المناخ والتنافسية

نشر في 31-03-2014 | 00:01
آخر تحديث 31-03-2014 | 00:01
 توماس فريكه في الوقت الذي تخبو فيه أزمة الديون الأوروبية، تلوح في الأفق كارثة اقتصادية أخرى- ألا وهي سعر الطاقة، فمنذ مطلع الألفية الثانية حتى الآن، تضاعف متوسط أسعار الكهرباء للصناعات الأوروبية تقريباً، وباتت الشركات الأوروبية تدفع الآن ضعف ما تدفعه منافساتها من الشركات الأميركية مقابل الغاز، فهل تتعرض القاعدة الصناعية بالقارة الآن للتدمير بسبب سياسات أوروبا المناخية المفرطة في الطموح، والتي تهدف إلى رفع تكلفة مصادر الطاقة "السيئة"؟

للوهلة الأولى، تبدو الأرقام مدعمة لوجهة النظر المتشائمة، إذ كيف يمكن ألا تؤثر مثل هذه الفجوة الهائلة في الأسعار في التنافسية؟ لكن إذا كان ارتفاع أسعار الطاقة من شأنه أن يؤدي إلى خفض الصادرات، فكيف تضاعفت صادرات ألمانيا منذ عام 2000، وهي الدولة التي تتباهى بتطبيق عدد من سياسات المناخ العالمية الأكثر طموحاً؟

في الحقيقة، يوضح الدليل العملي أن مواصلة مساعي تقليل انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون قد تساعد في زيادة تنافسية الصناعات في حالات كثيرة. بل من الممكن أن يتيح استكشاف هذه الإمكانية فرصاً كبيرة لتعزيز قوة أوروبا الاقتصادية الطويلة الأجل، وليس فقط لمكافحة التغير المناخي.

منذ عام 2005، وتحديداً عندما قدم الاتحاد الأوروبي نظام مقايضة الانبعاثات، حققت الصناعة الألمانية مكاسب هائلة بالنسبة إلى حصتها في السوق رغم ارتفاع أسعار الطاقة بوتيرة أسرع كثيراً من الولايات المتحدة وأماكن أخرى. ووفقاً لتقديرات "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية"، فقد ارتفع الأداء النسبي لصادرات ألمانيا- رغم ارتفاع تكلفة الصناعات بها- بمقدار 10% من عام 2005 حتى عام 2013، في حين لم تتجاوز سرعة نمو الصادرات الأميركية مقارنة بنمو الطلب في بقية أنحاء العالم نسبة 1.2%. وفي عام 2013، هبطت الصادرات الألمانية والأميركية بصورة طفيفة بالمقاييس النسبية- وهو ما لا يمكن اعتباره مؤشراً على تباين في التنافسية مدفوع بأسعار الطاقة.

بل إن الأمر نفسه ينطبق على الصناعات المعتمدة بكثافة على الطاقة مثل الصناعات الكيمائية، وإن كان بدرجة أقل، فرغم ارتفاع أسعار الطاقة وتزايدها المستمر، تواصَل نمو الصناعات الكيمائية في أوروبا بنفس معدل نمو عناصر الاقتصاد الأخرى تقريباً منذ عام 1995. واليوم أضحت شركات الصناعات الكيمائية في الاتحاد الأوروبي متخصصة في المنتجات العالية القيمة، وأصبحت صادرات أوروبا من هذه المنتجات أكثر من وارداتها.

والسبب بسيط: هناك عوامل أخرى جمة تقوم عليها التنافسية غير أسعار الطاقة، وبالفعل أظهرت التقديرات الخاصة بألمانيا أن تكاليف الطاقة بالنسبة إلى معظم قاعدتها الصناعية لا تتجاوز 1.6% من إجمالي القيمة المضافة. وبالتالي فإن أي ارتفاع في أسعار الطاقة ولو بوتيرة متسارعة يعني فقط تحمل الشركات عبء تكلفة إضافية محدودة.

ولا شك أن هذا العبء يرتفع بالنسبة إلى صناعات أخرى مثل الصناعات الكيمائية، لكن الصناعات المعتمدة بكثافة على الطاقة تستفيد عادة من الإعفاءات من رسوم الكربون. حتى في هذه القطاعات، يجب تعريف التنافسية بمفهوم أوسع كثيراً من ذلك الذي نخلص إليه ببساطة بمقارنة الإحصاءات الخاصة بالتكاليف. على سبيل المثال، هناك عوامل قد تؤدي دوراً أكثر أهمية كالعمالة المؤهلة تأهيلا عالياً أو ثمار الاندماج في تكتلات فعّالة.

ومن الواضح أن مثل هذه الاعتبارات لا تقدم ضماناً بألا تمثل أسعار الطاقة المتزايدة تحدياً خطيراً لقدرة أوروبا التنافسية في أي وقت مستقبلاً. إذ يجب الاعتراف بتباطؤ نمو الاستثمار الجديد في المصانع الكيمائية لسنوات.

لكن رغم أن التعامل بجدية مع هذه المخاطرة أمر واجب، فإن التاريخ يشير إلى احتمالية وجود مخرج لا يتطلب بالضرورة تقليص السياسات المناخية، فالملاحظ أن أسعار الطاقة المتزايدة لم تواكبها تنافسية قوية نسبياً فحسب، بل صاحبتها أيضا انخفاضات هائلة في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وتمكنت الصناعات الكيميائية في أوروبا من تقليص انبعاثاتها من الغازات المسببة للاحتباس الحراري العالمي إلى النصف مقارنة بمستويات عام 1990، مع زيادة إنتاجها بمقدار 20%. وهذا يشير إلى أن الإسراع بخفض الانبعاثات قد يساعد أحياناً في الحفاظ على تنافسية أي شركة.

في دراسة استرشادية عن منتجات كيميائية معينة لمصلحة مؤسسة المناخ الأوروبية، توصل خبراء من "شركة ماكينزي الاستشارية" إلى إمكانية تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة إضافية تتراوح بين 50% إلى 75%. علاوة على ذلك، فإن استكشاف فرصة التخفيض الإضافية في 60% إلى 70% من الحالات تقريباً من شأنه ألا يؤثر في تنافسية الصناعة، بل ربما يقويها. ذلك لأن الاعتماد المتزايد على عمليات كإعادة التدوير مثلاً يقلل التكاليف- وبالتالي يعزز تنافسية الشركات- مع تقليل الانبعاثات والدفع بأساليب جديدة مثل تبادل الإبداعات والابتكارات عبر القطاعات المختلفة.

وليس من الحكمة بكل التأكيد أن نغض الطرف عن تزايد فاتورة الطاقة في أوروبا حتى تتضخم باسم السياسات المناخية الطموحة، فهناك طرق أذكى لتقليل الانبعاثات من مجرد رفع التكلفة على الصناعة والمستهلكين، لكن قد يكون من الحماقة في المقابل أن ندفع باتجاه سياسات أقل طموحاً، لنوقف بذلك التقدم في مكافحة تغير المناخ دون التأكد من جدوى إجراء كهذا في تحسين القدرة التنافسية الأوروبية.

ينبغي أن يركز النموذج الجديد على إيجاد أساليب لتقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بطرق تساعد في النهاية على إخراج منتجات أفضل بأسعار أقل. وهذا سيساعد المنتجين الأوروبيين أيضاً على الفوز بأسواق جديدة في الدول الناشئة التي سيزيد طلبها على المنتجات الكيميائية عالية القيمة التي تنتجها أوروبا بالفعل بشكل تنافسي.

إن آخر ما تحتاج إليه أوروبا التي أنهكتها الأزمة هو فجوة تنافسية جديدة، لكن الأهداف المناخية الطموحة ليست المشكلة، كما أثبتت ألمانيا واقتصادات أوروبية ناجحة أخرى، بل قد تكون هذه الأهداف جزءاً من الحل.

* كبير الاقتصاديين بمؤسسة المناخ الأوروبية ومدير موقع WirtschaftsWunder الألماني.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top