زوجات فوق البركان

نشر في 05-07-2014 | 00:01
آخر تحديث 05-07-2014 | 00:01
يتدخل القدر ليفتح طرقا جديدة للبشر، أحياناً بشكل إيجابي ومرات بشكل سلبي، لكن حوادث الطرق ربما تكتب نهايات حزينة لقصص حب مشتعلة ومرات تفتح صفحات جديدة وتجعل ما كان مستحيلاً قابلا للتحقق على أرض الواقع. في السطور التالية نكتشف كيف تدخل القدر ففتح طاقة أمل لشيرين لتتزوج حبيبها، قبل أن يتدخل ثانية ليفرق بينهما، في حين كان القدر أكثر رحمة بالجميلة سهير، التي التقت بحبيب العمر في لحظة فارقة من عمرها فأعادت وصل ما انقطع، وكللت قصة حب لعشر سنوات بالزواج.
فراق بأمر المحكمة

كاد عم ناصف يفقد عقله واتزانه للمرة الأولى في حياته منذ أن اختفى حفيده الوحيد عصام. أسبوع كامل «لا حس ولا خبر» للحفيد، انقطعت أخباره ولا أثر له في الأماكن المحتمل تردده عليها، لم يترك الحاج ناصف مستشفى أو مشرحة أو قسم شرطة إلا وتردد عليها بحثاً عن عصام. توقع البعض أن يكون عصام مخطوفاً، لكن الجد رفض الفكرة من أساسها، فلا عداءات له ولا خصومات مع أحد، بل كانت سيرته في الأسواق كسمعة الورد الأحمر في بلاد اليونان.

تكهن البعض بأن عصام ربما غضب من سلوك ما من جده، إلا أن الجميع استنكروا الاحتمال فالعلاقة بين الجد وبين الحفيد من أعظم قصص الحب الإنسانية فوق أرض هذه البسيطة. الخبثاء قالوا إن عصام غاضب من زواج جده من شيرين، تلك الشابة الجميلة التي ستنال نصيباً كبيراً من ثروة وميراث الجد. فقد كانت الثروة كلها من نصيب عصام، قبل أن تصبح شيرين ضيفاً شرعياً له كلمة وحقوق ومكانة بين الجد وحفيده.

ساءت صحة الحاج ناصف والتزم بيته وأهمل شركته وأعماله التي عاش حياته لأجلها، أعياه البحث وأضناه الغياب وعذبته الذكريات. يعلم الجميع أن الحاج ناصف جبل لا يهتز، عبر كل الأزمات والمحن والكوارث بقلب أسد جسور، لم ينتقم ممن ظلموه ولم يضعف أمام من حاربوه ولم يتنازل للذين ساوموه أو حاصروه أو قذفوه بالبارود. لكن غياب عصام أمر آخر، فجيعة كبرى، الدنيا من غير عصام جحيم يحرق حياة الجد، الثروة الهائلة إن لم تكن لعصام فهي إفلاس وقحط وجفاف، الأصدقاء والدنيا لن يعوضوا الرجل الغني عن حفيده الوحيد.

 ذات ليلة وبينما الحاج في سريره يقتات من ذكرياته ودموعه تتهادى وصل إلى سمعه صوت أغنية، وهو الذي لم يعرف سابقاً اسم مطرب أو أغنية، كان صوت شادية ينبعث من راديو أو شريط مسجل قريب وكأنه يغني للحاج وحده، {ده إحنا من غيرك ولا حاجة، وناقصنا كام مليون حاجة}. بكى الجد كالأطفال وراحت شيرين تجفف دموعه وهي تهمس في انكسار: {ربما أكون أنا السبب، عصام لم يفعل هذا من قبل، أنا زوجتك من عام واحد يا حاج، وإن لم يكن يضايقك فأنا مستعدة للطلاق والتنازل عن كل حقوقي، ربما عاد عصام}.

أشاح إليها ناصف بيده، وفهمت من إشارته أن تتركه في خلوته، لكن كلمات شيرين ظلت تتراقص أمام عيني الجد، ربما كان زواجه هو السبب، ربما خشي عصام على ثروته، ووجد الحاج نفسه ينهض من فراشه وهو يحدث نفسه بصوت مسموع ودموعه تتدفق فوق وجهه: {والله لو كانت شيرين السبب لأطلقها فوراً، مهما كانت مكانتها في قلبي}. وبينما الحاج غارق في تأملاته الجديدة دق جرس هاتفه، مفاجأة مذهلة، عصام على الطرف الآخر من المكالمة.

لقاء... فرحيل

اعتذار رقيق تقبله الحاج بلهفة وسأل: «أنت فين يا حبيبي؟ يعني عاوزني أموت يا عصام، ده أنت اللي خرجت بيه من الدنيا، عارف... عارف يا عصام أنا بأشوف فيك ولادي والمرحومة أمك والمرحومة ستك والماضي كله يا حبيبي، أنت فين؟ تعال وهانفذلك كل أوامرك».

لم ينطق عصام، طمأن جده أنه موجود في الإسكندرية، صارحه بأنه أسس شركة صغيرة للغاية وسيحضر في الغد لاصطحابه لرؤيتها. فرح الجد بالمكالمة والخبر، لكن لم يكن مرتاحاً لما وراء الحكاية. لماذا لم يصارحه عصام منذ البداية، لماذا أخفى عليه خبر السفر، لماذا لم يكتف بشركة جده وهي من كبريات شركات السوق. أسئلة كانت كأنها طلقات سلاح آلي في عقل الجد لم يرحمه منها سوى تسلل الفجر من ظلمة ليلة تأبى على الرحيل وكأنه دهر كامل، نادى على شيرين، هرولت إليه، زف إليها الخبر، تهلل وجهها ولمعت عيناها ببريق ساحر.

في الصباح حضر عصام وسط زفة من أحباب وأصحاب الحاج ناصف، الذي راح يوزع جنيهات ذهبية على كل من يقابله أو يهنئه أو تقع عليه عيناه من فرط فرحته. لحظات وركب الحاج وحفيده وشيرين السيارة الفارهة التي انطلقت إلى الإسكندرية. لكن يبدو أن ما لا يخطر على بال الإنسان يكون أحياناً هو الواقع الذي يهرب منه، حادث مروع لسيارة الثلاثة في منتصف الطريق، داخل المستشفى أعلن الأطباء عن معجزة من القدر، نجا عصام وشيرين ومات الحاج ناصف.

غادرت شيرين المستشفى إلى بيت أسرتها، وشفي عصام واستغرقته أحزان الفراق الكبير، شعر أن ظهره تكسر وأصبح بلا حائط بعد فراق الحاج ناصف، شعر باليتم للمرة الأولى رغم كونه في الخامسة والعشرين من عمره، اعتكف في بيته هو أيضاً وباشر أعمال الشركة من حجرته، كان يتخيل أن جده سيعود يوماً، سيراه في حجرته يغطيه في عمق الليل، سيجاوره فجأه على مقاعد المائدة ليتبادلا الضحكات وهما يأكلان كسابق عمرهما كله. لكن خبراً مذهلاً أخرج عصام من صومعة الحزن، شيرين فور انتهاء مدة الحداد تزوجت من رجل آخر وأصرت على الحصول على نصيبها في الميراث كاملاً غير منقوص. بكى عصام في تلك الليلة التي طالت به أكثر مما طالت ليلة فراقه لجده للمرة الأولى.

اكتمل عام على فراق الحاج، عاد عقل عصام إليه، خرج إلى عمله أكثر حماسة، أيام وفوجئ بما لم يتوقعه، شيرين تحضر لزيارته و تصارحه بالسر الرهيب:

{أعرف أنك كنت تحبني وكنت أيضاً تقرأ حبي لك في عيني، أعرف أنك فضلت الهروب من بيت جدك حتى لا تخونه، أعرف كل هذا. أعذرني، لم يكن أمامي سوى أن أتزوج بعد وفاة الحاج ثم أطلق حتى تتمكن من الزواج مني شرعاً. خذ هذه الورقة. أنها توكيل رسمي لك بإدارة نصيبي من التركة الذي لم ينقص مليماً. أنا لا أريد غيرك، لا مال الدنيا ولا كنوزها تعوضني عنك، المعجزة الحقيقية حدثت كي أصبح من نصيبك، وتكون أنت نصيبي}.

لم ينكر عصام الأمر بل  أكده، فطال الحوار وامتد وتشعب، وسارع عصام يطلب من شيرين يدها فوراً. مضت الأشهر في ترتيبات الزواج الأسطوري وليلة الزفاف، التي تمت فعلاً في حفلة تحاكى به الناس وتجار السوق وعشاق المدينة الذين حسدوا العريسين على ليلتهما الدافئة. انتهى شهر العسل، وجاءت الأيام بمفاجأة جديدة، أحد أقارب شيرين الحاقدين عليها، أقام دعوى تفريق بينها وبين عصام، وقال أمام المحكمة وهو يطالب بإبطال هذا الزواج إنه لا يجوز شرعاً للحفيد أن يتزوج امرأة جده، ورد دفاع عصام بأن زوجة الجد تزوجت من آخر بعد وفاة الجد، وبالتالي لم تعد أرملة الجد وإنما مطلقة شخص آخر.

أخيراً كانت المفاجأة؛ قضت المحكمة ببطلان زواج عصام وشيرين عملاً بقوله سبحانه وتعالى: «ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم من النساء إلا ما قد سلف»، وأنه لا يترتب على زواج أرملة أو مطلقة الجد من شخص أخر بعد انفصالها عن الجد بالموت أو الطلاق أي نتائج مختلفة فالتحريم هنا على وجه التأبيد. هزت دموع الزوجين كل الحاضرين في المحكمة وخرجا لا تقوى أقدامهما على حمل كل منهما، كانا أشبه بمن يسير في جنازة بعد أن قتلت المحكمة حبهما.

الحب الذي كان

حادث مروع... سيارة طائشة يقودها شاب متهور، أدت إلى فوضى كبيرة فوق أحد أشهر جسور القاهرة. اصطدمت سيارتان في اللحظة نفسها التي مرَّت بينهما سيارة الشاب الطائش، تجاوزت إحدى السيارتين سور الجسر في طريقها إلى السقوط، يشيعها صراخ وعويل، يدوي صوت ارتطام شديد يهزّ المكان، تتناثر بعده أجزاء السيارة، ويتوقف الزمن لحظات من هول الحادثة.

فوق الجسر انشغل المارة بالسيارة الثانية التي ارتطمت أيضاً بسور الجسر ولكنها لم تسقط. اندفع الناس إلى داخل السيارة التي تعرضت مقدمتها للتلف، فوجئوا بسائق السيارة ينزف بشدة، حملوه إلى خارجها بصعوبة، لكنهم اكتشفوا أنه فارق الحياة. المفارقة التي أدهشت الجميع أن سائق السيارة التي سقطت من أعلى الجسر، خرج حياً وإن كانت إصابته تشير إلى خطورة، استدعوا سيارة الإسعاف، التي وصلت سريعاً، حملت المصاب المجهول إلى المستشفى الكبير.

أدخلوه حجرة الجراحات في سباق محموم مع الوقت، إحدى الممرضات تسلمت الأمانات التي تحفظت عليها سيارة الإسعاف ومن بينها الهاتف المحمول للمصاب، لحظات وعثرت الممرضة على آخر رقم كان المصاب يتحدث مع صاحبه، طلبت الممرضة الرقم، ردت سيدة على المكالمة بلهفة، تحولت سريعاً إلى صرخة وهي تسمع خبر الحادث من الممرضة، ارتدت ملابسها على عجل وهرولت إلى سيارتها ثم انطلقت بها تنهب الطريق نهباً نحو المستشفى الكبير، انهمرت دموعها كالسيل وهي تتذكر آخر كلمات زوجها في المكالمة الأخيرة قبل لحظات من الحادث: {أنا حاسس إني ماكلتش من سنة... جعان قوي يا سهير. ووحشتيني وعندي ليك خبر هيفرحك قوي... استنيني}.

عاصفة من الحزن اجتاحت قلب سهير وهي تدخل من باب المستشفى كالمجنونة، اصطحبوها إلى الطابق الثاني، التف حولها بعض الأطباء والممرضين يهدئون من روعها، جلست إلى أقرب مقعد تلتقط أنفاسها بجوار حجرة الجراحات. طمأنوها على زوجها، خصوصاً أنه بين يدي أكبر جراح في المستشفى، اللحظات تمر ببطء، الأنفاس تتلاحق، وأعصاب سهير تحترق، يمضي الوقت وينفتح باب حجرة الجراحات، يخرج الطبيب الكبير، تندفع سهير نحوه، تتوقف فجأة، صدمة جديدة لم تتوقعها، تثور أعماقها وهي تدقق في ملامح الجراح الكبير.

 إنه أشرف؛ بطل أعنف قصة حب يمكن أن تعيشها امرأة، أشرف بطل الماضي الجميل الذي يمثل أروع سنوات عمرها، أشرف الذي كانت تستمع إلى اسمها فوق لسانه كما يستمع عشاق الموسيقى الألمان إلى سيمفونيات بيتهوفن. كانت أيامها تصارحه بأن هيامها بالموسيقى الكلاسيكية هو الذي يجعلها تعتبره بيتهوفن حياتها، لكنها لم تصارحه أبداً بمشاعر الخوف التي كانت تنتابها بين حين وآخر بأنها قد تكون مثل السيمفونية الناقصة، وهي آخر سيمفونيات بيتهوفن التسع، التي مات قبل أن يكملها، رغم أن الموسيقار العالمي أطلق عليها سيمفونية القدر!

ها هو الدكتور أشرف وجهاً لوجه أمام سهير على باب حجرة الجراحات حيث يرقد زوجها، ارتبكت سهير بشدة، لم تره منذ 11 عاماً سافرت خلالها مع زوجها أنور إلى الخارج، وها هو الآن الزوج بين يدي الحبيب في صراع الموت والحياة.

تاهت الكلمات فوق لسان الجراح وحبيبة الماضي، لكن سرعان ما تمالك كل منهما نفسه، أبلغها أشرف وهو يتحاشى لقاء عينيها أن الجراحة الدقيقة قد نجحت من حيث المبدأ، لكن شبح الخطر مازال قائماً، دعاها إلى حجرته في خجل، وافقت على استحياء، جلست أمامه يكسو الحزن ملامحها، حاول أن يخفف عنها، انفجرت باكية، تقدم منها، أخرج منديله، مسح دموعها مثلما كان يفعل في الماضي، اهتزت بشدة، همست له في خشوع وكأنها تستجديه:

{أريده أن يعيش، أنا حامل يا أشرف بعد سنوات طويلة كنت فيها أنا وهو ندعو الله ليل نهار أن يرزقنا بطفل، لم ترتبط به مشاعري إلا حينما عرفت أنني حامل، أما عقد المأذون فلم يكن سوى زواج فوق الأوراق الرسمية. الآن فقط أتمنى لو عاش من أجل طفله}.

مضت ثلاثة أشهر وأنور تحت الرعاية الطبية المكثفة، فاقداً للوعي، أما سهير فقد انقلبت حياتها رأسا على عقب. لم تعد تدري إن كانت تقيم في المستشفى مرافقة لزوجها الذي لا يدري بما يدور حوله، أم تقيم من أجل القرب من حبيب القلب، أشرف الذي أعاد إليها الوعي العاطفي المفقود، طالت الحوارات بينهما، اجترا شريط الماضي، ذكرها أشرف بأنه لم يتخل عنها، ودافعت عن نفسها بأن والد أنور صاحب النفوذ الكبير كاد أن ينتقم من الجميع لو لم يتم زواجها من ابنه.

سألته عن حياته بخبث النساء اللاتي يغلفن كلماتهن بحسن النوايا، وأجابها أشرف بوضوح يتناسب مع إدراكه لهدف سؤالها:

{تزوجت من امرأة جميلة ذات حسب ونسب، لكنها كانت مثل فاكهة الصوب، شكل رائع، لكن بلا طعم ولا لون ولا رائحة. لم نستمر طويلاً لأنني لم أتزوجها عن حب، الحب هو السلاح الوحيد الذي يحمي {زوجات البيوت الزجاجية}، طلقتها وعدت أعيش على ذكريات الماضي}.

لم تعلق سهير، لكنها فهمت الرسالة وأدركت الإشارة، وصارت نهباً لصراع الرجال الثلاثة، زوجها وحبيبها وطفلها الذي أكدت الأشعة أنه ذكر. لكن الصراع لم يدم طويلاً، تدخل القدر ففارق أنور الحياة. ساءت حالة سهير النفسية والجسدية، ليصر أشرف على بقائها في المستشفى، وتمر الأيام، وفجأة ذات ليلة، تصرخ سهير من الألم، يحملونها إلى حجرة الجراحات لتضع مولودها، حينما تفيق يسألونها عن الاسم الذي تختاره لوليدها، من دون تردد تجيب: {أشرف}.

بعد شهرين بالتمام والكمال يزورها الجراح الكبير للمرة الرابعة في شقتها، تستقبله بترحاب كبير فليس في الدنيا كلها عزاء لامرأة فقدت زوجها إلا هذا العزاء الذي يقدمه حبيبها. إلا أن أشرف يصر على أن يتم زواجهما في الليلة نفسها، فلم يعد في العمر ما يستحق أن يضيع مجدداً. توافق سهير ويثور والدها الذي يكره أشرف كراهية التحريم، يرفع دعوى أمام المحكمة يطلب التفريق وبطلان زواج أشرف وسهير لأنه تم في فترة العدة من وفاة زوجها.

رفضت المحكمة طلب الأب تأسيساً على القاعدة الشرعية بأن عدة الحامل تنتهي بوضع حملها، وبالتالي يكون زواج سهير من أشرف صحيحاً، وهكذا نجت سهير من حكم التفريق، وكانت الأحسن حظاً فقد فقدت رجلاً وكسبت اثنين، أحدهما حبيب الماضي وزوج الحاضر، والثاني حبيب الحاضر وإلى الأبد؛ ابنها.

back to top