تنافر السياسات في الصين

نشر في 16-01-2014
آخر تحديث 16-01-2014 | 00:01
يتعين على السلطات الصينية في إطار محاولاتها الرامية إلى مجاراة أفضل الممارسات العالمية أن تكون أكثر وضوحاً (أكثر شفافية) في تحديد أولويات أهدافها السياسية، والواقع أن وضع أجندات مختلفة على منصات متعددة- الخطط الخمسية، والجلسة المكتملة الثالثة، ومؤتمر العمل- يُعَد وصفة أكيدة للارتباك والتضارب المحتمل.
 ستيفن س. روتش في الأشهر الأخيرة من عام 2013، لم تكد الصين تخلو من التصريحات السياسية، فمن برنامج الإصلاح ذي الستين نقطة والصادر عن الجلسة المكتملة الثالثة للجنة المركزية في أوائل نوفمبر إلى المهام الست الأساسية التي أقرها مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي بعد شهر واحد، اقترح قادة الصين مجموعة من التدابير الجديدة للتصدي للتحديات الجسام التي تواجهها بلادهم في السنوات المقبلة.

ولكن عندما ننظر إلى الأمر برمته فسوف يتبين لنا أن خطر تفكك السياسات بات واضحاً، فمبادرات الجلسة الثالثة المكتملة على سبيل المثال تركز على الجانب الاستراتيجي: تعزيز عملية إعادة التوازن البنيوية الداعمة للاستهلاك التي انتظرها اقتصاد البلاد طويلاً، وبينما تجسد مهام المؤتمر الأساسية روح هذه الإصلاحات فإنها تعكس أيضاً تركيزاً تكتيكياً: "الحفاظ على ثبات النمو". ولكن في ضوء المفاضلات المحتملة بين الاستراتيجية والتكتيكات- أي بين الإصلاحات الطويلة الأجل وضرورات النمو في الأمد القريب- فهل يتمكن صانعو السياسات في الصين من تحقيق أهدافهم كافة؟

بطبيعة الحال، كانت مثل هذه المفاضلات واضحة في أغلب الاقتصادات- المتقدمة والنامية على حد سواء. بيد أن الأمر الذي فصل الصين عن بقية المجموعة كان ميلها القوي إلى التركيز بشكل أكبر على أهداف استراتيجية في رسم مسار التنمية الاقتصادية.

حتى رغم هذا فإن التوترات الجديدة بين سياسات الجلسة المكتملة الثالثة وتلك التي أقرها مؤتمر العمل الأخير أثارت مسألة المفاضلات مرة أخرى. ذلك أن عملية إعادة التوازن القائمة على الاستهلاك والخدمات والتي اقترحتها في مستهل الأمر الخطة الخمسية الثانية عشرة وأقرتها الجلسة المكتملة الثالثة التي اختتمت أعمالها أخيراً تعني تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى ما دون المتوسط السنوي 10% الذي تم تسجيله من عام 1980 إلى عام 2010.

بيد أن تباطؤ النمو ليس بالضرورة أمراً سيئاً، فمستويات تشغيل العمالة في الخدمات الصينية كانت أعلى بنحو 30% عن كل وحدة من الناتج مقارنة بقطاعي التصنيع والبناء، وهذا يعني أن الصين التي تعتمد على الخدمات بشكل متزايد قادرة على تحقيق أهدافها الحرجة في ما يتصل باستيعاب العمالة- أو بالتحديد خلق فرص العمل بالسرعة الكافية والحد من الفقر- بمعدل نمو سنوي يتراوح بين 7% إلى 8%.

بالنسبة إلى الصين، تسير عملية إعادة التوازن جنباً إلى جنب مع تباطؤ النمو- ويفضي ذلك إلى الفوائد الإضافية المترتبة على تناقص الطلب على الموارد، وتراجع حدة الارتفاع في استهلاك الطاقة، والتقدم في معالجة التلوث البيئي والتفاوت في الدخول. ولكن مؤتمر العمل الأخير فشل في وضع تباطؤ النمو في سياقه الاستراتيجي، وألقى بثِقَله بدلاً من ذلك على ضرورات التثبيت الكلية المتمثلة بـ"السياسات المالية الاستباقية والسياسات النقدية الحصيفة".

منذ اختتم مؤتمر العمل أعماله، انخرط المستثمرون في مناقشة أهداف النمو في عام 2014، ولكن هل سيتم الحفاظ على هدف النمو بنسبة 7.5% الذي تم تحديده لعام 2013 في العام التالي، كما تشير التسريبات الأخيرة من كبار المسؤولين الصينيين، أم أن التصريحات الأخيرة تشير إلى المزيد من التباطؤ نحو 7%؟

سوف يكشف مؤتمر الشعب الوطني في مارس عن الإجابة عن هذا التساؤل، ولكن التركيز على هدف النمو في الأمد القريب، وصقل السياسات المالية والنقدية من أجل تحقيق هذا الهدف- ناهيك عن ضائقة ائتمانية أخرى تؤرق أسواق التمويل الصينية القصيرة الأجل- ينتقص من التركيز على التحولات الاستراتيجية التي تتطلبها عملية إعادة التوازن إلى الاقتصاد.

الواقع أن أغلب المهام الاقتصادية الكبرى الست لعام 2014 والتي حددها مؤتمر العمل الأخيرة- بما في ذلك الجهود الرامية إلى ضمان الأمن الغذائي، واحتواء ديون الحكومات المحلية، وتحسين جهود تنسيق التنمية الإقليمية- لا ترتبط إلا قليلاً أو لا ترتبط على الإطلاق بضرورات إعادة التوازن الاستراتيجي في الصين، ورغم أنها جديرة بالثناء فيبدو أنها منفصلة عن عملية إعادة الهيكلة الداعمة للاستهلاك.

الواقع أن اثنتين فقط من المهام الاقتصادية الست الرئيسة التي حددها مؤتمر العمل تتفق تماماً مع الأجندة الاستراتيجية للجلسة الثالثة المكتملة. إذ تتفق الدعوة إلى تعزيز الأمن الاجتماعي مع اقتراح الجلسة المكتملة الثالثة بتخصيص 30% من أرباح الشركات المملوكة للدولة لتمويل برامج شبكات الأمان مثل معاشات التقاعد والرعاية الصحية. وعلى نحو مماثل، يتفق التركيز على "الدور الحاسم" للأسواق في رفع مستوى البنية الصناعية في الصين والتخلص من القدرة الفائضة مع هدف الجلسة المكتملة الثالثة المتمثل بتحقيق التحول الاجتماعي القائم على السوق.

ولكن ما قد ينشأ من كل هذا يشكل مثالاً آخر للنهج العتيق في رسم السياسات الاقتصادية الصينية- اقتراحات ومبادرات وأهداف لا حصر لها ولا ارتباط بينها إلا بشكل سطحي في أفضل تقدير، وتعاني تناقضات داخلية غالباً. والآن هناك احتياج إلى نهج جديد، وسوف يتطلب الأمر ثلاثة تغييرات رئيسة في إطار السياسة الاقتصادية في الصين:

فأولاً، يتعين على السلطات الصينية في إطار محاولاتها الرامية إلى مجاراة أفضل الممارسات العالمية أن تكون أكثر وضوحا (أكثر شفافية) في تحديد أولويات أهدافها السياسية أو ترتيبها. والواقع أن وضع أجندات مختلفة على منصات متعددة- الخطط الخمسية، والجلسة المكتملة الثالثة، ومؤتمر العمل- يُعَد وصفة أكيدة للارتباك والتضارب المحتمل.

وثانياً، لابد من خفض أهداف النمو على نطاق الاقتصاد بالكامل، فمثل هذه الأهداف تشكل صفعة لتراث الاقتصاد الموجه من الدولة، وهو الإرث الذي يتعارض مع تركيز صناع السياسات الجديد على "الدور الحاسم" للأسواق.

وأخيراً، هناك احتياج إلى فصل أهداف الاستقرار عن الضرورات الاستراتيجية، فلابد من التعامل مع الأولى بواسطة بنك مركزي مستقل يتحمل المسؤولية الرئيسة عن السياسات النقدية وإدارة العملة، في حين لابد أن تكون الأخيرة من مسؤوليات المجموعة الرائدة المركزية الجديدة المعنية بالإصلاحات، والتي أنشأتها للتو الجلسة المكتملة الثالثة.

لقد ساعد التركيز التقليدي من صناع السياسات في الصين على استراتيجية طويلة الأجل في تمكينهم من تجنب العقبات الحتمية على الطريق إلى التنمية الاقتصادية، ولكن الآن، ومع استعداد السلطات لسلوك مسار جديد يهدف إلى تعزيز التقدم غير العادي الذي حققته الصين، فيتعين عليهم أن يتحركوا بسرعة من أجل تحقيق قدر أكبر من الاتساق في أجنداتهم السياسية.

* عضو هيئة التدريس في جامعة ييل، ورئيس "مورغان ستانلي" في آسيا سابقاً، ومؤلف الكتاب الذي سيصدر قريباً بعنوان "العلاقة غير المتوازنة: الاعتماد المتبادل بين أميركا والصين".

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top