مغامرات صحافي -ألماني في إسلام أباد

نشر في 26-10-2013 | 00:05
آخر تحديث 26-10-2013 | 00:05
غادر صحافي في «شبيغل» يتحدّر من أصول باكستانية وألمانية أخيرًا إسلام أباد بعد تغطيته الأخبار فيها طوال أربع سنوات. يصف في هذا المقال الحياة بين ثقافتين والصراعات التي سببتها له خلفيته خلال عمله كمراسل أجنبي في باكستان.
عندما تسنّت لي فرصة الانتقال إلى إسلام أباد عام 2009 للعمل هناك كمراسل لـ}شبيغل}، اشتعلت حماسة. فبما أنني أتحدّر من أصول باكستانية وألمانية، أتاحت لي هذه الخطوة فرصة اكتشاف البلد الذي أتت منه عائلتي.

مقارنة بالجالية الكبيرة المتحدّرة من أصول باكستانية في الولايات المتحدة وبريطانيا، نبدو نحن الألمان الباكستانيين مجموعة صغيرة. تقدّر الحكومة الألمانية أن نحو 80 ألف شخص في ألمانيا يتحدّرون من أصول باكستانية ويحمل نحو 50 ألف منهم جواز سفر. كذلك ولد بعضنا في ألمانيا، في حين انتقل إليها البعض الآخر قبل فترة قصيرة. ولكن رغم صغر عددنا نسبيًّا، نمتاز بتنوع يضاهي تنوع الشعب الباكستاني بحد ذاته، فباكستانيو ألمانيا قدموا من الأقاليم كافة. ويتجلى هذا التنوع أيضًا في إيمانهم، فمنهم التقي الملتزم ومنهم العلماني. ويعمل بعضهم سائقي سيارات أجرة، في حين أن البعض الآخر أطباء ومالكو متاجر.

لا يملك عدد من الألمان الباكستانيين المقيمين في ألمانيا روابط قوية مع بلدهم الأم، فكثيرون لم يزوروه مطلقًا، لكن قاسمًا مشتركًا يجمع بيننا جميعًا: تبدو الصورة التي علينا تقبلها عن بلد أجدادنا قاتمة. يرتبط اسم باكستان غالبًا بالإرهاب وحركة طالبان، القنابل والتفجيرات، الأوضاع السيئة والفَرَج البعيد. حتى عندما نتحدث إلى أناس في ألمانيا لم يسافروا مطلقًا إلى باكستان، نواجه هذه الصورة الكئيبة عن بلدنا الأم.

ألماني أم باكستاني؟

هل كانت مهمة تغطية الأخبار من باكستان أسهل بالنسبة إلي، مقارنة بأي مراسلين أجانب آخرين لا يتحدّرون من أصول باكستانية؟ نعم بالتأكيد. تمتعت بالأفضلية وببعض المزايا. لكن هذا الواقع صعّب علي مهمتي هذه، أحيانًا، لأن الحد الفاصل لم يكن واضحًا البتة. فكان السؤال {هل هذا الرجل باكستاني أم ألماني؟} يبقى عالقًا في أذهان الناس، خصوصًا عند التعاطي مع السياسيين. وبعد قراءتهم مقالتي، كانوا يبعثون إلي عادةً برسالة: عليك أن تكون أكثر تمسكًا بهويتك الباكستانية ووطنيتك.

نتيجة لذلك، كنت أجد نفسي عادةً في موقف دقيق. بصفتي صحافيًّا من واجبي أن أنتقد، لكن هذا أمر يُساء فهمه في باكستان ويُعتبر غالبًا شعورًا مناهضًا لباكستان وغير وطني، لا خطوة ضرورية تساهم في تحسين الوضع على الأمد الطويل. وبما أن الناس في إسلام أباد يرددون دومًا أن وسائل الإعلام الأجنبية هي المسؤولة عن صورة باكستان السيئة في الخارج، صارت تغطية الأخبار من البلد عملاً غريبًا جدًّا.

يقتصر هذا الطرح على الأسباب التي تدعم هذه الحجة. من المؤسف بالتأكيد أن عددًا من الصحافيين يحرصون على ذكر كلمات مثل {طالبان} و}إرهاب} في كل مقال يكتبونه عن باكستان، حتى لو كانوا يتناولون مواضيع مثل الكريكت أو الأدب أو الفراشات في كلكت-بلتستان. فالكتابة عن باكستان من دون ذكر طالبان أو الإرهاب غير واردة في رأي مراسلين كثر. نتيجة لذلك، ينتهي بهم المطاف إلى رسم صورة بالأبيض والأسود عن بلد كثير الألوان والتعقيد.

التطرف مشكلة كبيرة

لا نستطيع إنكار أن باكستان تواجه مشاكل كبيرة، مثل التطرف، قمع الأقليات، والإرهاب بالتأكيد. قد يميل البعض إلى اعتبار أن هذا الخطر مبالغ فيه ولا يؤثر حقًّا في حياة الناس اليومية. إلا أن الوقع يؤكد العكس. لكن الإنسان يعتاد هذه المشاكل بمرور الوقت. تكثر الحواجز على الطرقات، وترى رجال الاستخبارات، الذين لم يحسنوا التنكر، جالسين في ردهات الفنادق والأماكن المكتظة، حيث يمررون الوقت ويراقبون أي تطور مريب. حتى دخول فندق يتطلب الخضوع لعملية تفتيش شبيهة بما نراه عادة في المطارات. كذلك تشاهد الأسلحة، الكثير منها، أينما نظرت.

لا شك في أن هذا الوضع غير طبيعي، ولكن بعد بضع سنوات من العيش في البلد، تبدأ بتجاهله. تتعلم ألا ترى الأسلحة. صرت أرحب بكل عمليات التفتيش والمسح والتحقيقات. ولكن حين كان الناس يحضونني على ألا أبالغ في تصوير دور الإرهاب، كنت واثقًا من أنني لم أفعل. أدركت من البداية أن البلد الذي أقيم فيه كان إما آمنًا جدًّا أو بالغ الخطورة.

لا شك في أن في باكستان أخبارًا أخرى بعيدة كل البعد عن الإرهاب، أخبارًا عن الحياة اليوم يجهلها قرائي في ألمانيا تمامًا، منها الحياة العائلية في هذا البلد، الفهم المختلف تمامًا للوقت والبطء والسرعة، والطرق التي تتمكن، من خلالها، المشاريع العائلية الصغيرة من الاستمرار. كتبت عمودًا عن هذه المسائل كافة، وقد حظي بكثير من القراء والتعليقات. صحيح أنني لم أغطِّ هذه الأخبار من منظار سلبي، إلا أنني لم أحاول تجميلها أيضًا. ومن المؤكد أن الأخبار السلبية كثيرة، مثل انقطاع الكهرباء الكارثي، النقص في إمداد الغاز، التضخم المرتفع، ومخاطر غياب نظام يُعتمد عليه في مجالَي الرعاية الصحية والتعليم.

أتمنى لو أنني تمكنت من التنقل أكثر في أرجاء باكستان، لكن الصحافي الأجنبي يحتاج إلى إذن خاص ليزور عددًا كبيرًا من المناطق. يُدعى هذا الإذن {ترخيص عدم ممانعة}، تعبير سمعته للمرة الأولى في باكستان. ولطالما تساءلت: ما قد يكون سبب الممانعة؟ ماذا تريد باكستان إخفاءه؟ فيأتني الجواب: {هذا حفاظًا على أمنك وسلامتك}. لكنني لم أقتنع به يومًا. فالسبب في رأيي قمع حرية التنقل وتغطية الأخبار.

بصفتي ألمانيًّا متحدرًا من أصول باكستانية، تعود جذوري إلى هذا البلد، وأحبه، رافقتني زوجتي إليه وأمضى ولدي سنواته الأولى في إسلام أباد. ولو لم أحب باكستان، لما أمضيت فيها أربع سنوات. رغم ذلك، أرى أن الأمور تسير في الاتجاه الخاطئ هنا. فبدل توجيه أصابع الاتهام نحو الآخرين وإلقاء اللوم عليهم، واعتبار أنهم يشوهون صورة باكستان، على الناس صبّ اهتمامهم على إيجاد الحلول. وتقوم الخطوة الأولى نحو الحل على الانتقاد وتحديد مشاكل البلد بصراحة وصدق. أما الخطوة الثانية، فتقضي بمعالجتها.

وما لم تحقق باكستان هاتين الخطوتين، فلن يفخر الألمان الباكستانيون يومًا بتصنيف مؤسساتهم مطاعم باكستانية.

`

«اللعنة عليها»

يميل معظم مالكي المطاعم الباكستانية في ألمانيا إلى تصنيف مؤسساتهم على أنها {مطاعم هندية} أو منحها أسماء طنَّانة لا دخل لها بجذورهم، ما يعطينا لمحة عن مدى سوء سمعة باكستان. فيبدو لك أن الألمان الباكستانيين يقولون: {باكستان. اللعنة عليها. لا نريد أي علاقة بها}.

أمضيت في باكستان سنة واحدة خلال طفولتي. وكان قد مرَّ على مغادرتي هذا البلد أمد بعيد، حين سافرت إليه لأعمل مراسلاً ل{شبيغل}. لذلك بدت لي وجهة غريبة بعيدة أمضي فيها عطلتي، خصوصًا ألا أحد من أصدقائي في المدرسة أو من عائلتي فكر في السفر إلى باكستان لتمضية عطلة. كنت أمضي بضعة أسابيع، بين الحين والآخر، في زيارة بعض الأقارب في كاراتشي. أحببت المانغا والرحلات على متن عربة كثيرة الضجيج تجرها دراجة نارية. صحيح أنني كنت أتحمل قرص مئات الناس خديّ، إلا أنني لم أطق رائحة مياه الصرف الصحي، فقد سببت لي الغثيان.

قضت خطتي الأساسية بالانتقال إلى دلهي في الهند، حيث أعمل كمراسل {شبيغل} لجنوب آسيا. سبق أن غطيت الأخبار من الهند، لكن عندما طلبت الموافقة على عملي هذا، رفضت الهند من دون تقديم أي توضيح. وكانت هذه المرة الأولى التي أشعر فيها ما يعنيه تحدُّر المرء من جذور باكستانية. فتصبح أصولك الوجه المحدد لهويتك.

نتيجة لذلك، اخترت إسلام أباد. ويا لها من مكان! كانت مدينة خُطط لها بدقة ولم يسمح لها بعد ذلك بأن تخرج عن السيطرة. كثرت فيها المساحات الخضراء الغضة والتلال الجميلة وهندسة الباوهاوس (Bauhaus). وسرعان ما أدركت أنني أستطيع الاختلاط بالناس من دون أن يميّزوا في الحال إنني أجنبي. كذلك أمكنني السفر إلى أماكن تُعتبر محظورة عادة على الغربيين. وعندما أتقنت اللغة الأردوية التي تعلمتها في صغري، صار بإمكاني التحدث إلى الناس.

back to top