة" للثوار والإرهابيين لمصلحة أمة ممتنة في الوطن.وعندما أظهر الصحافي اليمني عبدالله حيدر كيف تكون عمليات القتل تلك بصورة فعلية- عبر عرض المذبحة الأميركية في "مجالا"- تم الإيقاع به وسجنه في اليمن بتهمة التعاون مع "تنظيم القاعدة" ثم عُطل إطلاق سراحه عبر تدخل شخصي من جانب أوباما.قامت الولايات المتحدة وأصدقاؤها، طبعاً، باغتيالات سرية ونظمت فرق موت لسنوات عديدة، ولكن الاغتيالات وعمليات القتل السرية التي انتقدتها ذات مرة الولايات المتحدة بوصفها عادة إسرائيلية مؤسفة تمثل الآن جزءاً رئيسياً من استراتيجية أميركية- وأصبحت ساحة المعركة عالمية المستوى. كما أن عدد الدول التي تعمل فيها القيادة الأميركية ارتفع من 40 إلى 120 دولة. كانت بريطانيا مشاركة في كل خطوة على الطريق، كما أن المسؤولين البريطانيين يحبون استعراض عملياتهم في الغارات بدون طيار في أفغانستان معنوياً بوصفها تفوق تلك التي تقوم بها وكالة الاستخبارات المركزية والقيادة السرية المشتركة، فعلى أرض الواقع يوجد تعاون وثيق بينهما في هذا الإطار.في الأسبوع الماضي مَثُل نور خان، الذي كان والده واحداً بين أكثر من 40 شخصاً قتلوا في غارة أميركية لطائرة أميركية من دون طيار، أمام محكمة الاستئناف في لندن، مطالباً الحكومة البريطانية بكشف مدى دعم القيادة العسكرية البريطانية لمثل جرائم الحرب تلك.تتخفى الحكومة خلف شعار "الأمن القومي" والعلاقة الخاصة، لكن ما من شك أن استخبارات الجيش قد استخدمت في الغارات من دون طيار- تماماً كما كانت الوحدات السرية البريطانية تعمل بشكل وثيق مع القوات الأميركية الخاصة في الصومال ومالي وليبيا والعراق وأفغانستان.وبينما كانت تيريزا ماي تسحب الجنسية من "المسلمين البريطانيين" المشتبه في قتالهم إلى جانب حركة "شباب المجاهدين" في الصومال كي يتعرضوا للقتل أو الاختطاف على يد القوات الخاصة الأميركية، ظهرت أدلة على أن القوات الخاصة البريطانية نفسها أقدمت على قتل المجند البريطاني طفيل أحمد هناك في السنة الماضية. وطبعاً لدى بريطانيا خبرة واسعة في حروبها القذرة الخاصة، وقد بث برنامج بانوراما من "بي بي سي" في الشهر الماضي مقابلات مع أفراد من وحدة الجيش السري السابق في ايرلندا الشمالية (والعديد من ضباطه شارك في حملات استعمارية) وكانت تلك الوحدات نفذت سلسلة من عمليات إطلاق النار على مدنيين في بلفاست في السبعينيات من القرن الماضي. وقال أحد المحاربين القدماء "نحن كنّا هناك للعمل مثل مجموعة إرهابية". وكما كان شأن القوات الخاصة الأميركية في غارديز قاموا بعمليات تغطية منتظمة وكافحوا لتقبل فكرة أن الأشخاص الذين قتلوهم لم يكونوا من "الإرهابيين".والافتراض بأنهم كانوا يقضون على الأشرار- المسلحين أو غير المسلحين- كان هو العنصر المهيمن بوضوح على قوانين الحرب، والشيء ذاته ينسحب على الحرب ضد الإرهاب على نطاق أوسع إلى حد كبير، وتُطرح غارات الطائرات من دون طيار على الرأي العام على أنها بمنزلة ضربات جراحية نظيفة، وفي حقيقة الأمر فإن الغياب التام للخطر الذي يواجه القوات المهاجمة لا يخفض فقط عتبة استخدام تلك الطائرات، بل إنه يظهر أن أهدافها تعتمد على استخبارات أظهرت بصورة روتينية أنها كانت على خطأ مروع.في العديد من الحالات، وبعيداً عن استهداف أفراد محددين، كانت تلك الغارات "ضربات اعتيادية" ضد كل الذكور في سن الخدمة العسكرية في منطقة معينة، أو أنها كانت تعتمد على "إحداثيات مرتبة" لمعلومات تم إقرارها من قبل الرئيس أوباما في اجتماعات يوم الثلاثاء من كل أسبوع، وهي اجتماعات مخصصة لما يعرف "بقائمة القتل" في البيت الأبيض. وهذا هو سبب أن ما يقدر بنحو 951 مدنياً قتلوا في غارات من دون طيار في باكستان وحدها، وكانت نسبة 2 في المئة فقط من الإصابات أهدافاً "عالية القيمة".في أحسن الأحوال تعتبر عمليات القتل التي تقوم بها طائرات من دون طيار والقوات الخاصة بمنزلة عمليات إعدام من دون محاكمة، وبصورة أكثر جلاء هي موجة قتل إجرامية وحشية، ولعل الميزة الأساسية التي تتحصل عليها الحكومة الأميركية في قدرتها على الاستمرار في إبراز أنها سلطة عالمية فضلاً عن أنها وسيلة لا تتطلب وجود قوات برية أو تكبد خسائر في أرواح الأميركيين. لكن ذلك الوضع يعكس أيضاً الوهن الأميركي في أعقاب أحداث أفغانستان والعراق: فالحروب القذرة تؤدي إلى مآس إنسانية، لكنها ذات تأثير استراتيجي محدود.وهي تشكل سابقة أيضاً، فإذا كانت الولايات المتحدة وأصدقاؤها قد خولت لنفسها الحق في شن هجمات مسلحة حول العالم متى ما أرادت، فإن دولاً أخرى تملك الآن قدرات طائرات من دون طيار قد تعمد إلى القيام بعمل مماثل، والمفارقة الكبرى هي أن ما يتم تبريره تحت اسم محاربة الإرهاب قد نشر الإرهاب في شتى أنحاء العالمين العربي والإسلامي، علاوة على أنه قدم سبباً لرعاته هناك كي يقوموا بشن هجمات ضدنا داخل الوطن على الأراضي الأميركية.تشكل الحروب القذرة التي تقودها الولايات المتحدة وصفة للنزاع الذي لا نهاية له والذي وعد أوباما بوضع حد له، وتمهد هذه الحروب السبيل أمام نظام دولي أكثر خطورة. ويعتبر رجال السياسة ووسائل الإعلام، الذين يطرحون فكرة الأمن القومي من أجل حماية هذه الحملات، هم أنفسهم تهديداً لأمننا، كما أن السرية وضعف التأثير في تلك الحروب يجعلها حروباً أكثر صعوبة من الحروب التقليدية من حيث سبل معارضتها وخضوعها للمحاسبة والمساءلة. التداعيات السلبية في الدول التي تتحمل وطأة تلك الحروب السرية آخذ في التصاعد، لكن يتعين علينا ألا نترك ضحاياها بمفردهم لإنهاء تلك الحروب.